حسن عين الحياة: هكذا اختار الملك للرباط مسرحا عالميا يليق بها
الكاتب :
"الغد 24"
حسن عين الحياة
مع تدشين المسرح الملكي الرباط، مساء الثلاثاء الماضي، من قبل الأميرة للا حسناء التي كانت مرفوقة ببريجيت ماكرون، حرم الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون، يصبح المغرب واحدا من الدول التي تتوفر على أكبر المسارح الحديثة في العالم وأجملها على الإطلاق، بالنظر إلى التصميم المدهش لهذه المعلمة الحضارية التي تفرد جناحيها على ضفة نهر أبي رقراق، بمحاذاة معلمتي صومعة حسان وضريح محمد الخامس وخلفية ساحرة لبرج محمد السادس الأعلى في إفريقيا.
اليوم، يمكن القول وبفخر، إن المغرب دخل عصرا آخرا للإشعاع الثقافي، من خلال هذه الأيقونة الساحرة التي أعطى الملك محمد السادس انطلاق أشغال إنجازها في أكتوبر 2014، حتى تكون رمزا للانبعاث الثقافي والفني للعاصمة الرباط، وأيضا لتحسين ولوج سكان المدينة وزوارها لبنيات التنشيط الثقافي والفني، في وقت كانت كل العروض الفنية الكبرى والتظاهرات الثقافية ذات الإشعاع الدولي مقتصرة على مسرح محمد الخامس.
وفي لمحة سريعة، إن المسرح الملكي الذي صممته المهندسة المعمارية العراقية -البريطانية الراحلة زها حديد (توفيت عام 2016)، كبير فعلا.. إذ شُيد على مساحة 7,1 هكتارا، منها 25 ألف و400 متر مربع مبنية، وتشمل المساحة في عمومها المنشآت والمرافق والمساحات الخضراء، وتضم مسرحا خارجيا كبيرا عبارة عن مدرج في الهواء الطلق يتسع لـ7000 متفرج، مخصص لاحتضان المهرجانات والتظاهرات الفنية والثقافية الكبرى. كما تضم هذه التحفة المعمارية قاعة للعروض بسعة 1800 مقعد، وهي أعجوبة في حد ذاتها، بالنظر إلى تصميمها الداخلي المدهش. ذلك أن فضاءها الداخلي يشكل ما يشبه لوحة تكعيبية ثلاثية الأبعاد. ففضلا عن خشبتها الفسيحة والعصرية والمزودة بأحدث التقنيات اللازمة للعروض الحية من إضاءة ومؤثرات صوتية، ثمة واجهات هندسية للجدران لاهبة للذوق، وأخرى مميزة للسقف المتحرك، ما يجعل هذه المعلمة الثقافية تحفة فنية، تعزز مكانة الرباط كعاصمة المغرب الثقافية.
وإلى جانب المسرح الخارجي وقاعة العروض، تضم أيقونة المسرح الملكي أيضا قاعة أخرى تتسع لـ250 مقعدا، مفتوحة لاحتضان كافة التجارب والتعبيرات الثقافية بأساليبها وأنواعها المتعددة والمختلفة. وبالتالي، يمكن القول إن المسرح الملكي الرباط، صُمم وشُيِّد لغرضين اثنين، الأول أن يحتضن مختلف العروض الفنية والمهرجانات والملتقيات الثقافية، مهما كان حجمها، وطنية أو دولية. والثاني، أن يكون رمزا للحداثة، من خلال تصميمه الفريد الذي يضفي لمسة عصرية على الهندسة المعمارية لعاصمة المملكة. وبالتالي، سيكون المسرح الملكي كمنشأة في حد ذاته، تحفة فنية ضمن محيطها على الضفة اليسرى لنهر أبي رقراق، تتراءى للسكان والزوار بما يسر الأعين. وفي الوقت نفسه فضاء تنصهر فيه أرقى التعبيرات الفنية المحلية والدولية.
وهنا ينبغي التأكيد على أن الفضل في انجاز هذه التحفة يرجع إلى الملك محمد السادس الذي حرص شخصيا على تشييدها في الرباط، وذلك من منطلق اهتمامه بالفن والثقافة في مملكة ظلت وماتزال مركزا ملهما للتنوع الثقافي.
