الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

سامية البحري تحاور عبد النبي الشراط: 2- الإسلاميون يسعون للحكم المطلق لتنفيذ مشروعهم التخريبي

 
 
في هذا الجزء الثاني من الحوار المطوّل، تناقش الشاعرة والناقدة التونسية سامية البحري، مع الإعلامي والكاتب المغربي عبد النبي الشراط عدة جوانب تهم ميولاته الدينية في شبابه، التي كانت سلفية وهابية، كما تهم قضايا السياسة والممارسة الحزبية والأنظمة القمعية وطبيعة الحركات الإسلامية...
 
رابط الحلقة الأولى من الحوار:
 
سامية البحري: السياسة مستنقع التماسيح، هل ينظر الشراط إلى السياسة من هذه الزاوية؟
 
عبد النبي الشراط: أنظر إلى السياسة في شكلها الإيجابي وهو تدبير مصالح الناس، وتوفير الأمن والاستقرار، وأن يتمتع المواطن بكامل حريته وفق القوانين طبعا، مع ما يتبع ذلك من توفير أساسيات الحياة والعيش من شغل وصحة وتعليم وسكن إلخ... فمن غير توفر هذه الشروط تصبح السياسة مجرد مستنقع كما تفضلت..
 
السياسة هي تدبير شؤون المواطنين بشكل عام طبقا للغتنا المعاصرة (وتدبير شؤون الرعية طبقا للمفاهيم الفقهية).
 
سامية البحري: السياسية العربية تعيش اليوم زلزالا على جميع المستويات، هل هو بداية سقوط منظومة الأحزاب، وهل يمكن أن تقوم الدول بلا أحزاب؟ التجربة التونسية مثلا؟
 
عبد النبي الشراط: لا أرى هناك أية زلازل، هناك طموح للتغيير نحو الأفضل فقط، لكن المواطن يلعب دورا رئيسيا في هذه المعادلة، وسأعطيك مثالا لتقريب الفكرة..
 
البطش البشع الذي مارسته الأنظمة القمعية ضد المناضلين وتحوّل الاحتجاجات من مطالب الحرية والديمقراطية والعدل إلى سيادة المطالب الفئوية وغيرها من التغيّرات ساهمت وسوف تساهم على مدى أجيال في خلق مواطن هجين لا يطلب أكثر من الخبز والجنس وهذه كارثة عظمى
 
في الماضي، كان الناس يتظاهرون ويحتجون من أجل المطالبة بتغيير شامل وجذري، لأنهم كانوا يرون أن التغيير الجزئي أو ما نسميه بالإصلاح من داخل الأنظمة لن يؤدي أي دور، وكان هؤلاء المناضلون يقاومون من أجل تحرير الشعوب من استعباد الأنظمة لها وتمكين هذه الشعوب من حقها في الحرية والديمقراطية والعيش الكريم، وبما أن الأنظمة القمعية في كل البلاد العربية كانت ترى أن هذه الشعوب لا تستحق ما تطالب به، فمن الطبيعي أنها كانت تزج بالمعارضين في السجون والمعتقلات، وأدى أولئك المناضلون ضرائب باهظة جدا تمثلت في حرمانهم من حرياتهم وتدهور أوضاعهم الصحية، ومورست عليهم كل أنواع التعذيب النفسي والجسدي، حتى أن بعض المواطنين (وهذا حصل في عدة بلدان عربية) كان الجلادون يغتصبون زوجاتهم وقريباتهم بحضورهم في مشهد حيواني بشع لا تقره حتى شرائع الحيوانات المفترسة..
 
الآن تغير الوضع نسبيا، وأصبح النضال غالبا ما يركز على قضايا فئوية، مثلا عندنا في المغرب، رغم أن هناك بعض المظاهرات أو الاحتجاجات تطالب بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، لكننا أصبحنا نرى فئات من المجتمع تتظاهر من أجل التوظيف والامتيازات الوظيفية، ونرى الطلبة يتظاهرون من أجل إلغاء المباريات في التوظيف على سبيل المثال أو إسقاط شروط الامتحانات...
 
