الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

سامية البحري تحاور عبد النبي الشراط: 1- عن الحب والعشق والحرية داخل السجون والمعتقلات

 
 
في هذا الجزء الأول من الحوار المطوّل، تستعرض الشاعرة والناقدة التونسية سامية البحري، مع الإعلامي والكاتب المغربي عبد النبي الشراط صفحات مثيرة تركّز على الجانب الشخصي والذاتي للمحاوَر...
 
سامية البحري: هو مناضل يحمل قلما بندقية، وقناص ماهر يصوّب في كل الاتجاهات يوجّه فيصيب فتسقط ألف ضحية، ينحاز للمقهورين والمهمشين، ويكتب وينحت في الصخر من أجل الحفاة والعراة الذين سرق اللصوص منهم الزاد والمأوى والماء والهواء وحوّلوهم إلى جذوع خاوية يعوي فيها الجوع والخواء والفقر والقهر والغبن، إنه الكاتب المبدع الإنسان عبد النبي الشراط...
الكاتب الصحافي عبد النبي الشراط أهلا وسهلا بكم..
هل لنا أن نطل من بعض نوافذه عن عالمه الداخلي؟ النشأة /الزواج/ تجربة الأبوة وتفاصيل لا نعرفها؟
 
عبد النبي الشراط: بداية أتقدم إليك سيدتي بالشكر الجزيل والامتنان العميق لفتحك هذه الصفحات البسيطة من حياة شخص طالما اعتبر نفسه أنه مقصر بحق الوطن والأمة، لأنه لم يستطع أن يقدم شيئا.. بالرغم من المعاناة والإرهاصات والمناوشات التي طبعت حياتي المتواضعة، كما أتقدم بالشكر لهذا المنبر المميز ناشر هذه المشاحنات..
 
بخصوص سؤالك، ولدت في منطقة نائية جدا، هي منطقة جبالة شمال المغرب، وهي منطقة نسميها جغرافيا في المغرب بمقدمة جبال الريف.. أتحدّر من أسرة بسيطة جدا، وأنا (الطفل) الأخير ضمن سبعة إخوة وأخوات أشقاء.
 
والدي، رحمه الله، يتحدّر من سلالة ينتهي نسبها إلى الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، ووالدتي ينتهي نسبها إلى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.
 
ارتبطت بوالدتي، رحمها الله، ارتباطا شديدا، وتعلمت منها القوة والصبر والتحدي.. جدي لأمي، رحمهما الله، كان قائدا عسكريا مع الأمير المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، رحمه الله، خلال الاحتلالين الفرنسي والإسباني للمغرب، وكان جدي القائد العربي الصغير بمثابة حاكم في منطقتنا، حيث كان يرجع إليه كل الناس في شؤونهم وخلافاتهم، وكان معروفا بالشدة في مناصرة الحق والوقوف مع المظلومين حتى أن أحد سلاطين الدولة العلوية بعث إليه ذات مرة يطلب منه بكل احترام عدم التضييق على أحد الأعيان ومعاملته بما يليق به من تقدير لأنه ينتمي نسبا إلى الصحابي عثمان بن عفان، وما زال ضريحه لحد الآن في المنطقة. لقد كان جدي لا يفرق بين الشريف والفقير، ولذلك نفته السلطات الاستعمارية الفرنسية من منطقة قبيلة بني زروال، التي كانت تحت النفوذ الفرنسي، إلى منطقة قبيلة بني احمد التي كانت تحت النفوذ الإسباني... ومن هذا الجد العظيم، الذي لم يكتب لي القدر رؤيته، أستمد كل قوتي..
 
وبخصوص الزواج، فقد تزوجت مرتين، ثم أنهيت عهدي بهذه المؤسسة، التي طالما أسميها بالمؤسسة الفاشلة.
 
حينما أذهب إلى مسقط رأسي، أزور قبر والدتي، أتحدث إليها وأقص عليها ما يجري في الحياة بعدها، ولا أشك أنها تسمعني وتواسيني، وحينما أكون في الرباط موقع عملي، أزور باستمرار قبر ابنتي نضال، وبدورها أحكي لها كل التفاصيل، وفي كل هذه الزيارات لا أستطيع أن أنتصر على البكاء
 
أنجبت طفلتين (جهاد ونضال). كل واحدة من أم. ابنتي الأولى متزوجة وأنجبت لي حفيدي علي، أما الثانية، فقد أخذها الله إلى عليائه، وكانت صدمة ثقيلة بعد وفاة أمي ما زلت أعيش عذاباتها إلى اليوم والحمد لله على قضائه وقدره وإن كان قاسيا..
 
