الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم
الشهيد محمد گرينة (صورة أرشيفية)

بعد 43 سنة على استشهاده.. درس الشهيد محمد گرينة للمغاربة اليوم

 
عبد الكريم غيلان
 
 
في مساء مثل هذا اليوم من 43 سنة، يوم 24 أبريل 1979، لفظ الشهيد محمد گرينة أنفاسه الأخيرة، مناضلا حرا وطنيا ديمقراطيا وقوميا من أجل فلسطين، وأرض فلسطين، ومن أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية...
 
قبل استشهاده بـ24 يوما، كان لي شرف اللقاء مع الشهيد محمد گرينة، والاستماع إليه وهو يخطب فينا بعبارات الصمود، ومواجهة كل أشكال القمع، في الدفاع عن قضايا الوطن والديمقراطية، وفي النضال من أجل القضية الفلسطينية، التي ظل المغاربة، منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، يعتبرونها قضية وطنية...
 
كان اللقاء يوم 30 مارس 1979، حيث كان حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يعقد تجمّعا عاما بالمقر الإقليمي بأكادير، وقد حضرت التجمع مُمثّلا، آنذاك، لفرع الشبيبة الاتحادية بسيدي إفني، وعمري لا يتجاوز 17 سنة، لقد كانت لحظة قوية، بالنسبة لي ولأبناء جيلي، عندما تناول الشهيد محمد گرينة الكلمة باسم الشبيبة الاتحادية، كان يشبهنا، ليس فقط لأنه كان في مثل أعمارنا (كان عمر الشهيد آنذاك 20 سنة)، ولكن لأنه، أساسا، كان صوتنا وصورتنا وآمالنا وتطلعاتنا، كان يعبّر، بلكنته الأمازيغية المخفّفة والمحبّبة، عما نريد أن نقوله، وعما نتطلّع أن نكونه، تحدث عن يوم الأرض، عن فلسطين التي في العين والقلب، وتحدث عن التحرر وعن الحرية، وعن مواجهة القمع والاستغلال، هنا في المغرب، وهناك في فلسطين...
 
وبعد انتهاء اللقاء بمقر الكتابة الإقليمية بأكادير، ذهب الشهيد مع عدد من رفاقه من أبناء حي أنزا، حيث ستأتي الأخبار، بعد ذلك، أن الشهيد قاد مع رفاقه مظاهرة جابت عدة شوارع بالمدينة، ورُفعت فيها شعارات من أجل فلسطين حرة...
 
لم يُعتقل أحد في تلك الليلة، فيما بدت على البوليس، في اليوم الموالي، حالة استنفار قصوى، وصوروا شعارات مخناوئة للنظام مكتوبة على العديد من الجدران...، وفي اليوم، الذي لحقه، عاد الشهيد إلى مدينة الدارالبيضاء، حيث كان يتابع دراسته الثانوية، علما أن الشهيد، الذي ازداد بأكادير سنة 1959، كان قد تابع دراسته الابتدائية بمدرسة المختار السوسي بأنزا، ثم انتقل إلى ثانوية ولي العهد بأكادير، حيث تابع دراسته الإعدادية، وعندما أنهى الشهيد السلك الأول من الثانوي، غادر أكادير حيث التحق بثانوية الخوارزمي في الدارالبيضاء لدراسة الهندسة المدينة، وحظي الشهيد بثقة زملائه الداخليين في الثانوية لينتخبوه متحدثا باسمهم...
 
بعد يومين عن لقاء أكادير، شرع البوليس يبحثون عنه لاعتقاله فلم يجدوه، فانطلقوا يبحثون عنه في كل أحياء أكادير، ووصل الأمر إلى اعتقال شقيقته فاطمة وتعريضها للتعذيب، وعندما تأكد لهم أنه غادر أكادير، تسلّمت أجهزة الأمن في الدارالبيضاء الأمر، فداهموا حرمة الثانوية، يوم 17 أبريل 1979، واعتقلوه من داخلها، حيث تعرّض لأبشع أشكال التعذيب، قبل أن يجري اقتياده إلى أكادير، حيث تواصل إخضاعه لتعذيب وحشي...
 
يحكي لي أحد رفاقي في الشبيبة الاتحادية، آنذاك، اسمه عبد الخالق الزيخ، وكان من الأصدقاء المقرّبين للشهيد، وكان من أوائل الشباب الذين اعتُقلوا في أكادير، عند انطلاق حملة الاعتقالات، التي شملت مختلف أرجاء البلاد، (يحكي) أنه في يوم الأحد 22 أبريل 1979، التحق بهم في الزنزانة عبد لله العروجي، الذي لم يكن من ضمن المطلوبين قبل أن يجري اعتقاله دون مقدمات، وكان برفقته الشهيد محمد گرينة وهو في حالة متدهورة من شدة التعذيب الوحشي، الذي تعرّض له، تحلّق الجميع حوله، لم يكن الشهيد يستطيع الحديث، فيما شرع العروجي يسرد عليهم مسار الأحداث على الصعيدين المحلي والوطني، وأن العديد من مقرات الكونفدرالية الديمقراطية للشغل ومقرات حزب الاتحاد الاشتراكي تعرضت للاقتحام والمداهمة، وأن العديد من المناضلين والقيادات المحلية والوطنية جرى اعتقالهم، ومن الأسماء التي ذكرها، آنذاك، المناضلة مليكة طيطان والمناضل امبارك المتوكل من آسفي، وعبد الله المستغفر من الدارالبيضاء...
 