كل هذه التغيرات ساهمت وسوف تساهم على مدى أجيال في خلق مواطن هجين لا يطلب أكثر من الخبز والجنس، وهذه كارثة عظمى.
أما عن الأحزاب، فإنني أرى أن دورها انتهى من زمان لعدة أسباب في مقدمتها: أن هذه الأحزاب لم تعد تقوم بدورها التربوي والتوعوي وتأطير المواطنين من أجل أن يتحملوا المسؤولية لاحقا، ونرى الأحزاب اليوم مهمتها الوحيدة هي الانتخابات فقط، وبأي ثمن وعلى سبيل المثال، فإن الأحزاب لم تعد تتوفر على أطر وكفاءات كما في الماضي، بالتالي حينما يحصد حزب أو عدة أحزاب الأغلبية في الانتخابات، وخلال وصولها إلى مرحلة تشكيل الحكومة، فهي تقدم تجارا محترفين في الانتخابات يملكون المال والنفوذ، بينما تستبعد الأطر والمثقفين النزهاء... ولذلك نلاحظ لحد الآن (هنا في المغرب على الأقل) أن أحزابنا لا تتوفر على أطر وكفاءات قيادية على الإطلاق، لأن هؤلاء غادروها بسبب تهميشهم وإقصائهم، حتى أن الحكومة المغربية الأخيرة التي أسست على (أنقاض) انتخابات الثامن من سبتمبر 2021، نجد ثلثها من التكنوقراط الذين فرضتهم الدولة على ثلاثة أحزاب مشكلة لهذه الحكومة، وتصوري معي..
 
الأحزاب انتهى دورها انتهى من زمان لعدة أسباب في مقدمتها أنها لم تعد تقوم بدورها التربوي والتوعوي وتأطير المواطنين وأضحت مهمتها الوحيدة هي الانتخابات فقط، مما جعلها تعطي الأولوية لتجار محترفين في الانتخابات يملكون المال والنفوذ، بينما تستبعد الأطر والكفاءات والمثقفين النزهاء
 
ثلاثة أحزاب شكلت الأغلبية، لكن استُبعدت من الحكم بشكل أو بآخر، والدليل أن ثلث هذه الحكومة من خارج أحزابها.. وقد قبلوا بالأمر الواقع.. وهذا مضر جدا بمصالح الوطن والمواطنين...
 
سامية البحري: الواقع السياسي العربي بين الموجود والمنشود في نظر الشراط كيف تقرأ هذا الواقع وهل ترى بديلا لكل ما يحدث؟
 
عبد النبي الشراط: باختصار شديد جدا، فأنا لا أرى بديلا إلا في العدل، وأن كلمة العلامة التونسي الشهير عبد الرحمن بن خلدون (العدل أساس الملك) ستظل حاضرة معنا ومع الأجيال الطالعة، وبدون عدل لن تستقيم الأمور..
 
يتجلى هذا العدل في التوزيع العادل لثروات البلاد، وأن المواطن الذي يُجبَر على دفع ضرائب للدولة من حقه أن يُجبِر الدولة على الكشف عن مآل الثروة، التي تستخرج من أرضه (الحديد، الذهب، الغاز، البترول، الفوسفاط، السمك إلخ...). كما أن الأغنياء جدا يجب عليهم تبرير مصدر الحصول على ثرواتهم الخيالية جدا..
 
وعن بداية السؤال، فإنني أرى هذا الواقع، واقعنا، في طريقه إلى الهاوية.
 
سامية البحري: الدين والسياسة جدلية أرهقت المفكر العربي، وأشقت العقل العربي، وأفسدت الواقع العربي، ما موقف الشراط من كل هذه المسائل؟؟ وهل ترى أن الدين لله فقط ويجب أن ينأى عن السياسة كما ترى العلمانية والماركسية وغيرها من الرؤى الفكرية الفلسفية..؟؟
 
عبد النبي الشراط: في برنامج تلفزيوني سابق قلت ما يلي: (إذا أردنا أن يبقى الدين نظيفا كما أراده الله سبحانه، يجب أن نُبعده عن مستنقع السياسة، وأن نجنّب السياسة الدين) لأنهما ضدان لا يلتقيان أبدا..
 