ابنتاي معا، كانتا صديقتين ولم أمارس في حياتي عليهما الشدة والقسوة، بل كنت دائما أحاول أن أكون صديقهما المقرب.
 
سامية البحري: الأم والبادية والمنزل القديم والبئر وذكريات الطفولة وظلال شجر الزيتون... حدثنا عن هذا الزمن الجميل...
 
عبد النبي الشراط: كان زمنا جميلا حقا رغم تعاسة العيش في البادية حيث كانت تنعدم أدنى شروط الحياة، وقد حاولت أن أحافظ على بيت والدتي، رحمها الله، إكراما لروحها العظيمة، وعملت على تجديده مع الاحتفاظ بالمعالم التقليدية للبيت الأصلي.. وما زلنا نجتمع فيه نحن الإخوة والأخوات في جميع المناسبات..
 
سامية البحري: الفقد والموت أراه خيانة لابد منها، نحن نخون إذ نموت، ويخوننا الذين يموتون ويتركون في القلب حرقة ولوعة... فقدان الأم ثم البنت جراح عميقة، كيف عاشها الشراط، هل استطاع أن ينتصر على الحزن والألم، وهل ضمد الزمن الجراح؟؟
 
عبد النبي الشراط: قد يكون هذا السؤال هو الأصعب في هذه المحاورة، لكنني أشرت لمضمونه في سؤال سابق، فقط أضيف أنني لم أنتصر على الحزن، بل هو الذي سجل ويسجل انتصاراته عليّ، وقد قبلت بالهزيمة راضيا، لم أهزم في حياتي أبدا، حتى حينما كنت داخل أسوار السجون والمعتقلات، لكنني أعترف أن الحزن وحده من هزمني..
 
حينما أذهب إلى مسقط رأسي، أول عمل أقوم به زيارة قبر والدتي، أتحدث إليها وأمامها في كل شيء، وأقص عليها ما يجري في الحياة بعدها، ولا أشك أنها تسمعني وتواسيني، وحينما أكون في العاصمة موقع عملي، أزور باستمرار قبر ابنتي نضال، وبدورها أحكي لها كل التفاصيل، وفي كل هذه الزيارات لا أستطيع أن أنتصر على البكاء، كما لا أستطيع كبح دموعي الآن وأنا أجيب بهذه الكلمات الحزينة.
 
بالمناسبة، يوجد قبر شقيقي بمدينة فاس، وهو الثاني في سلسلة الإخوة الأشقاء، وبدوره أعرج عليه من حين لآخر، وكان أخي عبد الوهاب، رحمه الله، توفي إثر حادثة سير مميتة ذهب ضحيتها سبعة أشخاص دفعة واحدة كان ضمنهم شقيقي رحم الله الجميع، ورحم الله أموات الإنسانية جمعاء.
 
سامية البحري: نخرج من عالم الأحزان والآلام إلى عالم الحب والحلم، وقد بدأت حواري معكم بهذا الباب لأنني أرى الألم الدافع للإبداع والتأمل في هذا الوجود، فشكرا على رحابة صدرك، وشكرا على هذا السفر في رحاب الوجع بكل مصداقية ونقاء...
الحب.. أنا أقول عن الحب إنه قطعة شهد ظلت معلقة في السماء وعندما اشتدت حرارة القلب سقطت منها قطرات في رحم الأرض حتى تستقيم ولا تميد أو تغرق أو تفيض أو تحترق... فالحب هو الجاذبية التي تشد أوتاد السماء والأرض حتى لا تطبق بعضها على بعض...
فماذا يقول الشراط وقد عاش تجربة عميقة؟
 
عبد النبي الشراط: في سنوات الشباب، كسائر خلق الله، أي خلال سنوات التمرد على الأمر الواقع، كنت تعرفت على عشرات الفتيات في سني، لكن واحدة منهن استطاعت أن تخطف قلبي كاملا، وقد عشت سنوات على هذا الحب الكبير، الذي لم أستطع التخلص منه بالرغم مما جرى..
 
