الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم
شاعرنا الجميل الراحل محمد السكتاوي رفقة زوجته لطيفة وابنته ميسون

المحطة الأخيرة.. محمد السكتاوي في آخر قصيدة قبل الرحيل القاسي

 
التفاتة جميلة من ميسون السكتاوي، رحمة بوالدها السي محمد وبوالدتها للا لطيفة، وبنا نحن كل أصدقائه وخلانه ومحبيه، لعل ميسون تعرف جيدا أن رحيل والدها كان رحيلا قاسيا وجارحا، فتحاملت على نفسها وعلى ألمها وحزنها لتهدينا جميعا آخر قصيدة كتبها والدها، هذه التحفة التي عانقناها اليوم بمثابة عزاء لنا، فيما هي ووالدتها الأحق والأجدر والأجدى بالعزاء، صبرا جميلا ميسون ولطيفة، السي محمد سيبقى دائما معنا، وعزاؤنا فيه واحد... وفي ما يلي تقديم ميسون:
 
هذه آخر قصيدة كتبها والدي قبل رحيله. في كلماتها، يعبّر عن آخر تأملاته في الحياة والموت، حيث يلتقي الألم بالسلام في لحظاته الأخيرة. كانت هذه القصيدة بمثابة وداعه، يروي فيها سيرته الأخيرة بين الوجود والغياب. وهي بعنوان "المحطة الأخيرة"...
ميسون السكتاوي
 
 
المحطة الأخيرة
 
محمد السكتاوي

‎حينما اتصلت بي منذ أربعة أيام 
‎وتحدثنا لثوانٍ
كنت عاجزا عن الحركة تماما وقلبي يركض بعنف
مثل حصان جامح
وصلت قسم الإنعاش 
‎ومن حينها لا جهد لي على الحركة
‎وضعوني في السرير وبقيت كذلك
قالوا إن وضعك حرج
قلبك تمرد عليك
وأنت فقدت قدرة مسك اللجام
وقفز الحواجز 
‎وضعية حرجة جدا 
‎لأن القلب أمعن في تمرده 
وتضامنت معه الكلمات 
والخطوات والنظرات 
وفر الهواء من صدرك
وجف الماء في سواقي جسدك 
‎ لا شيء على ما هو 
‎والأطباء في حيرة من أمرهم
‎ ينتظرون الأسوأ
‎أما أنا فأحس أن ثقلا كبيرا يزول عني
‎وأتقدم منتشيا نحو محطة الراحة الأبدية
ففيها أيضا ما يمكن أن يقتنصه المرء
‎من سديم الوجود المطلق
بلا حلبة سباق 
أو خيول جامحة

حين اتصلتَ منذ أربعة أيام
صوتك تلاشى في ذاتي
كان قلبي يركض بعنف
مثل حصان جامح بلا لجام
وفي قسم الإنعاش
لم يجد عشبا أخضر ولا جبال ثلج
نحنح ورفع ساقيه عاليا 
فصار جسدي معلقا بين الريح
تربطه شبكة أسلاك
"وضعك حرج"، قالوا.
تمرد القلب،
ورمى لجامه، وكفّ عن قفز الحواجز.
الهواء فرّ خائفا من رئتك،
وجفّت السواقي داخلك.
عيون تحدق في الصمت،
ينتظرون الأسوأ،
أما أنا فأنجرفُ ببطء
لا سقوط، لا صعود،
بل دوامة تتسعُ، تتسع،
وثقل غريب ينزاح عن صدري
أمامي باب رخامي
يفيض منه الفراغ لزجا 
هناك انكشاف ما الوراء
حيث لا سباق،
لا خيولٌ جامحة،
أخطو لا أرض لي 
أغرق في السر الأخير
وتشف في فمي كلمات
قصيدة لم تكتمل
وتمد لي يدها الصامتة
لتقودني نحو الفراغ المطلق
ذاك الكمال الغريب
الذي لا يخشى النهاية.

 
إلى سديم الغياب
حين خاطبتني، كان الزمنُ مشروخًا،
ثوانٍ تتهشّم كأجرانٍ جافّة،
وصوتي انطفأ في صدى غامض،
وقلبي
رياحٌ تقودها جيادٌ بلا لجام.
في غرف الضوء البارد،
أُلقيتُ كريحٍ كسيرة،
جسدي وشاحٌ مصلوب،
والأطباء قرّاءُ طلاسم
يتنصّتون لصمتٍ أعمق من النبض.
قالوا: "وضعك حرج"،
لكنّ القلب طفق ينزف موسيقى متمرّدة.
آه، أيها القلب، أيُّ سرٍّ ناداكَ؟
أيُّ ليلٍ فاض فيك،
فأسلمتَ جسدي لريحٍ تمحو المدى؟
الهواء، ماء الحياة،
تلاشى،
والسواقي جفّت كما جفّ التوق.
كلماتُ الأرض خانتني،
وأنا أنجرفُ
لا سقوط، لا صعود،
بل مدارٌ يتسعُ، يتسع،
كصلاةٍ تهيم بلا اتجاه.
لا شيء هنا سوى الفراغ،
يبتسم كشيخٍ صوفيٍّ غارقٍ في السرّ.
ثقلُ الحياة يذوب،
وثوبُ العدم يشفُّ كقصيدةٍ لم تكتمل.
هناك، خلف الستار الذي لا ينزاح،
لا سباق،
لا خيولٌ هوجاء.
هناك حيث تؤول الخطى إلى سكونٍ
يحتضن صراخ الأكوان،
أسيرُ نحو سديم الغياب،
حيث الجمال ينفلت من المعنى،
وحيث النور، عارياً، يُولد من العتمة.