الدين يشمل عبادة الله والتطهير الروحاني، وأن المرء حين يخلو إلى الله، فهو في حضرة الله، لا يكذب ولا يراوغ ولا يناور، بينما العكس في السياسة كل شيء فيها موجود، وفي مقدمة ذلك الكذب والافتراء، والمراوغة والمناورة، فكيف نجمع بين الدين والسياسة؟ بين الطهارة والمكر؟
 
الدين هو دين الله وليس لله! لأنني لا أتفق مع هذا المصطلح.. الدين لله بل هو دين الله وهذا الدين يشترك فيه كل البشر حتى العصاة والملحدون، كل يدين بدين يراه مناسبا، حتى الإلحاد دين.. الدين هو الضمير، ومن لا ضمير له لا دين له.
 
سامية البحري: فشلت الأحزاب الدينية في ممارسة السياسة فشلا ذريعا حتى أنهم كلما دخلوا أرضا خربوها ودمروها وأتوا على الأخضر واليابس... إلى أي مدى تصح هذه الأطروحة بالقياس على الخارطة العربية؟
 
عبد النبي الشراط: هذا السؤال له ارتباط بما سبقه، وقد أجبت ضمنيا على أهم فقراته، لكنني أضيف أن ما نسميه بالحركات الإسلامية أو الأحزاب الدينية، إنما هي حركات كهنوتية لا تختلف كثيرا عن ممارسات رجال الدين المسيحي في القرون الوسطى.. زمن سيطرة الكنيسة على الحكام والمجتمع، هذه الأخيرة كانت توزع ما يسمى صكوك الغفران، ورجال الدين المسلمين يقومون بنفس الدور لحد الآن، وبذلك فهم يلوّثون الدين، الذي يجب أن يبقى نظيفا كما أسلفت..
 
حينما يصل الإسلاميون إلى الحكم باسم الديمقراطية فإنهم يوزعون غنائم على أتباعهم وشيعتهم ويحرمون بقية خلق الله وحينما يخرجون من الحكم يمارسون التقية ويتشدقون بالمظلومية والحل الوحيد لنظام الحكم في العالم العربي هو: الديمقراطية الحقيقية والعلمانية النظيفة
 
الحركات الإسلامية تدعي أنها تملك الحقيقة كاملة، وأن أتباعها هم الفرقة الناجية، بينما الآخرون مجرد عصاة ومذنبون ومجرمون، وطبقا لنظرية الإسلاميين التراثيين، فإن دونهم حلال أموالهم وأزواجهم وكل ما يملكون، ولو وفّقهم القدرُ في حكمنا الحكمَ المطلقَ لرموا ببعضنا في البحار واحتفظوا بالبعض الآخر عبيدا وخدما وجواري، وهذا هو الأخطر في مشروعهم التخريبي الكبير...
 
أما عن الفشل، فإن ما أراه، لحد الآن، أنهم حينما يصلون إلى الحكم باسم الديمقراطية والتعددية، فإنهم يوزعون غنائم على أتباعهم وشيعتهم ويحرمون بقية خلق الله، وحينما يخرجون من الحكم يمارسون التقية ويتشدقون بالمظلومية ويعودون للبكاء من جديد، وبطبيعة الحال يجدون من يصدقهم من الناس، ومن خرج من الحكم اليوم قد يعود له غدا ما دامت الديمقراطية قائمة، والتعددية مستمرة، ومن يقول إن الإسلاميين انتهى دورهم فهو متوهم.. ينتهي دورهم فقط بنشر الوعي وتسفيه أكاذيبهم باسم الله وباسم الدين الحق، وما عدا هذا فهم باقون معنا، ولن ينقرضوا أبدا كما يخيل للبعض.
 
الحل الوحيد لنظام الحكم في العالم العربي هو: الديمقراطية الحقيقية والعلمانية النظيفة.. ولأجل تحقيق ذلك يجب أن نقبل بالاختلاف في ما بيننا، وألا يَستعليَ أحدنا على الآخر فيدعي أنه هو الحق المطلق، تعالى الله عن هذا التشبيه.
 