في الوقع، إن المسرح الملكي الرباط، مرتبط وجوديا بالمسرح الكبير للدارالبيضاء، وإن كان الأخير قد سبقه من حيث الإعداد وبداية الإنجاز بـ5 سنوات، ذلك أن الأول انطلقت أشغال انجازه في 2014، والثاني بدأ كمشروع في 2009.. وفي هذه السنة تحديدا، كان الملك محمد السادس قد أمر بتشييد مسرح كبير في مدينة الدارالبيضاء، يكون قاطرة لتنمية الإنسان وإغناء الفنون الحية، حتى يساهم في الإشعاع الفني والثقافي للمدينة، وكان أن سهر شخصيا على تتبع تفاصيل المشروع منذ انطلاقه كفكرة أولا، ثم خلال مرحلة التنفيذ، قبل أن تتولد فكرة بناء المسرحي الملكي الرباط.
ذات مرة، كشف لنا نورالدين عيوش، رئيس مؤسسة الفنون الحية، والذي بالمناسبة كان رئيسا لمشروع المسرح الكبير للدارالبيضاء، تفاصيل دقيقة عن اهتمام الملك محمد السادس بتشييد هذه المعلمة الحضارية في العاصمة الاقتصادية للمملكة، وتحديدا في المكان الذي كانت تتواجد فيه "النافورة" القديمة بساحة محمد الخامس، قبل أن تنبثق فكرة تشييد مسرح آخر، بالحجم نفسه في الرباط.
في البداية، تكونت لجنة مصغرة ترأسها عيوش لدراسة مشروع المسرح الكبير للدارالبيضاء من كل جوانبه.. بعدها أجرت اللجنة مباراة دولية لإنجاز المشروع على أرض الواقع. آنذاك توصلت بالعديد من الطلبات، من فرنسا وهولندا وألمانيا وأمريكا ودول أخرى. وبالموازاة مع إطلاق مسابقة لاختيار المهندسين المعماريين لبناء المسرح، تم تشكيل لجنة أخرى للبث في الطلبات، وقد ترأسها الوزير السابق مولاي حفيظ العلمي الذي كان وقتها رئيسا للاتحاد العام لمقاولات المغرب. وخلال عملية فرز الطلبات، استقر الأمر على 3 مشاريع مقترحة لتصميم المسرح الكبير للداراليضاء. ساعتها بسط رئيس المشروع نور الدين عيوش أمام الملك محمد السادس المعطيات التي خرجت بها اللجنة، فشدد الملك على أن ينجز المشروع مهندسان، أجنبي ومغربي. وأن تُعطى لهما الأهمية نفسها، وأن يتقاضى كل منهما الأجر نفسه. بعدها، وضع الملك الثقة في عيوش لاختيار مشروع ضمن المقترحات الثلاثة التي وقع عليها الاختيار من قبل اللجنة التي بثت في عمليات فرز الطلبات. وبحسب ما قاله عيوش في حوار سابق مع "المنعطف"، فقد تمت العملية بشفافية، وبحضور موثق ومراقبين من الخارج وكلهم اعترفوا بمصداقية العملية، بحيث استقر رأي اللجنة على مصمم فرنسي (بورتزمبارك) ومغربي (رشيد الأندلسي)، قبل أن يقدم عيوش المشروع المختار للملك محمد السادس.
وعن هذه اللحظة، يقول عيوش "قدمت المشروع لصاحب الجلالة "عجبو شوية وماعجبوش بزاف"، وقال لي "للي عجبني هو هذا" أي تصميم المهندسة الشهيرة الراحلة "زها حديد"، وكانت قد شاركت به في مسابقة مسرح الدارالبيضاء، وعلى الرغم من ذلك احترم الملك اختياري... وبعد أسبوع تمت المناداة عليَّ للقصر، وقيل لي إن مشروع المسرح الكبير الذي أنجزته زها حديد سيتحقق في مدينة الرباط".
الآن أصبح المشروع حقيقة تسر الناظرين في الرباط، على أمل أن يفتتح المسرح الكبير للدارالبيضاء أبوابه، حتى يقوم بدوره في التنمية والصناعة الثقافية للمدينة. فشكرا لـ"سيدنا" على اهتمامه الكبير بالفن والثقافة، وهنيئا لنا كمغاربة بمعلمتين حضاريتين، هما الأجمل والأكبر في إفريقيا والعالم العربي.