الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

سامية البحري تحاور عبد النبي الشراط: 3- عن القذافي والخميني وصدّام والتشيّع والتطبيع وفلسطين

 
 
في الجزء الأول، تطرّق الحوار إلى صفحات مثيرة من حياة الكاتب والإعلامي المغربي عبد النبي الشراط تركّزت على الجانب الشخصي والذاتي للمحاوَر... في ما يلي رابط الجزء الأول:
 
وفي الجزء الثاني من الحوار، طرحت الشاعرة والناقدة التونسية سامية البحري، عدة جوانب تهم الميولات الدينية لعبد النبي الشراط، كما تهم قضايا السياسة والأحزاب والأنظمة القمعية والحركات الإسلامية... وفي ما يلي رابط الجزء الثاني من الحوار:
 
وفي هذا الجزء الثالث من الحوار المطوّل، تناقش سامية البحري مع عبد النبي الشراط عدة قضايا مشتعلة، تتراوح بين الذاتي وبين الموضوعي، انطلاقا من الظرفيات السياسية، التي عرفتها المنطقة العربية، ينطلق الحوار من زيارة الشراط إلى ليبيا القذافي، ويتحدث عن التشيّع، وعن تأييده للخميني، قبل تحوّله إلى أشد مناصري صدام حسين، وعن الحكم الإسلامي، والقضية الفلسطينية، إضافة إلى زيارته إلى تونس، واحتجاز الشرطة لصديقة له تونسية في المطار... تابعوا أطوار هذا الحوار...
 
 
سامية البحري: السياسة والشراط مرتبطان، وهو ما يؤكد أن السياسة أسلوب حياة ينفتح من الأفراد إلى المجموعات، ومن المحيط الضيق الى المحيط الأوسع، في منطقة المغرب العربي الكبير، منطقة كانت تقاد بسلطة الحديد والنار، لكن تعيش في رفاهية وبذخ لا يوصفان، يذكّران ببذخ ورفاهية أهل الخليج، منطقة تحولت اليوم إلى بؤرة للشياطين والتطاحن والتناحر.. مثل ما يجري في بلد عمر المختار أسد الصحراء، بلد صاحب الزعامة القذافي المشاكس الأكبر لشرطة العالم أمريكا، والذي عُرف بمواقفه المثيرة للجدل في المؤتمرات والندوات العربية.. هل يمكن أن تحدثنا عن علاقتك بالقذافي وبالقضية الليبية؟
 
عبد النبي الشراط: كغيري من الصحافيين والمواطنين العرب، الذين لم يسبق لهم زيارة ليبيا، كنت أقرأ أن هناك ديكتاتورية وقمعا شديدين في الجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية العظمى، والكثيرون كانوا وما زالوا يعتقدون هذا الاعتقاد، لقد كانت وجهة النظر الليبية الرسمية غائبة ومغيبة في الإعلام العربي، وأعتقد أن الخطأ الأكبر، الذي ارتكبه الزعيم الليبي الراحل، هو أنه لم يكن يشتري (الإعلام)، وكان يكتفي بما يقوله هو ويصرح به لوسائل الإعلام المحلية أو الدولية أحيانا، وما كان يقال عن القذافي في الإعلام العربي غير دقيق وتنقصه المهنية والمصداقية.
 
القذافي، حسب بعض علماء الأنساب، ينتهي نسبه إلى الإمام الحسين عليه السلام، لكنه كان يرفض مناداته بالحسيني حتى يثبت ذلك بمصادر تاريخية حقيقية، وكان هذا الموضوع أحد أسباب دعوتي لليبيا حيث أشرفت على نسخ بعض المخطوطات لإنني من حفظة القرآن الكريم وخبير بالخط المغربي القديم
 
لقد كان العالم ضد القذافي، الذي كان يهيم وحده على الأرض، وحينما بح صوته من نداءاته للوحدة العربية لم يستجب له إلا الملك الحسن الثاني، رحمه الله، حينما وقع مع القذافي اتفاقية (الاتحاد العربي الإفريقي) في وجدة سنة 1985، وكنت سمعت بأذني صوت القذافي في المذياع وهو يحيي المغرب وملك المغرب ويصفه بالملك الثوري.
 
حدث ذلك بعد سنوات من الحرب الكلامية والإعلامية بين المغرب وليبيا القذافي على خلفية تمويل هذا الأخير بالمال والسلاح لجبهة بوليساريو الإرهابية، التي أعلنت انفصالها عن المملكة سنة 1975، بدعم مباشر من الجزائر وليبيا، ولقد كان الحسن الثاني داهية وشخصيته لن تتكرر في التاريخ العربي، فاقترب من القذافي وعمل معه اتحادًا، وكانت هذه الاتفاقية سببا في رفع الدعم الليبي عن مرتزقة البوليساريو، وقد التزم القذافي بذلك بشهادة الحسن الثاني نفسه، الذي أكد، في مقابلة صحفية، قائلا إن "معمر القذافي له كلمة وإذا وعد وفى بوعده"... وقد استمر حياد القذافي في موضوع الصحراء المغربية حتى بعد موت اتفاقية وجدة بسبب استقبال الملك الحسن الثاني للسيد شيمون بريز في مدينة إفران المغربية سنة 1986، وحتى وفاة القذافي، رحمه الله، وهو ملتزم بعدم دعم البوليساريو بالرغم من فتور علاقته بالحسن الثاني بعد استقبال هذا الأخير رئيس الوزراء الإسرائيلي بالمغرب.
 
في سنة 2006، قُدر لي أن أزور الجماهيرية العربية الليبية بدعوة خاصة من هيئة الإعلام الخارجي، التي كانت تضم طبعا الإذاعة والتلفزيون. وكان سبب الدعوة هو المشاركة في الإعداد لمؤتمر عالمي خاص بالأشراف الذين يتحدّرون من سبطي النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وأله (أبناء الحسن والحسين عليهما السلام).
 
وللعلم، فإن القذافي دعا، أكثر من مرة، إلى إحياء الدولة الفاطمية، هذه الدولة التي تعرف في التاريخ السياسي بالدولة العُبيْدية، ويحلو للوهابيين أن يسموها بهذا الاسم نسبة إلى عبيد الله المهدي مؤسس هذه الدولة الشيعية في المغرب سنة 296 هجرية، في منطقة كتامة شمال المغرب، بفضل مجهودات داعيته الكبير الداهية أبو عبد الله الصنعاني الشهير باسم عبد الله الشيعي... ودعوة الفاطميين انطلقت من المغرب.. وأسس الفاطميون (وهم شيعة إسماعيلية، نسبة للإمام إسماعيل بن جعفر الصادق) دولتهم على انقاض دولة الأدارسة، واستمرت أكثر من مائة عام، وحين فشلت هذه الدولة، اتجه قادتها إلى تونس حيث كان لهم أتباع كثر هناك وهم الذين أسسوا مدينة المهدية، واتخذوها عاصمة لملكهم في تونس، وبعد ذلك انتقلوا إلى مصر سنة 359 هجرية، حيث أسسوا دولة قوية هناك، وهم الذين بنوا القاهرة، وكانت تسمى على عهدهم قاهرة المعز لدين الله.. وبالمناسبة، فإن مهندس مدينة القاهرة هو جوهر الصقلي المغربي الأصل، الذي رافق الفاطميين إلى تونس ثم مصر.
 