سامية البحري: لو سمحت، أستعيد معك في هذا السؤال، وأعتذر عن الإطالة في طرحه، مقتطفين لديهما معا وقع قوي:
الأول هو إهداء الطبعة الأولى من (عقبات وأشواك) جاء فيه: "إلى التي تحدّت معي الظلم وسلكت معي طريقا مليئا بالأشواك، جمعت بيننا المبادئ وفرقتنا قسوة دروب الحياة ومتاهاتها، كان هدفنا الوحيد أن نلتقي فلم نلتق"...
إنه إهداء إلى رفيقة درب وشريكة فكر، لكن عز اللقاء.. فهل مات الحلم والهدف أم كبر وتحول إلى أهداف أخرى؟
الثاني، جاء فيه: "(ليس من حق أي امرأة في هذا العالم أن تحبك أنا التي من حقي أن أعشقك).. من رسالة لها إليه عام 1984حيث كان يؤدي ضريبة أفكاره ومبادئه بأحد سجون المملكة..
إنها كلمات مقتطفة من رسالة لا أجد لها توصيفا.. ما أثر هذه الرسالة فيك بالأمس واليوم وغدا؟
 
عبد النبي الشراط: لا أنكر أنني كتبت روايتي أو سيرتي الوجدانية المعنونة: (عقبات وأشواك) لتكون هدية للتي أحببت، ولذلك كان ذلك الإهداء لها، سواء في الطبعة الأولى أو الثانية، ففي الطبعة الثانية كتبت: (لها فقط)..
 
حينما اعتُقلت سنة 1983، كتبت لها رسالة من داخل السجن طلبت منها أن تختار حياتها مع شخص آخر، لأن عبد النبي الشراط مهدد دائما ومعرض للاعتقالات والسجون... فكان أن كتبت مجيبة: ليس من حق أي امرأة في هذا العالم أن تحبك أنا التي من حقي أن أعشقك
 
واستكمالا للجواب، فإن الحلمَ واقعٌ مات خلال رفض والدها لهذا الحب الذي أحسبه أنقى وأطهر حب بلا مبالغة، هذا ما يمكنني قوله دون الخوض في ما تبقى من التفاصيل احتراما لها شخصيا ولأسرتها الصغيرة، أما أثر الرسالة، التي ضمّنتُها في (عقبات وأشواك)، فإن مناسبة نزولها هي أنني حينما اعتُقلت نهاية سنة 1983، وقضيت بمخفر الشرطة أكثر من ثلاثين يوما قبل أن أقدم للمحاكمة، وحيث كان مصيري مجهولا، فقد كتبت لها رسالة من داخل السجن طلبت منها أن تختار حياتها مع شخص آخر، لأن عبد النبي الشراط مهدد دائما ومعرض للاعتقالات والسجون إلخ... فكانت منها هذه الرسالة الكبيرة جدا في معانيها، ولكن مع الأسف الشديد، منحتْ الحريةَ لنساء أخريات غيرها، ليقمن بالمهمة، مهمة الحب والعشق، وليس كما قالت إنها (لن تسمح لأي امرأة في العالم أن تحبني)، ولم تلتزم بوعدها، لأن الأمر كان فوق طاقتها.. كانت الرسالة حقا مؤثرة، وقد تحدثت في الرواية عن كافة هذه التفاصيل..
 
أما كيف يمكن لعشاق الحرية أن يشعروا بها حتى لو كانوا داخل السجون والمعتقلات، فإنني أعتقد أن السجان حين يغلق عليك الباب في زنزانتك، فإن هذا السجان هو الخائف وهو المرتعب، لأنه يخاف منك خارج وداخل السجن، السجان يحرسك والدولة تدفع له الأجر الشهري لحراستك، السجان يراقبك حتى لا تقوم بعمل يقلق الدولة، السجان يخشاك لأنك تطالب بالحرية وهو يخشى حريتك، السجان بئيس لأنه يعلم أن وظيفته تختلف عن بقية الوظائف الأخرى، هو يحرسك لأنه يخشاك، ولو كان لا يخشاك ما أغلق عليك باب الزنزانة، فضلا عن جميع أبواب السجن الأخرى.
 
