الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

عمار بنجلون: حمير بنكيران وميكروباته!

 
عمار بنجلون
 
أنا الميكروب الوطني. هكذا قررت أن أعرّف نفسي، بما أن أمين عام حزب العدالة والتنمية، السيد عبد الإله بنكيران، قد وزع الألقاب علينا بالمجان، دون أن يكلّف نفسه عناء احترام عقول المواطنين أو أدنى حد من اللياقة السياسية. أنا المواطن الذي يحمل همّ وطنه أولًا، ويقول، بلا ارتباك، وبلا خجل: تازة قبل غزة، والراشيدية قبل رفح، وسيدي إفني قبل نابلس. فهل أستحق لقب "الميكروب" يا شيخ المسرحيات البكائية والسياسة من باب الوعظ والخطابة؟
 
في زمن اختلط فيه الدين بالاسترزاق، والسياسة بالخرافة، يطلع علينا السيد بنكيران أمين عام حزب العدالة والتنمية مثل حكواتي عجوز خرج من عباءة ألف ليلة وليلة، لا ليحكي لنا عن مغامرات السندباد، أو علي بابا والأربعين حرامي، بل ليجلدنا بلغة البداوة السياسية. يهاجم أبناء وطنه لأنهم تجرأوا على المطالبة بشيء من الكرامة المحلية، كبنية تحتية لتازة، مستشفى في جرادة، فرصة عمل في زاكورة... إلخ. لكن يبدو أن بنكيران هذا يرى في هذه المطالب هرطقة، وخيانة للمشروع الديني الإسلاموي الذي اختزلته جماعته في التضامن المطلق مع غزة، حتى لو ماتت قرانا النائية من الجوع والعطش.
 
عجيب أمر هذا الرجل الذي ترأس حكومتنا الموقرة ذات يوم، وكأن الحكم لم يكن إلا منصة وعظ يوزع منها الحسنات والسيئات، ويصنّف المواطنين بين "ميكروبات" و"حمير". بنكيران، الذي لا يرى في الشخص الوطني إلا إذا كان يصفق له أو يبكي في حضرته، يريد أن يصادر أصوات المغاربة الذين سئموا من شعارات لغة التعويم والتنويم ، ويريد أن يجعل من فلسطين شماعة لتعليق فشله السياسي، حتى بعد خروجه من دواليب الحكم.
 
ما المشكلة يا سيدي في أن نقول "تازة قبل غزة"؟ هل صارت الوطنية جريمة؟ هل أصبح حب الوطن أقل منزلة من التعاطف مع شعب شقيق؟ وهل حب فلسطين لا يكتمل إلا ببغض المغرب؟ نحن لم نقل "غزة لا تهمنا"، بل قلنا ببساطة إن المغرب أولى بأبنائه، وإن الوطن الذي لا نبنيه لن ينفعه الشجب ولا بيانات الإدانة. لكن بنكيران يريدنا أن نركع أمام الصور، أن ننسى الجائعين في قرانا البئيسة لنبكي الطفل في خان يونس، أن نذرف الدموع على أطلال بعيدة ونغض الطرف عن خرائبنا القريبة في الحوز.
 
هذا الرجل الذي قال في وصف من يرددون شعار "تازة قبل غزة" إنهم "حمير وميكروبات"، نسي أن الحمار، في الثقافة الشعبية المغربية، حيوان صبور، وعامل، يتحمل أثقالا لا يتحملها بشر. أما الميكروب، فهو كائن دقيق، لكنه يُجبر الأجسام على التفاعل، على المقاومة، على إنتاج المناعة. فشكرا لك يا بنكيران، لقد رفعت مقامنا دون أن تدري. وإذا كنت ترى فينا حميرًا وميكروبات، فماذا عن أولئك الذين كانوا يصفقون لحكومتك حين رفعت أسعار المحروقات، وحين جمدت التوظيف المباشر و... وإلخ؟ هل كانوا ملائكة من نور؟
 
ثم، أين كانت حماستك عندما كنتَ في الحكومة؟ أين كانت دموعك على غزة عندما وقّعت حكومتك اتفاقيات تعاون أمني وتجاري مع دول لا تخفي عداءها للفلسطينيين؟ لماذا لم تستقل عندما مرّ التطبيع من تحت أنفك، أو حين سُحقت الطبقة الوسطى في عهدك سحقًا؟ لماذا كنت صامتًا حين طُحن محسن فكري؟ أم أن الصراخ من خارج الحكومة أسهل وأكثر ربحًا في سوق الخطابة؟
 
ليس المشكل أن بنكيران يعارض شعار "تازة قبل غزة"، بل في أنه يعارض أي تفكير وطني مستقل لا يخضع لمنطق الجماعة. فالرجل يرى نفسه زعيمًا روحيًا أكثر من كونه سياسيًا، يوزع الفتاوى السياسية، ويمنح صكوك الغفران لأتباعه، ويصب اللعنات على خصومه. لهذا، فإن من طالبوا بالاهتمام بتازة أصبحوا "حميرًا"، ومن رفعوا قضايا الوطن إلى واجهة النقاش صاروا "ميكروبات".
 
ولكن، صدقًا، ما الذي يزعجك في هذا الشعار؟ هل لأنه يُعري خطابك الخشبي؟ أم لأنه يذكّرك بأن الدين لا يصلح غطاءً لكل خيبة سياسية؟ أم لأنه يخرج من رحم المغرب العميق الذي أهملتموه باسم المبادئ الفضفاضة؟ الحقيقة أن "تازة قبل غزة" هو صوت صادق من عمق المعاناة، يعبّر عن شعب لم يعد يثق في الخطابات الجوفاء، ولا في أصحاب العمائم الذين يبررون البؤس باسم القضية.
 
نعم، نحن ميكروبات نقضّ مضجع الخطابة الجوفاء، وحمير نحمل أثقال الوطن ونتحمل عنجهيتكم منذ سنوات. لكننا سنواصل الصراخ، وسنصرّ على أن تكون تازة قبل غزة، لأننا نعرف أن العدل لا يتجزأ، وأن من لا يرحم أبناء وطنه، لن تنفع دموعه على أطفال فلسطين.
 
في النهاية، شكرا يا بنكيران، فقد منحتنا لحظة صدق نادرة في زمن التملق. لقد كشفت لنا أن بعض الزعامات لا تتغير، وأن الشعب بالنسبة لها مجرد أصوات في الانتخابات، أو أرقام في خطبة جمعة. لكننا، نحن الحمير والميكروبات، سنظل نحب هذا الوطن، ونتشبث بمؤسساته الملكية والدستورية وسنظل نطالب بمستشفياتنا ومدارسنا وشوارعنا، وسنظل نضع تازة أولًا، لأن فلسطين تستحق أن يتضامن معها شعب كريم، لا جائع.