سامية البحري: هذا يأخذنا للحديث عن تجربة الشراط وعلاقته بالإخوان، اسمح لي أن أفتح هذا الملف المدجج المربك... أشار الشراط، في روايته السيرة الذاتية (عقبات وأشواك)، إلى مسائل عديدة في هذا الباب، لكنها ظلت ضبابية... ما علاقة الشراط بتنظيم الإخوان؟ لماذا خرج عليهم؟ هل انقلبوا عليه أم انقلب عليهم؟ وكيف يُقيّم الشراط هذه التجربة التي عاشها؟ لو عاد الزمن بك إلى الوراء، هل كنت تمحو هذه التجربة؟ ماذا تقول لهم اليوم في رسالة نقدية توعوية إصلاحية وبلسان من خبر دهاليزهم وأفكارهم المدمرة؟؟
 
عبد النبي الشراط: للتوضيح: ليست لي علاقة مع الإخوان، إذا كنت تقصدين التجربة المغربية، حيث لا يوجد عندنا تنظيم بهذا الاسم في المملكة على الإطلاق، لكن الجماعات الإسلامية المغربية المتعددة، لها ارتباط بتنظيم الإخوان المسلمين، هذا التنظيم المصري الخالص، الذي اصبح عالميا في ما بعد.
 
أنا كنت سلفيا وهابيا، وكنت داعية من الدعاة، واعتليت منابر الجمعة للخطابة فيها بحكم تكويني الديني، فللعلم أنا من حفظة القرآن الكريم، وكل دراساتي كانت في المعاهد الدينية لا غير.
 
في المعاهد الدينية، تلقينا تعليما جيدا، خاصة على مستوى اللغة العربية والعلوم الشرعية والمتون (متن الأجرومية، وألفية ابن مالك، ومتن ابن عاشر إلخ) ولم أندم لأنني لم أدرس في الجامعات...
 
كانت علاقتي مباشرة وجيدة جدا مع الشيخ عبد السلام ياسين، رحمه الله، منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي، والشيخ ياسين حينئذ كان يقود جماعة إسلامية متشددة تدعى (أسرة الجماعة)، وبعد منتصف الثمانينيات، غيّر اسمها لتصبح جماعة (العدل والإحسان)... وبالرغم من علاقتي القوية مع ياسين، عليه رحمة الله، لم أكن منتميا لجماعته، لا في شقها الأول ولا الثاني، وقد حاول جاهدا استقطابي لكنه لم يفلح، كان آنذاك في تنافس شديد مع (الجماعة الإسلامية) التي أسسها عبد الإله بن كيران بعد انفصاله أو طرده من جماعة (الشبيبة الإسلامية)، وهي أمّ الجماعات الإسلامية بالمغرب، وقد أسسها في السبعينيات الشيخ عبد الكريم مطيع، الذي ما زال إلى يوم الله هذا يعيش في المنفى..
 
كانت ميولاتي الدينية في العشرينيات من عمري سلفية وهابية مائة في المائة، والمتتبع لتاريخ الحركات الإسلامية يفهم جيدا الخلافات (وليس الاختلافات) بين كل هذه التيارات.. لقد تعلمت في مدرسة الوهابية أن كل شيء حرام، وكنت شديد الميول للنظام القائم آنذاك في المملكة العربية السعودية، إلى درجة أننا كنا نصوم رمضان حين يصومون ونفطر حين يفطرون.. وهذا موضوع طويل جدا قد لا يسعه الحديث هنا..
 
أما تجربتي في الحقل الديني، فقد كانت جيدة، واستفدت منها الكثير وتعلمت من خلالها الكثير.. وأنا لست نادما عن أي تجربة خضتها في حياتي، فكل تجربة تعلمك أشياء، فقط استخدم عقلك وقيّم ما يُلقى عليك وما يلقّن لك وما يقال لك.. أما ما يمكنني قوله الآن لهؤلاء، فإنني أرى أن كل شخص متدين تدينا وراثيا عليه أن يبحث عن الحقيقة في نفسه فقط، لقد حبانا الله بالعقل، والعقل حتما يقودنا إلى الحقيقة، والحقيقة المطلقة هي الله، وما جاء عن الله بواسطة الأنبياء والرسل في ما يتعلق بالإيمان والعمل (الذين آمنوا وعملوا الصالحات...).. أما كلام الشيوخ والفقهاء، الذين يعتقدون أن الله منحهم وكالة خاصة لتفسير الدين للناس، فيبقى مجرد وهم، هذا الوهم الكبير الذي نشره بين الناس الحكام والخلفاء الأمويون والعباسيون وأصبح هو الدين الآن... قد يُصدم الكثيرون حين يسمعون أن أغلب الطقوس الدينية، التي يعتبرها الناس دينا من عند الله، إنما هي صناعة عباسية خالصة، ولنا في خلق القرآن من عدم خلقه مثال واضح، وقيسي على ذلك...
 
إن الله يقول (ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مذكر). وهؤلاء الشيوخ عقّدوا دين الله وصعّبوه على خلقه، حتى أضحى الكثيرون يخرجون من دين الله بسبب بلاويهم وفتاويهم المقرفة.
 
كلام الشيوخ والفقهاء، الذين يعتقدون أن الله منحهم وكالة لتفسير الدين، يبقى مجرد وهم، وأغلب الطقوس الدينية، إنما هي صناعة عباسية خالصة، لقد عقّد هؤلاء الشيوخ دين الله وصعّبوه على خلقه، حتى أضحى الكثيرون يخرجون من دين الله بسبب بلاويهم وفتاويهم المقرفة
 
في القرآن الكريم (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا) صدق الله.
 
فلماذا كل تلك التعقيدات التي أدخلوها في ما يسمونه الوضوء؟ كلمة وضوء لم ترد في القرآن فمن أين جاؤوا بها؟
 
هذا غيض من فيض. وبالمناسبة، أنا أدعو، من خلال هذا الحوار، إلى إعادة قراءة القرآن الكريم فقط، ففيه كل التفاصيل الإلهية، ولن نحتاج إلى شيوخ (ما فرطنا في الكتاب من شيء).
 
إن الشيوخ والفقهاء والدعاة أفسدوا على الناس دين الله.. كفى..
 
سامية البحري: نبقى في حقل السياسة وعلاقة الشراط بجملة من المفاهيم.. كشفت رواية (عقبات وأشواك) في تجربة السجن عن جوانب نفسية بسيكولوجية وإيديولوجية واجتماعية لكل رمز من رموز النظام الذي يمثله، من الاخوان إلى اليسار.. فبدا الشراط منتصرا أكثر إلى رموز اليسار، الذين وجد فيهم بعض الرحمة أو بعض الإنسانية، التي لم يجدها في دعاة الدين وأصحاب الفتاوي الضالة، هل كان ذلك محاولة للانعتاق من تجربة مظلمة دفع في سبيلها الكثير ورغبة في التخلص من ترسّبات مرحلة اتسمت بالضياع والدمار؟؟ أم هو مغازلة لليسار والاقتراب من عوالمه؟؟
 
عبد النبي الشراط: لم أنتصر لا لليسار ولا لليمين ولا للإخوان، بل انتصرت للحقيقة كما بدت لي واضحة، وأن من يرى الحقيقة ويتجاهلها بدعوى الانتماء أو القبلية والعصبية والحزبية حتى، يعتبر من الضالين، علاقتي مع اليساريين بنيت على علاقات إنسانية محضة، بغضّ النظر عن الدين والأيديولوجيا والفكر في شموليته، القصة وما فيها أنه خلال اعتقالي سنة 1983، ومحاكمتي سنة 1984، أن النظام القائم آنذاك ربط ملفي بملف الشيخ عبد السلام ياسين، الذي كان قد سبقني إلى سجن لعلو بالرباط، وقبل ولوجي المعقل السجني، كنت قد قضيت أكثر من شهر بمفوضية الشرطة المركزية بالرباط، وخلال إقامتي هناك التقيت مع بعض اليساريين، وللحقيقة كان وما زال فكرنا مختلفًا.. وأنا لم أفكر أن أكون يساريا يوما ما، ولحد الآن تربطني علاقة جيدة جدا ببعض أقطاب اليسار، والاحترام متبادل بيننا، وقد سردت في روايتي (عقبات وأشواك) بعض هذه المحطات، في بداية الأمر صدمت بتعامل بعض أطفال اليسار مع معتقداتي، مثلا حينما كنت أرغب بأداء الصلاة، كانوا يزعجونني، فنحن كنا أول الأمر تحت سقف زنزانة واحدة تضم أكثر من ثلاثين معتقلا، وخلال أداء الصلاة كان هؤلاء الأطفال يضعون أمامي أي شيء مقرف.. وكان قادتهم يلومونهم على ذلك..
 
