الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

العبيد في مغرب الأمس القريب.. 10- العبد عين السيد وامتداد لسلطته

 
حلقات يعدها الزميل محمد الخدادي عن العبيد في مغرب الأمس القريب
 
 
في إطلالة على عالم العبودية من ماض قريب، نقدم في حلقات رصدا لبعض مظاهر العبودية والرق بالمغرب في القرن التاسع عشر، بالاعتماد على كتاب للباحث المغربي السوسيولوجي محمد الناجي، عن "الجنود والخدم والجواري"، صدر في طبعة ثانية باللغة الفرنسية عن "منشورات إديف" عام 1994.
 
 
10- العبد عين السيد وامتداد لسلطته
 
اختص العبيد ذوو الكفاءات الذهنية والجسدية المتميزة بوظائف حساسة، داخل البيت وخارجه، في المدينة كما في البادية، كامتداد لعين السيد وأذنه، وبالتالي لسلطته.
يبدأ أول تمظهر لهذه السلطة من الباب الخارجي الرئيسي للدور الكبرى والقصور، حيث ينتصب حراس أقوياء البنية، وغلاظ الملامح والسحنة، كل ما فيهم يوحي بهيبة صاحب المنزل. هذه المظاهر من أبرز الطقوس التي أثارت انتباه الرحالة الأوروبيين، إذ سجل الأخوان الفرنسيان، جان وجيروم تارو، في مراكش وفاس "الشبه الكبير بالبيوت الكبرى في الأمبراطورية الرومانية، من خلال وجود حجرة صغيرة، تقع مباشرة خلف المدخل الرئيسي للمنزل، تؤوي عبد الحراسة في الليل".
جمع العبيد الواقفون على أبواب قصور كبار المسؤولين في الدولة بين قوة العضلات، وضخامة البنية، تبعا لتقاليد مرعية متوارثة حسب الطقوس المخزنية، من دون أن يتجاوز مجال مهمتهم وسلطتهم البوابة الخارجية، بحيث لا يدخلون أبدا إلى القصر أو الدار، وأدى مهمة الوصل بينهم وبين الداخل أطفال من العبيد السود، الذين يتنقلون بحرية، وينقلون الطلبات والأوامر، ويجري استبدالهم بانتظام، بمجرد ظهور علامات المراهقة على وجوههم، وفي نظراتهم، اتقاء لأي مغامرة.
استمد البوابون من هذه الوظيفة الاستراتيجية قوة معنوية، واعتدادا بالذات، إلى درجة العجرفة في مواجهة الزوار غير المرغوب فيهم من طرف السيد.
في عام 1871 أدت إجراءات ضريبية قاسية في فاس فرضها أمين المال، (المسؤول عن الرسوم الجمركية المعروفة باسم المكس)، محمد بنيس، إلى ثورة الدباغين، في بداية عهد السلطان المولى الحسن الأول، فقصدوا غاضبين دار المسؤول للاحتجاج، إلا أنهم اصطدموا ببوابه الذي "شتمهم، ونعتهم بكل الأوصاف الساقطة، ثم أغلق الباب في وجوههم، وتوجه إلى الداخل، قبل أن يعود حاملا بندقية، وجعل يطلق البارود في الهواء فوق رؤوسهم، الأمر الذي زاد من غضبهم وثورتهم"، كما يفصل في ذلك عبد الرحمان بن زيدان في كتاب "إتحاف أعلام الناس بأخبار حاضرة مكناس"، وغيره من المصادر المغربية.
مقابل الحراسة المادية والمعنوية، استفاد البوابون من امتيازات ومكافآت سخية، لكنهم لم ينفردوا بالقوة في تراتبية السلطة، فبمجرد اجتياز مدخل الدار أو القصر، يجد الزائر نفسه إزاء خادم آخر، لا تقل وظيفته أهمية عن حارس الباب.
يقول جيروم تارو عن زيارته لأحد قصور القايد الكلاوي في الأطلس الكبير "سرت خلف عبد أسود يحمل حزمة من المفاتيح الضخمة، وهو يفتح أمامي الأبواب واحدا تلو الآخر، بحيث يغلقها بمجرد دخولي، ويقودني، في بداية الليل، عبر دهليز من الردهات والممرات، بعضها مسقوف والبعض الآخر مكشوف. ثم صعد أمامي، وأنا أتبعه، أدراجا ضيقة، وفتح أبوابا أخرى، وأخيرا أدخلني إلى غرفة ضيقة وطويلة".
يتعلق الأمر في الطقوس المخزنية بـ"خادم المفاتيح" (مول السوارت)، وهي وظيفة اقتصرت على الدور الكبرى، حيث لا يمكن للسيد أن يحمل المفاتيح بنفسه، بسبب مقامه ولكثرة انشغالاته.
كما تولت النساء، أيضا، وخاصة المتقدمات نسبيا في السن، مهمة الائتمان على مفاتيح خزائن المؤونة والمواد الغذائية في الدور الكبرى، بحيث لا شيء يخرج عن مراقبتها.
إن درجة ثقة السيد في هذه الفئة من الخدم العبيد منحتهم ما يمكن اعتباره سلطة اقتصادية واستراتيجية، جعلتهم يتصرفون أحيانا كأشخاص أحرار. ويورد المختار السوسي في كتاب "المعسول" نماذج لهذه القوة، مثل مشرف على خزين مؤونة، أعطى أحد طلبة القرآن قسطا من الزيت من دون استشارة السيد صاحب الدار، وأكثر من ذلك تزوج امرأة حرة، رغم أنه مملوك كعبد، وتلك من الأمور النادرة في القوانين المنظمة للعلاقة بين العبيد والأحرار.
لم تقتصر المهام الخاصة والحساسة الموكولة للعبيد على المجال الداخلي، فقد أسندت للبعض منهم أعمال في غاية الأهمية الاقتصادية، مثل الإشراف على أعمال السيد وتسييرها في التجارة أو الفلاحة. وتتحدث المصادر المغربية عن حالات كثيرة في هذا السياق، مثل خادم أحد أعمام السلطان المولى الحسن الأول، الذي قضى سنوات كثيرة في تسيير أعماله والإلمام بكل ما يتعلق بها، حتى أن الورثة تخوفوا من استحواذه على الثروة عند وفاة السيد. وخادم آخر في ملكية أحد كبار الفلاحين، توفي من دون أن يخلف ورثة، فباع العبد أراضيه من دون أن ينازعه أحد.
في الزاويا وأضرحة كبار الأولياء أيضا، تولى العبيد وظائف الإشراف على الثروة وتسيير الأعمال. ففي الزاوية الناصرية الشهيرة بتاحنصالت، في سوس، بلغ عبد يسمى بلخير مرتبة متقدمة في مسؤولية التسيير، وعند وفاة شيخ الزاوية، دخل ابن الهالك وأحد أعمامه في صراع على الخلافة، فسعى كل منهما إلى التقرب من بلخير لكسبه إلى جانبه في المعركة، ووردت حيثيات الصراع في شكاوى الطرفين المرفوعة إلى السلطان الحسن الأول.
وفي شمال البلاد، بزاوية المولى إدريس في زرهون، تحدث الرحالة الفرنسي، الراهب شارل دو فوكو، عن دور عبد كلفته الزاوية بمرافقته كدليل في إحدى جولاته، بحيث "لم يتخلف أي شخص صادفناه في الطريق عن تقديم فروض الاحترام والتقدير لخادم الزاوية، كان الجميع يسلم عليه ويتحدث إليه، وأغلب الناس يقبلون يده".