الأنظمة كلها تخشى المعتقلين السياسيين لأنهم يكشفون عن عورات هذه الأنظمة، ويبينون للجماهير قسوتها وظلمها..
 
كنت أعتبر أن النظام ما سجنني إلا لأنه يخشاني، ولو لم يكن يخشاني ما سجنني..
 
هذا هو مفهوم (عشاق الحرية دائما أحرار حتى لو كانوا داخل السجون والمعتقلات).
 
عشاق الحرية دائما أحرار حتى لو كانوا داخل السجون والمعتقلات فالسجان يغلق عليك الباب في زنزانتك، لأنه يخاف منك خارج وداخل السجن، السجان يخشاك ويخشى حريتك، والأنظمة كلها تخشى المعتقلين السياسيين لأنهم يكشفون عن عوراتها ويبينون للجماهير قسوتها وظلمها
 
وبالعودة إلى الفقرة الأولى من هذا السؤال، فإنني أرى أن الإنسان يحيا بالإيمان، الإيمان بقضية ما يدافع عنها، ولعل أهم قضية يمكن للمرء أن يؤمن بها هي قضية الحرية. الحرية المسؤولة طبعا، وقد أكدت في (العقبات والأشواك) أن الحرية كانت وما زالت هي إيماني المطلق، فبالرغم من حالة الحب، التي كنت أعيشها وأقتات بنسائمها، فإن الأولوية كانت عندي دائما هي الحرية، ثم يأتي (الحب) في المرتبة الثانية.
 
وبين هذا وذاك، أعتقد أن أحلامي وُلدت ميتة، منذ إطلالة الشراط الأولى على الحياة، فقد رافقتني القسوة منذ النشأة الأولى، في مقدمتها: قسوة الوالد، رحمه الله، ثم قسوة النظام الظالم.. ولذلك. يلاحظ معارفي والمقربين مني أنني قاسٍ في كل شيء، ومع كل شيء، حتى مع نفسي.. والحلم الجميل يقتله الظلم الشنيع..
 
سامية البحري: الشراط عاشق الحرية وعاشق بهية، هناك مقتطف ثالث تقول فيه "عشاق الحرية أحرار دائما حتى لو كانوا داخل السجون والمعتقلات"، فما هي أهم مظاهر الحرية في السجن في تقدير الشراط؟ فسّر لنا هذا التقابل أن تكون حرا وأنت بين القضبان؟ وهل كنت تستمد كل هذا من الحب؟ هل بالحب نحيا ام بالخبز أم بهما معا؟ وهل يمكن أن تقبل الواقع بهذه الفلسفة (بالحب نحيا) في ظل واقع يفتقر إلى أبسط مقومات الإنسانية؟
 
عبد النبي الشراط: الأحداث التي يعيشها الإنسان، سلبيةً كانت أم إيجابيةً، يجب أن تدوّن، وبخصوصي فقد حاولت أن أدون الأحداث الرئيسية التي عشتها أو كنت شاهدا عليها أو مساهما فيها بشكل أو بآخر، وقد صدر لي الجزء الأول من هذه الأحداث تحت عنوان: (أوراق من ذاكرة متمردة) وسوف يصدر الجزء الثاني قريبا بمشيئة الله.
 
حاولت في هذه المذكرات أن أتخلص من الذاتية فما استطعت، لأن ذاتي هي من صنعت تلك الأحداث، بالتالي لا يمكن القول إن كتاباتي مثالية، لكن والله يشهد أنني ما سطرت فيها إلا الحق، وقد وضعت لنفسي حدودا خلال كتابة تلك المذكرات فلم أتعرض لحياة الناس الخاصة، بل دوّنت الأحداث السياسية والثقافية وغيرها وعلاقاتي المتعددة مع السياسيين والحكّام والسفراء ورحلاتي خارج أرض الوطن، وبطبيعة الحال ستكون تونس حاضرة في هذه المحاورة من خلال زيارتي الأولى لها سنة 2011، مباشرة بعد الانتفاضة الشعبية التي أسقطت نظاما قديما وأتت بأنظمة جديدة..
 
ترقبوا غدا الجزء الثاني من هذا الحوار الشامل...