ولكنني بدل الصدام معهم، فتحت معهم حوارات، ولم أكن أناقش معهم الدين، بل كنت أناقشهم في عقر دارهم، وهي الماركسية اللينينية، اكتشفت أن هؤلاء لا يفقهون في (دينهم) شيئا، فكنت أشرح لهم الفلسفة الماركسية وأحلل معهم مقولات ماركس وإنجلز ولينين وأسباب الخلاف بين الماركسية الصينية والماركسية السوفياتية، وكنت أطلب منهم أن يأتوني بدليل أن ماركس كان ملحدا أو لا دينيا، فيكون ردهم البسيط أن ماركس قال (الدين أفيون الشعوب) وهذه المقولة تشبه عندنا (فويل للمصلين)، لقد اقتطعوا كلمة صغيرة من كلام كبير، فلماذا قال السيد ماركس الدين أفيون الشعوب؟
 
كان الرجل والمفكر الكبير كارل ماركس، رحمه الله، يعيش في ألمانيا، وهي جزء من أوروبا المظلمة آنذاك، وكانت الكنيسة مسيطرة على كل شيء، حتى على ملوك أوروبا باسم الدين، وبطبيعة الحال كان الإقطاعيون يستعبدون بقية البشر خاصة الفقراء والمعدمين منهم، وحينما كانت هذه الفئة من خلق الله تلتجئ إلى الكنيسة للشكوى من الظلم، كان رهبان الكنيسة وقساوستها يطمئنون هذه الفئة المسكينة بأن لهم نعيم الجنة والخلود فيها، فكان الناس يطمئنون لقول الكنيسة هذا، فيشعرون بارتياح، لكن ما هو الأفيون؟ الأفيون نبات كان يستخرج منه دواء لعلاج صداع الرأس مثل حبات (الأسبرين ودوليبران) الآن، فشبّه ماركس الأفيون الذي يشفي صداع الرأس بأفيون الكنيسة، الذي كان أيضا يشفي نفوس الناس.. هذه قصة الدين أفيون الشعوب، لقد كان كارل ماركس مفكرا اجتماعيا عظيما، ولكن الماركسيين العرب حرّفوا أقواله وفلسفته مثلما حرف الفقهاء ديننا..
 
لم تستمر معاكسة الأطفال لي كثيرا فأصبحوا أصدقاء لي وباتوا يحترمون معتقداتي، وخلال صلاتي كانوا يصمتون نهائيا وبعضهم كان يرغب أن يناقش أمور الدين والكثير من هؤلاء تخلوا لاحقا عن الماركسية بل كفروا بها. إذن لم تكن هناك رحمة ولم يكن مني استعطاف، بل كانت هناك أفكار لا غير. وأنا لم أكن ضائعا ولم أشعر بالضياع في كل مراحل حياتي، بل كنت وما زلت قويا والحمد لله.
 
سامية البحري: هل يمكن أن نرى يوما الشراط يعلن عن ميلاد حزب سياسي يكون تحت قيادته وبأفكاره التي يؤمن بها؟ بمعنى هل يدخل الشراط يوما إلى "مستنقع" السياسة بعناصر جديدة ورؤى مختلفة بوازع الوطنية فحسب؟؟؟
 
عبد النبي الشراط: لا أومن بالأحزاب، ولا أسعى لتأسيس حزب سياسي، ولا أرغب بقيادة أي تنظيم حزبي سياسي، وأدخر ما تبقى من عمري للعمل الثقافي والفكري...