الفاطميون ينتسبون أيضا للأشراف، وهو ما ينكره عليهم السلفيون والوهابيون، ويعتبرونهم خارج الملة الإسلامية.
 
وكان القذافي شغوفا بإحياء ذكرى مولد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، لكن السلفيين والوهابيين يعتبرون ذلك بدعا في الدين..
 
القذافي، حسب بعض علماء الأنساب، ينتهي نسبه إلى الإمام الحسين عليه السلام، وللحقيقة والتاريخ، فإن القذافي كان يرفض مناداته بالحسيني (نسبة للإمام الحسين عليه السلام)، حتى يثبت ذلك من خلال المصادر التاريخية الحقيقية، وقد شكل بعض الليبيين لجنة عالمية للقيام بهذه المهمة، وكانوا يصرفون من جيوبهم، وقد حصلوا على مخطوطات كثيرة تهم الأشراف في إطار البحث عن نسب القذافي، وقد استشهد القذافي دون أن يتم ذلك.
 
كان هذا الموضوع بالذات أحد أسباب دعوتي لليبيا حيث أشرفت على نسخ بعض المخطوطات التي حصلت عليها اللجنة المذكورة من عواصم متعددة، وكل تلك المخطوطات كانت مخطوطة بخط مغربي قديم تصعب قراءته من طرف أي كان، وحيث إنني من حفظة القرآن الكريم وخبير بالخط المغربي القديم، انتُدبت لهذه المهمة.
 
كان الاتفاق أن تستمر الزيارة عشرة أيام، لكنها امتدت لأربعين يوما كاملة، وبالرغم من أن كل الظروف كانت مهيأة لإقامتي في ليبيا حتى أكثر من سنة، فإنني استعجلت العودة إلى المغرب لأنه شغلني وضع أمي، رحمها الله، فعدت دون رغبة الإخوة الليبيين، الذين ما قصّروا في ضيافتي.
 
كيف قضيتُ أربعين يوما في ليبيا وماذا أنجزت؟
 
استُقبلت من عدد من القيادات والشخصيات الليبية، وفي مقدمتهم المهندس الحاج عبد الله منصور، الذي كان مقربا جدا من العقيد الليبي معمر القذافي، ويمكن القول إن الحاج عبد الله كان بمثابة المستشار المفضل للعقيد.
 
بدأت زيارتي للجماهيرية يوم الخامس من شهر أغسطس 2006، وبعد أسبوع من إقامتي، استقبلني الأستاذ الحاج عبد الله منصور، وكان استقباله لي سببا في تمديد الزيارة، إذ طلب مني مطالب أخرى لم تكن مبرمجة قبل الزيارة.. فماذا كانت مطالبه؟
 
كان مرافقي الليبي، الذي رافقني من الرباط إلى طرابلس، يحرص جيدا على أن أكون حريصا في كلامي، وعدم انتقاد النظام الليبي، وكان يقول لي بالحرف: الأمور عندنا ليست كما هي عندكم في المغرب حيث تعودتم على إبداء آرائكم وانتقاد الحكومة وحتى النظام، وطبعا مرافقي كان يعلم فلتات لساني وسلاطة كلماتي، ولذلك لم أشأ أن أحرجه مع المسؤولين الليبيين.. فكنت أعده خيرا.. وللإنصاف، فإنني لم ألتزم معه بهذه التوصيات إذ كما يقال (من شب على شيء شاب عليه).
 
كنت أتصور أن الحاج عبد الله منصور رجل كبير السن بحكم الهالة التي كانت تعطى له هناك، وبناء على ما حدثني به مرافقي، لكنني فوجئت أنني أمام شاب في الأربعينيات من عمره.. وبمجرد دخولنا مكتبه غلبتني الابتسامة فابتسمت ثم ضحكت.. حتى قبل مصافحته، رد علي الرجل بضحكة كبيرة، وقال لي أعلم لماذا ضحكت.. لقد كنتَ تتصور أنني هرم وطاعن في السن.. وحيث ابتدأ اللقاء على هذا النحو رفعت التكلفة بيننا تلقائيا.. هل تعلمين أول سؤال طرحه علي الرجل؟ كان هو:
 
كيف وجدتَ ليبيا؟
 
وكان ردي التالي: لم أجد ديكتاتورية مطلقة كما كنت أتصور، لقد كنت أعتقد أن الدولة تضع المواطنين الليبيين في صناديق مغلقة بالأقفال، لكنني فوجئت بأن المواطن المقهور هنا هو رجل الشرطة، حيث يستطيع أي مواطن أن يشتم الشرطي بكامل الحرية..
 
وكان سؤاله الثاني: أنت صحافي وخبير في الإعلام، كيف تقيّم الإعلام الليبي؟
 
كان سؤالا مفاجئا فالتزمت الصمت برهة، بينما مرافقي يضغط بقدمه على قدمي ليذكرني بالتعليمات..
 
طلب من الرجل أن أتحدث.. فسألته: هل أجيبك بصدق أم أكذب عليك وأجاملك.. (هنا مرافقي بدأ يلعق ريقه).. وقد لاحظ منصور ذلك، فقال لي: أريد رأيك بصدق وبكامل النزاهة...
 
أجبته مازحا: إنني لا أرغب بأن أبقى سجينا في ليبيا لمدة مجهولة، لأن جوابي لن يروقك..
 
أقسم الرجل بأن مقابلته لي جاءت بناء على رغبة من الأخ القائد (هكذا كانوا يسمون الزعيم الليبي)، وأنت بالذات نريد رأيك تحديدا في المشهد الإعلامي الليبي؟
 
تنفست الصعداء وأجبت بالآتي: الحقيقة المرة أن إعلامكم زفت في زفت، وأنتم لا تتوفرون على وسائل إعلامٍ مكتوبةً كانت أو مسموعةً أو مرئيةً.. ورغم أنكم تطْبعون عشرة آلاف من كل صحيفة رسمية (الجماهيرية، الشمس، إلخ) فإن جريدة اليوم تصل المكتبات غدا.. هذا من ناحية.
 
الناحية الأسوأ أن القائمين على هذه الصحف يجعلون من صورة الزعيم تتصدر واجهة الصفحات الأولى في كل عدد يصدر بمناسبة وبدونها، إضافة إلى المحتوى، وعلى صعيد الإعلام السمعي البصري فإنكم ما زلتم متأخرين كثيرا...
 
هذا باختصار عن الإعلام الداخلي، أما الإعلام الخارجي، فأنتم مقصرون جدا، فأنتم تصرفون دولارات النفط على الدول الإفريقية في الصحراء والساحل لكي يستقبل مواطنو هذه الدول الأخ العقيد بالزغاريد والرقص، بينما كل الإعلام العربي يهاجمكم ويصفكم بالدولة الديكتاتورية، في حين أنا لم أرَ شيئا من هذا...
 
كان الرجل يصغي إلي بإمعان شديد، وقد لاحظت، أكثر من مرة، شحوب وجهه بسبب بعض كلامي القاسي..
 
أما أنا، فحينما بدأت الحديث، كان علي أن أكمله بصدق.. وليحدث ما يحدث.. ومما قلته له إنه إذا استمر الوضع في ليبيا على هذه الطريقة، فإن مشاكل وقلاقل ستحدث بعد 5 أو 6 سنوات على الأكثر، ولن تستطيعون السيطرة عليها (وهو ما حصل بالضبط سنة 2011).
 
المهم تحدثنا وتناقشنا لمدة تزيد عن ساعتين، تخيلت أن أبسط ما سيقوم به الرجل أن يعيدني إلى الرباط في أول طائرة.. لكن كان العكس تماما..
 
طلب مني الرجل بلطف شديد تمديد زيارتي للجماهيرية، ووضع رهن إشارتي كل شيء..
 
حتى الفندق الذي كنت أقيم فيه اقترح علي تغييره بأي فندق آخر من اختياري، كنت مقيما في فندق الواحات بشارع عمر المختار، فطلبت منه أن أبقى هناك لأنني لا أبحث عن فندق فاخر.. خاصة وكنت هناك مرتاحا..
 
ماذا طُلب مني؟
 
لقد طلب مني الحاج عبد الله منصور أن أعد لهم خطة إعلامية داخلية وخارجية من منظوري الخاص وبكامل الحرية.
 
وفي ظرف إثنى عشر يوما، كنت أعددت للجماهيرية برنامجا إعلاميا متكاملا طبقا لرؤيتي، وعلى مدى تلك الأيام، كنت أشتغل طيلة النهار، بينما أستريح في الليل، خاصة وشمس طرابلس حارقة جدا في شهر أغسطس، ووجودي هناك صادف الاستعداد للاحتفالات بالفاتح من سبتمبر، وطلب مني أن أذهب إلى مدينة سرت لحضور الاحتفالات الرسمية، التي كان يحضرها القذافي.. وبما أنني لا أحب المراسم والبروتوكول، فقد رفضت وبقيت في طرابلس بالرغم من أن وفدا صحفيا مغربيا حضر خصيصا للمشاركة.. وكان ضمنه زملاء. أصدقاء لي.. فاكتفيت باستضافة بعضهم في الفندق الذي كنت أقيم فيه.
 
كيف غادرت ليبيا وماذا أخذت منها؟
 
كل المهام التي طلبت مني أنجزتها.. فكان علي العودة إلى الوطن بعد قضاء 40 يوما كاملة هناك.. وفي كل مرة يطلبون مني تأجيل العودة.. وبالرغم من الظروف الجيدة، من الناحية المادية، إلا أنني ضقت هناك لأنني كنت مقيدا ببعض البروتوكولات الضرورية، وأنا تعودت الحرية بلا قيود.. أقصد الحرية الشخصية.. كانت لدي تذكرة طائرة مفتوحة، وذات مساء ذهبت للخطوط الجوية الليبية (الإفريقية)، حجزت العودة صباح الغد، وبعدها أبلغت مرافقي بقرار السفر منتصف الليل.. تفاجأ صديقي وقال لي هذا مستحيل لأن الأخ القائد سوف يستقبلك بعد ثلاثة أيام من الآن.. أجبت صديقي أن قرار السفر لا رجعة عنه.. حاول التذرع بأنه يستحيل عليهم تدبير مبلغ مالي في الليل، لأن كل المصارف مغلقة، رديت عليه بأنني لا أريد نقودا، بل أريد العودة للمغرب وحسب، كانت معي بعض المصاريف توفرت عندي لأنهم كانوا من حين لآخر يبعثون لي مبلغا.. الطائرة محجوزة خلاص لا مشكلة.. ولكن صديقي بذل معهم جهدا فتدبروا لي خمسة آلاف دولار ليلا.. وفي الصباح الموالي عدت إلى المغرب.. هذا ما حصل...
 
سامية البحري: نبقى في الجغرافيا العربية، ونرتحل إلى العراق.. لاحظت حميمية كبيرة في حديثك عن العراق، وعن تجربة سياسية بقيادة الرجل الذي يوصف بالزعيم الناري صدام حسين، وقد أوردتَ بعض الأحداث في (أوراق من ذاكرة متمردة).. ما الذي يشد الشراط إلى هذه المناطق الحارقة؟ وهل يصرح الشراط بموقفه من حقبة صدام حسين بالعراق؟ وهل ترى أن العراق دُمّر بأياد خارجية أم بأياد من الداخل أم بهما معا؟؟ ثم ما علاقتك بالشيعة، وكيف تقيم رؤاهم وأفكارهم، وهل استطاعوا أن يقدموا الأفضل لبلد عظيم وحضارة عظيمة؟ وهل ترى أن الصراع العراقي الإيراني هو الذي يدير التاريخ في مراحله المختلفة، وأنه لن ينتهي، وقد يكون الشريان الذي تقتات منه عدة أطراف أخرى، وهذا طبعا يدخل في جدلية الصراع السياسي والعالمي الذي يقوم على المصلحة؟
 
عبد النبي الشراط: هنا عدة أسئلة وليس سؤالا واحدا، وسأحاول الإجابة بالترتيب عن كل فقرة على حدة.
 
لهذه الأسباب غيّرت قناعتي، وأصبحت مؤيدا للعراق وصدام بدل إيران والخميني.. قناعاتي دائما تتجه لنصرة المظلوم سواء كان هذا المظلوم حاكما أو إسكافيا.. لا فرق عندي.. لقد كنت من المؤيدين لصدام في كل ما قام به صح أم خطأ.. هذا موقفي الذي ما زلت عليه إلى اليوم
 
أولا، خلال الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات، كنت مع الضفة الأخرى، أي مع إيران، فبعد انتصار ما نسميه بالثورة الإسلامية الإيرانية، بدا لاحقا أنه مجرد كذبة كبيرة خُدعنا بها، لأن الثورة في إيران لم يقم بها الإسلاميون الشيعة وحدهم، بل كل فئات الشعب الإيراني، من شيوعيين وسنيين وعلمانيين ورجال دين إلخ.. وأن حزب تودة الشيوعي الإيراني ساهم بشكل كبير، إلى جانب الشيعة والسنة، في تلك الثورة، واسألي الذين يقرأون التاريخ أين هو حزب تودة الآن؟ لقد كان شريكا أساسيا في الثورة، لكن بمجرد أن استتب الأمر للملالي أعدموا قادته، وتم نفي آخرين، وهرب البعض منهم، وأصبحت القيادة (الإسلامية) الإيرانية تلاحق مناضليه ومناضلاته في كل مكان حتى خارج إيران، وكذلك الأمر بالنسبة لحركة مجاهدي خلق (مجاهدي الشعب)، حيث باتت تسمية كل هؤلاء بالمنافقين.
 
صفقتُ للثورة الإيرانية بشدة، ودافعت عن رسالتها هنا في المغرب، حيث كانت كل الصحف ضد الخميني، خاصة بعدما أصدرت رابطة علماء المغرب (بناء على طلب الملك الحسن الثاني) فتوى تكفّر الإمام الخميني، وقد قال الملك يوما: إذا كان الخميني مسلما، فأنا لست كذلك.
 
وبعد وفاة الإمام الخميني سنة 1989، كنت أصدرت أول جريدة خاصة بي تحمل اسم (شروق) وأتذكر أنني خصصت صفحة كاملة للحديث عن الإمام وكيف استقبله الشعب الإيراني بالملايين بعد عودته من فرنسا، خلال انتصار الثورة، وكيف ودعه الشعب خلال نقله لمثواه الأخير، وقد تضاعفت الملايين التي ودعته..
 
وتحدثت عن الإمام بشكل إيجابي جدا، وكنت حينئذ أغرد خارج السرب، حتى أن أغلب الصحف المغربية كتبت خبر وفاة الخميني واصفة إياه بالمجرم..
 
لا أنكر أنني شيعي المذهب، وقد أعلنت عن ذلك جهرا وبلا تقية في عهد الملك الحسن الثاني، لكنني لا أحبذ حكم رجال الدين كيفما كانوا لأنهم حينما يحكمون تحدث مصائب من بتر الأيدي ورجم الزاني ومعاداة المرأة إلخ... فأنا مسلم العقيدة، شيعي المذهب، علماني التفكير
 
حتى صحف الحركة الإسلامية المغربية نعته بشكل محتشم، وكنت الصحافي الوحيد الذي أشاد بثورة الخميني وإنجازات الخميني في ظرف عشر سنوات.. وكان الملك الحسن الثاني لا يتسامح مع من يخالف كلامه.. وإثر نشري ذلك تعرضت للمساءلة والاعتقال من طرف الشرطة، لكن كان اعتقالا خفيفا جدا...
 
كان لابد من العودة لهذا التاريخ كي نصل إلى موضوع العراق..
 
في خلال الحرب العراقية الإيرانية كان الإعلام العربي بالكامل مع صدام والعراق، وكنا نقرأ في الصحف العربية أن صدام حسين هو حامي البوابة الشرقية للوطن العربي، لأن جميع العرب ودول الخليج بالخصوص هي من ورّطت صدام حسين في تلك الحرب المشؤومة، ولولا تلك الحرب لكان وجه المنطقة قد تغير للأفضل، لكن كانت ستمحى أكثر من دولة خليجية (وليس ضمنها العراق)، خاصة بعدما أعلن الخميني تصدير الثورة إلى جميع الدول العربية، وفي مقدمتها دول الخليج، وبالإضافة إلى العرب، كانت هناك أمريكا التي دعمت العراق في حربه ضد إيران، وأنا بعد هذه السنوات ما زلت أعتقد أن أكبر خطأ ارتكبه صدام، رحمه الله، هو هذه الحرب، رغم أنه لم يكن يدافع عن العراق، بل كان يدافع عن دول الخليج التي أغدقت عليه الأموال، وإن كان جزء كبير منها عبارة عن قروض.. وخلال الحرب طبعا استغلت الكويت الظروف، واستولت على حقل الرميلة النفطي، لأنه، إلى حدود اندلاع أزمة الخليج الثانية (حرب الكويت)، لم يكن العراق يعترف بها كدولة مستقلة، ولم يكن وثق اعترافه بها في الأمم المتحدة، لأنه حتى عبد الكريم قاسم كان قرر استرجاع الكويت، لولا تدخل بعض الدول العربية، وضمنها مصر جمال عبد الناصر.
 
بعد توقّف الحرب بين العراق وإيران، خرجت كل الأطراف منهزمة، لأن ملايين البشر قُتلوا وهجّروا وترملت النساء وتيتم الأطفال، ومن يقول من الطرفين إنه خرج منتصرا، إنما يمني نفسه فقط.
 
لكن الذي حققه العراق أنه أرغم الخميني على قبول وقف إطلاق النار، وقال الخميني حينها إن قبوله وقف الحرب يشبه تجرعه لكأس السم، ومن بين الشعارات، التي أطلقها الخميني، خلال تلك الحرب القذرة، أن (طريق القدس يمر عبر بغداد)، وها هي بغداد الآن تحت سيطرة الإيرانيين، لكنهم توقفوا عندها ولم يمروا منها إلى القدس كما قيل لنا آنذاك.
 
مباشرة بعد الحرب بدأت دول الخليج، في مقدمتها السعودية والكويت، تطالب العراق باسترداد الديون، وكان العراق منهكا، وقد تصرفت الكويت حينها تصرفا غير لائق بعد إغراقها سوق النفط ببراميلها دون الالتزام بحصتها في منظمة أوبيك.. وبدأت قصة جديدة في المنطقة، ولم يتدخل العرب تدخلا جديا لحل الأزمة بين الكويت والعراق.. فكانت النتيجة التي رأيناها وعشناها.. فبعد فشل قمة المصالحة في الرياض قبل الحرب بأيام، أهان ممثل الكويت النساء العراقيات قائلا: أن الكويتيين يجلبون العراقيات للجنس مقابل عشر دينارات، فثارت ثائرة صدام، وقرر الانتقام للماجدات العراقيات.. بدخوله الكويت وهروب آل الصباح منها، وهذا الكلام أكده الشهيد صدام حسين، خلال محاكمته الصورية أمام المحكمة الأمريكية في العراق، وهذا القول موثق في جميع القنوات التلفزيونية، التي غطت محاكمة العار في العراق..
 
بعد كل هذه الأحداث، غيّرت قناعتي، وأصبحت مؤيدا للعراق بدل إيران.. ولم أكن وحيدا بل أن الكثير من شرفاء وشريفات الوطن العربي كانوا داعمين للعراق، بينما اتجهت فئة من (الصحافيين والمثقفين) لدعم الكويت وأغلب هؤلاء كانوا في الماضي يطبلون لصدام ونظامه، لكنهم في أول امتحان غيّروا مواقفهم بسرعة لأن صدام لم يعد قادرا على دفع الدولارات للصحافيين والمثقفين والكتاب، فكانت الكويت جاهزة للدفع..
 
قناعاتي دائما تتجه لنصرة المظلوم سواء كان هذا المظلوم حاكما أو إسكافيا.. لا فرق عندي..
 
لقد تأكدت البشرية، انطلاقا من تجاربها المريرة، أن الحل الوحيد لسلامة البشرية من التناحر والتطاحن باسم الحلال والحرام هو النظام العلماني الديمقراطي، حيث يضمن لكافة الناس حرية ممارسة معتقداتهم الدينية، سواء كانت هذه المعتقدات إسلامية أو يهودية أو نصرانية أو بوذية أو أزيدية... 
 
وهنا في المغرب بالتحديد جل المثقفين والشعراء والصحافيين الذين كانوا يتغنون بالقصائد ويدبجون مقالات في مدح صدام صقر العرب أصبحوا يدينونه ويستنكرون عليه (جريمة غزو الكويت) وكنت من المؤيدين لصدام في كل ما قام به صح أم خطأ.. هذا موقفي الذي ما زلت عليه إلى اليوم، وقد ذهب صدام للقاء ربه بحسناته وسيئاته، وقد تعودت أن أعبر عن رأيي طبقا لما يمليه علي ضميري، سواء كان رأيي خطأ أو سليما.. لا يهم..
 
ثانيا، بخصوص الشيعة.. لا أنكر أنني شيعي المذهب، وقد أعلنت عن ذلك جهرا وبلا تقية في عهد الملك الحسن الثاني، الذي كانت له حساسية مفرطة تجاه الشيعة والتشيع، لكنني لا أحبذ حكم رجال الدين مطلقا شيعة كانوا أم سنة أم غيرهم، لأن رجال الدين دائما يعتقدون أن الله استخلفهم في الأرض دون سواهم من العباد، وحين يحكمون تحدث مصائب في الدول التي يحكمونها، فهم يسارعون إلى تطبيق ما يسمونه شريعة، فيعمدون إلى بتر الأيدي ورجم الزاني ويفرضون على الناس لباسا معينا يحددون هم طوله وعرضه وحتى شكل لونه.. كما أنهم يعادون المرأة لدرجة لا تتصور، وينسون أنهم ولدوا من رحم المرأة، ويقولون إن المرأة ناقصة عقل ودين إلخ.. مما لا يتوافق مع فطرة الله ودبن الله.. وقد نتحدث عن هذا الموضوع بالتفصيل حين يأتي أوانه ضمن هذا الحوار الذي بلا شك لن يرضي الكثيرين..
 
وبالعودة إلى المعتقد فأنا مسلم العقيدة، شيعي المذهب، علماني التفكير.. باختصار أنا مسلم شيعي علماني.
 
ثالثا، بخصوص تقييمي للشيعة ودورهم في الحكم، فإنني أرى أنهم لا يختلفون في شيء عن الوهابيين، ففي إيران يبترون يد السارق الصغير ويرجمون الزناة ويقمعون المعارضة، وفي المملكة العربية السعودية يفعلون نفس الشيء.. وكما تتصرف إيران الشيعية مع المخالفين لها في المذهب، تفعل السعودية نفس الشيء، ولذلك فرجال الدين، السنة والشيعة، وجهان لعملة واحدة..
 
أما في العراق.. وبعد سنة 2003، ها أنت تتابعين ما يجري هناك، حيث القتل على أساس الهوية المذهبية فقط، ونفس الشيء يجري في ليببا ومثله جرى في سوريا، وقد تأكدت البشرية انطلاقا من تجاربها المريرة، سواء مع داعش أو طالبان أو الوهابية أو النصرة وغيرها من التسميات، أن الحل الوحيد لسلامة البشرية من التناحر والتطاحن باسم الحلال والحرام هو النظام العلماني الديمقراطي حيث يضمن لكافة الناس حرية ممارسة معتقداتهم الدينية سواء كانت هذه المعتقدات إسلامية أو يهودية أو نصرانية أو بوذية أو أزيدية.. إلخ.. لأن الإيمان يتكفل به الله وحده وليس البشر، وعلى سبيل المثال: في الدول التي تطبق ما يسمى بالشريعة (سنية كانت هذه الشريعة أو شيعية أو غيرها)، نرى أن الناس يجبرون على أداء الصلوات بالقوة، وقد يتعرضون للقتل السريع بناء على فتاوى المشايخ والفقهاء..
 
إن ما يسمى حد الردة لا وجود له في القرآن الكريم، فالله يقول: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. والفقهاء يقولون: من بدل دينه فاقتلوه.. فمن نتبع؟ الله أم الفقهاء والشيوخ؟
 
إنها كارثة كبيرة حينما يتحول دين الله إلى مجرد لعبة بين أصحاب العمائم واللحي وإنها لطامة كبرى أن يصبح الجهلاء يفترون على الله الكذب..
 
سامية البحري: نحن نعيش ضبابية في ضبط المفاهيم وتبويب الأولويات.. في الواقع العربي المأزوم، مازال البعض يعتقد أننا أمام ما نسميه بالقضية الفلسطينية، في حين نحن أمام قضايا متعددة، كل وطن عربي اليوم هو قضية بمفرده كيف تقيم هذه المسألة؟ وبناء عليه، هل كنت من المؤيدين لسياسة بلدك حول الانخراط في ما يسمى بالتطبيع، وهل يزعجك ما يقال عن المغرب اليوم وقبوله بالتطبيع؟ ثم ما معنى التطبيع في تقدير الشراط؟ وهل هو بلاء لابد منه للدخول إلى أغوار الطرف المقابل، الذي هو في مرتبة العدو بالنسبة لعديد الأطراف؟ لقد رأى المجلس الإسلامي مؤخرا في فتوى أعلنها أن التطبيع محرم، وأنه خيانة للمبادئ... كيف تقرأ موقف هذا المجلس؟ وما معنى خيانة المبادئ بالنسبة لأطراف بلا مبادئ أصلا، أم هو الكلام على الورق والضجيج الذي لا يفيد ولا يطعم الشعوب العربية الجائعة والمريضة والمهمشة ويلتهمها الحوت في جوف البحار ويغتالها الإرهاب بوعود زائفة بالجنة والحور العين وأنهار من العسل واللبن؟
 
عبد النبي الشراط: بتفحصنا لأوراق التاريخ، لا نجد في سجلاته دولة فلسطينية بهذا الاسم، التاريخ يقول كانت هناك منطقة كبيرة اسمها الشام الكبرى، وتضم سورية ولبنان وفلسطين ونهر الأردن، وحسب المصادر المعتمدة لدى المسلمين، فإن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب هو من استولى على منطقة فلسطين، وفي عهد الأمويين، الذين كانت دمشق عاصمة ملكهم، كانت فلسطين بطبيعة الحال تتبع لحكمهم على غرار مناطق أخرى من هذا العالم الإسلامي العربي، وبدون الغوص في أعماق التاريخ، فقد انتهت أرض فلسطين إلى العثمانيين الذين ورثوا ما يسمى بالخلافة الإسلامية، وعاثوا فسادا في العالم.. إذ كان همّهم الوحيد هو السيطرة على العالم...
 
السلطة الفلسطينية من عرفات إلى عباس دورها الأساس حماية أمن إسرائيل، وقد قبل الفلسطينيون بكل الشروط وجلسوا مع الإسرائيليين.. فماذا يهمنا نحن من كل هذا؟ من يرفعون اليوم شعارات فلسطين إنما يستهلكون الكلام.. فالتحوّلات جعلت كل دولة عرببة قضية ولم تعد فلسطين وحدها القضية
 
ثم استولت بريطانيا على فلسطين في ما يعرف بحقبة الانتداب البريطاني، بعد أن مرضت الدولة العثمانية بسبب فساد سلاطينها الذين لم يكن همهم نشر الدين الإسلامي الحنيف بل كان سعيهم نحو استعمار أراضي الغير وسبي النساء والحصول على عدد أكبر من الجاريات... وقد سجل التاريخ سوء فهمهم للدين وجهلهم بتعاليمه، فكان السلطان يقتل إخوته الذكور أو أبناءه حتى من أجل الحفاظ على العرش والحكم.. وأنا لم أجد لحد الآن في الإسلام ما يبيح القتل بهذه الطريقة الهمجية التي كانت تنفذ بناء على فتوى من شيخ الإسلام..
في أرض فلسطين..
 
مع مرور الزمن تغيرت موازين القوى وظهرت إسرائيل، التي دخل قادتها فلسطين بدعم بريطاني خالص.. ووصلنا إلى سنة 1947، سنة تقسيم أرض فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، فقرر العرب نيابة عن سكان فلسطين أن يرفضوا هذا الحل.. وأعلنوا أنهم سيلقون بكل اليهود في البحر.. وخضنا حروبا متعددة مع إسرائيل، التي أعلنت عن نفسها دولة مستقلة يوم 15 ماي 1948.
 
وقد خسرنا هذه الحروب جميعها، وفي كل حرب كانت تتوغل إسرائيل في أراضي العرب وتستولي عليها بالقوة دون أن نلقي نحن بيهودي واحد في البحر.. وضاعت سيناء وضاعت الجولان واستولت إسرائيل على كل فلسطين.
 
في سنة 1947، قسمت فلسطين على أساس 43٪ للعرب و53٪ لليهود، بينما أبقت الأمم المتحدة على القدس وما جاورها من الأراضي منطقة دولية في انتظار الحل النهائي، وقد نص قرار التقسيم على (دولة عربية ودولة يهودية) بهذه الصيغة، إلا أن عنترية العرب رفضت هذا الحل، ولو كانوا قبلوا بقرار الأمم المتحدة لجنّبونا ملايين القتلى والجرحى.
 
في ما بعد، أصبح العرب يطالبون إسرائيل بالعودة إلى حدود 1967 فقط.. وفي اتفاقية أوسلوا كانت الكارثة، إذ منحت الاتفاقية للفلسطينيين 2.5% من مجموع أراضي فلسطين، وتم القبول بها من طرف الفلسطينيين بعد أن أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية هي (الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني)، وانصرف بقية العرب لشؤونهم الخاصة بعيدا عن صداع فلسطين ومشاكلها..
 
الآن كيف هو الوضع؟
 
اتفاقيات أوسلو الأولى والثانية وما تبعهما من اتفاقيات أخرى كلها تنص على أمن إسرائيل وتفرض على السلطة الفلسطينية تبليغ إسرائيل بكافة أسماء الفلسطينيين الذين تعتبرهم إسرائيل إرهابيين.. بمعنى أن السلطة الفلسطينية من عهد عرفات إلى محمود عباس دورها الأساس حماية أمن إسرائيل، وقد قبل الفلسطينيون بكل تلك الشروط وجلسوا مع الإسرائيليين وصافحوهم وقبلوا عيونهم وانتهى الأمر.. فماذا يهمنا نحن من كل هذا بعد أن وافق الفلسطينيون على كل ما طلب منهم مقابل لا شيء تحقق لهم؟
 
إن العرب الذين ما زالوا متمسكين بالقضية الفلسطينية إنما يضيّعون وقتهم، ويستهلكون الكلام.. مجرد الكلام لا غير!
 
وبالعودة لكلامك فإن كل دولة عرببة أصبحت قضية، ولم تعد فلسطين وحدها قضية (سوريا قضية، ليببا قضية، العراق قضية، وهكذا...) كل وقضيته، وإذا كنا ندين سياسة التطبيع مع إسرائيل فحري بنا أن ندين الفلسطينيين أولا الذين لم يطبّعوا فقط، بل أصبحوا يمارسون دور الشرطي بالمجان لإسرائيل، فقبل إنشاء ما يسمى بالسلطة الفلسطينية كانت إسرائيل غير آمنة، لكنها الآن أصبحت آمنة جدا بفضل وجود سلطة فلسطينية شكلية لا دور لها إلا حماية أمن إسرائيل.. وقد آن للقوميين العرب أن ينسوا أحلامهم التي لن تتحقق ويتفرغوا لشؤون بلدانهم بدل أن يضيعوا وقتهم وجهدهم من أجل قضية لا علاقة لهم بها..
 
بخصوص العلاقات المغربية الإسرائيلية..
 
كان المغرب دائما واضحا، ولم تكن علاقاته مع إسرائيل مخفية، بل كان دائما هناك تنسيق وتعاون كما هو موجود مع كل الدول العربية باستثناء العراق زمن صدام، وما عدا ذلك فكل الدول العربية كانت وما زالت مطبعة بشكل أو بآخر (ولا أتكلم عن الدول التي طبعت علاقاتها علنا مثل مصر والأردن ثم الإمارات والبحرين مؤخرا)، بل أتحدث عن الدول التي تمارس النفاق أمام شعوبها، وفي مقدمتها الجزائر، التي أصبحت تُزايد علينا هذه الأيام أكثر من أي وقت مضى، حيث تعتبر الجزائر أكبر مطبعة في المنطقة.. أما المغرب، فعلى الأقل أخرج نفسه من قائمة النفاق العربي، وذهب بعيدا في ممارسة حقه السيادي في تطبيع العلاقات مع إسرائيل علنا، أما الذين يزايدون علينا، فإنما تنقصهم الشجاعة التي يملكها المغرب.
 
أما الشيوخ والفقهاء الذين أفتوا بتحريم العلاقات مع إسرائيل، فإن أولئك ما يملكونه هو التحريم لا غير، لكنهم يعتبرون المستفيد الأكبر من فتات موائد إسرائيل، بالتالي فهم أكبر المنافقين الذين يقولون ما لا يفعلون.. وكان حبرهم الأعظم يوسف القرضاوي هو من أفتى من قبل بتدمير سوريا وليبيا، وعليه فإن شيوخ الإسلام الجدد لا يختلفون عن شيوخ الأتراك القدامى، فكلهم يميلون إلى سفك الدماء والتحريض على الفتن باسم الدبن الإسلامي، وهذا الدين منهم براء إلى يوم البعث والنشور.
 
سامية البحري: في متابعة للتظاهرات الثقافية والعربية، غالبا ما ينسحب البعض في تفاخر عندما يكون الطرف الإسرائيلي مشاركا في هذه التظاهرات.. هل هذا الانسحاب يخدم القضايا الإقليمية والدولية والعربية أم هو عجز عن المواجهة؟ وتقديم خدمة مجانية للطرف الإسرائيلي ليكون أكثر قوة؟ كيف تقيّم مثل هذه الأفعال؟ لماذا لا نواجه العدو ونحاول الانتصار عليه؟ لماذا نتوهم أننا بهذه الأفعال قد قدمنا خدمة كبيرة لحضارتنا؟ التاريخ مزيج من الانتصارات والانكسارات.. والانكسارات في التاريخ الإسلامي المعاصر هي العنوان الأكبر.. لماذا نزداد انكسارا كل يوم أكثر؟ أين مواطن الداء، وهل من دواء لكل هذه الآفات والأمراض التي استفحلت في جسد الأمة العربية؟
 
عبد النبي الشراط: بخصوص الانسحابات من التظاهرات التي تشارك فيها إسرائيل، فإن بعض العرب يفعلون ذلك من أجل الظهور الإعلامي لا غير، لأنهم يعلمون مسبقا أن فعلهم ذاك لا يتعدى جعجعة بلا طحين.
 
ختاما، الفلسطينيون هم وحدهم المعنيون بتحرير أرضهم، ولأنهم يرفضون هذا التحرير، فأنا أرى أنه لا داعي للمزيد من الدماء من أجل لا شيء، وبالمناسبة فأنا أرى تحرير دولة الأحواز العربية، التي تحتلها إيران منذ سنة 1929، أولى من تحرير فلسطين، فعلى الأقل الأحوازيون يقاتلون في صمت، ويناضلون في صمت من أجل تحرير وطنهم المغتصب، دون أن يساندهم العرب، أما الفلسطينيون فلا أرى أن لهم رغية في تحرير بلادهم.
 
سامية البحري: تونس محطة مهمة في تجربة الشراط.. والشراط يحب تونس وله فيها الكثير من الذكريات، وقد كانت أول زيارة له إلى تونس في سنة 2011.. ماهي خلفيات تلك الزيارة؟ هل كانت سياحة أم عملا؟ وكيف وجدت تونس وأهل تونس؟ وهل ترى أن ما حدث في تونس ثورة كما تم توصيفها؟ وكيف تقيم ما حدث بعدها وما يحدث اليوم؟ وكيف تنظر إلى مستقبل تونس في ظل ما يحدث ضمن الخارطة العالمية اليوم؟
 
عبد النبي الشراط: زرت تونس لأول مرة سنة 2011، بدعوة كريمة من قيادة حركة البعث التونسي بمناسبة انعقاد مؤتمرها التأسيسي، حيث تجمعني علاقة جيدة بكل البعثيين في أنحاء الوطن العربي، وتعددت زياراتي لهذا البلد الجميل أكثر من مرة، وقد شاركت مرتين في مهرجان توزر الشعري وكسبت أصدقاء وصديقات هناك، وكانت آخر زيارة لي لتونس سنة 2018، حيث لم يكن موضوعها السياسة والشعر والصحافة، بل كان موضوعها: التدريب، حيث نظمنا هناك دورة تدريبية باسم المركز المغربي للتطوير والتدريب، الذي أديره إلى جانب دار الوطن للطباعة والنشر، وذلك في مدينة بنزرت الساحرة.
 
ما جرى في تونس لا يمكن تسميته ثورة، لأن الثورة، في المفهوم السياسي، يجب أن يكون لها قادة يتوفرون على برنامج للحكم البديل، ما حصل في تونس، يمكن تسميته انتفاضة شعبية، أطاحت بالنظام كاملا، وظلت البلاد في شبه فوضى تضرر خلالها جميع التونسيين قبل أن تُجرى انتخابات ديمقراطية
 
كل زياراتي الخارجية لم تكن أي واحدة منها سياحية، كل سفرياتي للدول العربية والأوروبية تتم بناء على دعوة من جهة ثقافية أو سياسية، وزيارتي الأولى لتونس تمت بصفتي المهنية كصحافي، وقد وجدت حفاوة وترحابا من الإخوة في قيادة حزب البعث التونسي، ولدى جميع التونسيين والتونسيات، الذين التقيتهم بدون استثناء، سواء في هذه الزيارة أو الزيارات اللاحقة.
 
كانت تونس سنة 2011، خرجت من حكم كان يوصف بالديكتاتورية والقمع، ودعيني أتطرق لبعض المواقف، أو سمِّها طرائف إن شئت.. ففي مؤتمر حزب البعث، لم أحضر في الجلسة الختامية التي صدر عنها بيان الحزب، الذي يتطرق طبعا لموقف البعث التونسي والبعثيين العرب من القضايا الوطنية والإقليمية والعربية والدولية، حيث كنت سافرت إلى مدينة المهدية التاريخية، التي أسسها الفاطميون قبل استقرارهم في مصر.. وبطبيعة الحال كان هناك ضيوف من مختلف الدول العربية الذين يجتمعون على أدبيات حزب البعث العربي الاشتراكي العراقي وفكر صدام حسين، رحمه الله.
 
وخلال عودتي في المساء، كان ينتظرني بشدة رئيس حزب الصواب الموريتاني الدكتور عبد السلام حرمة، الذي كان أجرى معي مكالمات تلفونية متعددة في ذاك اليوم، ويلح علي في العودة سريعا.. أبلغني الأخ عبد السلام أن المؤتمر أصدر بيانا وتم توزيعه على الصحافيين ويصف الصحراء بـ(الغربية) بدل المغربية، علما أنه كان معي من المغرب الدكتور أنور المرتجي، ممثلا لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المغربي، لكنه لم ينتبه لصيغة تلك الفقرة المتعلقة بالصحراء المغربية.
 
وعلى الفور، اتصلت بالأمين العام لحركة البعث، الذي انتخبه المؤتمر، الأستاذ عثمان بن الحاج عمر، طالبا منه سحب البيان الذي وُزع على الصحافيين وتصحيح كلمة: (الصحراء المغربية)، وقد استجاب الأستاذ عثمان مشكورا، فطلب من الصحافيين والصحافيات الذين تسلموا البيان عدم نشر النسخة الموزعة عليهم، معللا طلبه ذاك بأخطاء طباعية ويجب تصحيها، وتمت إضافة حرف (الميم) لكلمة الغربية لتصبح (الصحراء المغربية) وأصبح البيان يتحدث عن الصحراء المغربية بدل (الغربية).. وطبعا كان من المشاركين في المؤتمر أمين عام حزب البعث الجزائري.
 
وخلال مشاركتي في مهرجان الشعر بتوزر جنوب البلاد سنة 2012، كانت قناة الجنوبية أجرت معي حوارا مطولا عن الثقافة والسياسة، وورد في إحدى أجوبتي عن سؤال للصحافية التي أجرت معي الحوار أنني قلت: إن ما جرى في تونس لا يمكن تسميته ثورة، لأن الثورة في المفهوم السياسي، يجب أن يكون لها قادة يتوفرون على برنامج للحكم البديل، أو يقودها حزب ذو خلفية معاكسة للنظام القائم كما حصل في ثورة البعثيين في العراق لمرتين على التوالي.
 
أما ما حصل في تونس، فيمكن تسميته بانتفاضة شعبية، أطاحت بالنظام كاملا، وظلت البلاد في شبه فوضى لمدة زمنية معينة تضرر خلالها جميع التونسيين قبل أن تُجرى انتخابات ديمقراطية فازت فيها حركة النهضة كما هو معروف.. ومن خلال تجربتي مع وسائل الإعلام، قلت للصحافية إن القناة لن تبث الحوار بسبب تعبيري الخاص أو مفهومي لما جرى في تونس، لكن الصحافية أكدت لي أن الحوار سيبث وأنت عبرت عن رأيك، لكن الذي حصل، أن القناة كانت أعلنت عن بث المقابلة عبر وصلات أعلانية، واتصلت بي الصحافية وأنا في المغرب لكي تخبرني بتاريخ بثها. لكن مع الأسف لم يتم البث وتم تعويض المقابلة ببرنامج قديم ربما.. وما يستخلص من هذه الواقعة، أننا في العالم العربي لم ننضج بعد، كي نتقبل آراء بعضنا البعض.. وما زلنا نفرض آراءنا على الآخرين، ونرفض آراءهم، وهذه الطريقة في تدبير الخلاف لن تجعلنا نتقدم نحو الديمقراطية أبدا، وسنبقى نطيح بنظام ديكتاتوري ليحل محله نظام ديكتاتوري آخر.. وهكذا ستستمر القصة.
 
سامية البحري: الحزب الإسلامي الذي سيطر على دواليب الدولة وحصد شعبية كبيرة في بداية صعوده إلى الحكم اليوم يتهاوى بسبب ما فعله بالبلاد والعباد على امتداد عشرية سوداء.. وقد كان هذا مصير الإخوان في مصر كذلك.. الإخوان لا يصلحون للحكم، وعليهم التنحي والاعتراف بالفشل، هذا ما سجله التاريخ.. فكيف تقيّم هذه المسألة؟
 
عبد النبي الشراط: مبدئيا، لا أحب أن أتدخل في الشأن التونسي الخاص، لأن إجابتي عن هذا السؤال قد تفسر على أنها تدخل خارجي في شأن داخلي، وقد تحدثت قبل قليل عن مشكلة التعبير عن الرأي المخالف.. لكن مع ذلك سأجيب..
 
أشير، أولا، إلى أن عهد الإخوان لم ينته لا في مصر ولا في تونس وحتى في المغرب.. لأن الإخوان يصرّون على أن يحكموا وبأي ثمن، وإذا حكموا أفسدوا البلاد والعباد، وأنهم إذا دخلوا حكومة أفسدوا شعبها، مشكلة الحركات الإسلامية بشكل عام أن قادتها وأتباعها يؤمنون أنهم على صواب والباقي على ضلال، وتلك مشكلتهم، وهم يؤمنون بالديمقراطية فقط حينما يكونون في المعارضة، لكن هناك عامل أهم يجعلهم يصلون أو يصعدون للحكم، هو العامل الشعبي، فأغلب شعوبنا العربية ما زالت تؤمن بفكرة الخلافة، وهذه الجماهير لا يدغدغ عقلها شيء إلا التدين (وليس الدين) بحد ذاته.. نحن متدينون فقط بدين لا نفهم منه إلا أداء الصلوات وبناء المساجد وتوزيع قفف المواد الغذائية في رمضان، بينما الدين أعلى من هذا بكثير، وأِؤكد من جديد على قولي إن الدين إذا أردناه أن يبقى نظيفا وجميلا علينا أن نبعده عن السياسة ونبعد السياسة عنه..
 
وبخصوص ما جرى في تونس الشقيقة خلال ما تسمونه هناك بالعشرية السوداء، دعيني أحكي لك ما تعرضت له شخصيا في مطار قرطاج الدولي سنة 2013، خلال إحدى الزيارات.. كنت تعرفت على طالبة تونسية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كانت طلبت مني أن أجلب لها بعض الكتب من المغرب، واتفقنا أن تأتي عندي إلى المطار لأنني من هناك مباشرة سأسافر إلى مدينة توزر، الطالبة كانت برفقتها زميلتها، وبالمناسبة وجدتها حضرت لي كارت (شريحة تلفون تونسية) مشكورة على هديتها، كان معي زميل من المغرب، وبمجرد لقائنا بالطالبتين، وفي طريقنا للخروج من المطار، لاحظت شخصا جذبهما إلى جانب بعيد عنا.. ظننت أنه يعرفهما، فتوقفت أنتظرهما.. لكن الأمر لم يكن كذلك.. كان الشخص شرطيا في المطار والتحق به زميل له، نادتني الطالبة فذهبت.. كان الشرطي يريد اعتقال الطالبتين بتهمة جاهزة وهي البغاء، وشعرت أنني أذنبت.. وفي حديث مع الشرطة، أبلغتهم بالقصة كما هي، وأعلنت استعدادي لمرافقة الفتاتين لأي مخفر شرطة أو محكمة حتى، وبدأت أصرخ بكلام قاس جدا بسبب سوء هذه المعاملة السيئة من طرف رجال الشرطة الذين طلبوا مني ومن زميلي الانصراف بينما حسب قولهما: لابد من احتجاز الفتاتين وتقديمهما للنيابة العامة، وأمام إصراري مرافقة الطالبتين حتى جهنم، لأنهما غير مذنبتين، اعتذر الشرطيان وأفرجا عنهما وأجلت سفري لتوزر، لأنه أخلاقيا كان يجب علي إيصالهما حتى العاصمة..
 
حصل هذا في عهد النهضة.. وهكذا نراهم يركزون على القشور وما هو تافه، بينما يمارسون هم السيئات.. وقد صدمت حينما أبلغتني إحدى الطالبتين أن الشرطيين كانا متمسكين بأخذ رقمي هاتفيهما لأجل مواعدتهما لاحقا.. هكذا هم..
 
وأنا أرى أنه يجب فضح سلوكات الإسلاميين وتصرفاتهم وأتفق معك سيدتي أنهم لا يصلحون للحكم على الإطلاق.
 
سامية البحري: نكتفي بهذه الأسئلة ونفتح ملف التاريخ والتراث في حلقة قادمة وهو ما يربطنا بالعناوين المثيرة، التي طُبعت في دار الوطن إلى حد اللحظة وكلها انتقدت التراث بطريقة لاذعة وكشفت المسكوت عنه وعرت المستنقعات الآسنة ولم يتردد الشراط في فتح أبواب الدار لكل صاحب فكر تنويري متحديا الرقابة القانونية والرقابة الدينية.. شكرا جزيلا سيدي الكريم على رحابة صدرك واتساع فكرك وقبولك بهذه المشاكسة المجنونة.. تحياتي وتقديري...