الشهيد محمد گرينة على اليسار مع رفيقه محمد.كوزوز في مارس 1979 قبل أقل من شهر على استشهاده وهما أمام منزل رفيقه عبد الخالق الزيخ في حي أنزا بأكادير الذي أدلى بشهادته عن ظروف السجن
 
تكلّف الشاب عبد الخالق الزيخ، الذي كان أحد الأصدقاء المقربين للشهيد، ومعه محمد بوفجوة بالعناية بمحمد گرينة، إذ فرشا له ما توفّر من بطانيات، كان في حالة مهولة من الإنهاك الصحي، بحيث كان في كل الوقت بين الصحو والغيبوبة، لا يكاد يفتح عينيه حتى يعاوده الإغماء، وبقي على هذه الحال إلى حين تقديمه للمحاكمة، في 23 أبريل 1979، كان في حالة يُرثى لها من أثر التعذيب، لا يستطيع النطق ولا تقدر رجلاه على حمله، إذ أحضروه إلى قاعة المحكمة محمولا على الأكتاف، ورغم إلحاح الدفاع في طلب عرض الشهيد على الخبرة الطبية، فقد رفضت النيابة العامة، فيما أرجأت هيئة الحكم موضوع الخبرة وضمّ البت فيها إلى يوم النظر في الجوهر، في جلسة يوم 30 أبريل 1979، واكتفت بالأمر بإحالته على طبيب السجن فقط، حدث هذا رغم ما ظهر على الشهيد من آثار الإنهاك والتعذيب، الباديين على هيئته، كما هو بادٍ تدهور وضعه الصحي.
 
وفي السجن، تواصل تدهور الوضع الصحي للشهيد، وأعود هنا إلى شهادة عبد الخالق الزيخ، يقول إنه في مساء ذلك اليوم، أي الاثنين 23 أبريل 1979، تقدم المناضلون المعتقلون من قطاع الصحة، وهم كيبوش وواعيس وبطاش، بعد فحص الحالة الصحية للشهيد، ليؤكدوا لباقي المعتقلين أن محمد گرينة لا يمكن أن يتحمّل حتى الصباح، وأن وضعه يفرض نقله إلى المستشفى على وجه السرعة، وإلا فإن حياته مهددة، فأخذ محمد بوفجوة إناء الأكل (الگاميلة) وشرع يضرب بها على النافذة الحديدية (الگريا)، وأخذ المعتقلون يصرخون، وسارعوا إلى جمع الأغطية مهددين بإضرام النار، وعمّ الصراخ والاحتجاج في باقي غرف معتقلي الحق العام... وبعد حوالي نصف ساعة، جاءت سيارة الإسعاف، وعند نقل عريس الشهداء محمولا تعالت صيحات التكبير والتهليل، الجميع، كل السجن يهلل ويكبّر، بل حتى بعض الحراس انضموا للتهليل والتكبير، كانت تلك ليلة الاثنين 23 أبريل 1979...
 
وهكذا، وتحت ضغط رفاق الشهيد المعتقلين، اضطرت الإدارة إلى إحالته على مستشفى الحسن الثاني بأكادير، لكن بعد فوات الأوان، إذ لم يلبث أن لفظ أنفاسه الأخيرة، يوم الثلاثاء 24 أبريل 1979، ودّع محمد گرينة الحياة، وأعطى لرفاقه، ولكل المناضلين من أجل التقدم والتحرر، حياة رحبة مليئة بالأمل والصمود والنضال من أجل غد جميل للوطن ولكل المواطنين...
 
كان الشهيد رمزا شامخا، كان شعلة ذكاء، وطاقة نضال لا تنضب، كان من بين أنشط قياديي الشبيبة الاتحادية، وكان الزعيم الاتحادي الراحل يعزه ويُكبر فيه حيويته ونضاليته، كان اتحاديا حتى النخاع، والمثير أن بوعبيد عندما تقدم للانتخابات التشريعية لسنة 1977 في أكادير، كان الشهيد محمد گرينة من أكثر الشباب بلاء في الحملة الانتخابية، وكانت عينا الزعيم بوعبيد عليه، لإعجابه بإقدامه ونشاطه وطاقته النضالية الكبيرة في نشر مبادئ واختيارات حزب القوات الشعبية وسط السكان في مختلف مواقعهم، ولأن حادثا سابقا ارتبط به، بنحو أربعة شهور، حين وصل إلى المكتب السياسي تقرير عن الاعتداء الإجرامي، الذي تعرّض له الشهيد يوم 29 ماي 1977، بسبب نشاطه السياسي... هذا التقدير، ستعكسه كلمة الزعيم الاتحادي في تأبين الشهيد، قال عبد الرحيم بوعبيد مُخاطبا الشهيد في ذلك اليوم الحزين: "كنت موضع إعجاب من طرف إخوانك وزملائك وأساتذتك، الذين يشهدون بأخلاقك الكريمة وسلوكك المستقيم. كنت أمثولة في الجد والنشاط والوطنية والدفاع عن الطبقات المضطهدة. هذا هو ذنبك، أما ما أريد إلصاقه بك من تهم ملفقة يريدون إلصاقها بمنظمتك"، قبل أن يخلص إلى القول: "إن الدرس الذي يجب أن نتعلمه من هذا الشاب البطل هو الصمود والثبات والتحلي بروح المسؤولية"...
 
وهو درس ما أحوجنا إليه اليوم، ونحن نحيي ذكرى هذا المناضل المغربي البطل الشامخ، إن أجمل هدية نبعثها إليه في قبره، هي أن روحه حاضرة معنا، تغذي الكثير من المغاربة بالصمود والثبات والمسؤولية من أجل بناء مغرب جدير بشهدائه، جدير بكل أبنائه، مغرب يشبهنا ونشبهه، مغرب الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية...