حلقات يعدها الزميل محمد الخدادي عن العبيد في مغرب الأمس القريب
في إطلالة على عالم العبودية من ماض قريب، نقدم في حلقات رصدا لبعض مظاهر العبودية والرق بالمغرب في القرن التاسع عشر، بالاعتماد على كتاب للباحث المغربي السوسيولوجي محمد الناجي، عن "الجنود والخدم والجواري"، صدر في طبعة ثانية باللغة الفرنسية عن "منشورات إديف" عام 1994.
7- العبيد الضحية المفضلة للأمراض الفتاكة
تداخلت قسوة ظروف العيش، وسوء المعاملة، والإهمال، مع الأشغال الشاقة، وهي الخلفية التي تفسر أصلا واقع العبودية، باعتبار العبد "أداة إنتاج ناطقة"، لتجعل هذه الفئة عرضة لكل أنواع الأمراض، بما يشكل خسارة مباشرة للمالك، الذي يفقد في العبد الهالك أو المريض سواعد العمل، ومصدرا للمال عن طريق البيع.
لكن يد السيد طويلة، فهو الأقوى بقوة القانون والشرع، ويستطيع غدا استرجاع عبد إلى خدمته بعد أن يكون قد ألقى به بالأمس بسبب المرض.
هكذا يسرد أحدهم قليلا من محنته في المرض والمطاردة: "أصابني داء كاد أن يزهق روحي، فلما عجزت عن العمل طردني سيدي، وعندما شوفيت من مرضي لجأت إلى العمل عند بوبكر الغنجاوي (أحد قواد الأطلس في ضواحي مدينة مراكش)، فلما رآني سيدي الأول وقد تحسنت حالتي واسترجعت قواي، سعى إلى استعادتي".
ولعل صاحبنا كان محظوظا بالإفلات من الموت أثناء مرضه، لأن بعض الأسياد لم يترددوا في التخلص من العبيد المرضي في حالة متقدمة، بهذه الطريقة أو تلك، بما في ذلك تسريع الوفاة بالتسميم أو الخنق.
أما البعض الآخر من الأسياد فيفضل "تسمين" العبيد المرضى بالأكل الزائد عن حاجة أجسادهم، على طريق المواشي، لبيعهم بأغلى الأثمان، قبل أن يخطفهم الموت منه.
وتتحدث الوثائق عن حالات كثيرة في هذا السياق، مثل عبد مصاب بمرض السل أثار سعاله انتباه مشتريه، لكن البائع أقسم بأغلظ الأيمان أن "مبارك لا يعاني إلا من زكام خفيف، أصابه صباح اليوم نفسه". وحالة أمَة أحضرها مالكها إلى سوق النخاسة لبيعها، وكان معروفا أنها مصابة بمرض السيفليس.
لكن، ومن حسن حظ العبيد، لم يكن كل الأسياد من الطينة نفسها، بل وجد الكثير من "الطيبين"، إن لم يكن من باب الإنسانية والورع، فعلى الأقل بدافع الحفاظ على "الدابة الناطقة"، بقدر ما يحرص مالك القطيع على سلامة ماشيته. ومن هذا المنطلق، حرص أغلب مالكي العبيد على توفير العلاج الضروري للمرضى منهم بمجرد ظهور أعراض المرض، وأدى الأقل ثراء منهم المهمة بأنفسهم، بتوفير وصفات الأعشاب الطبية، والكي بالنار والحجامة، و"التسبب" عند فقهاء المساجد، على عادة رب البيت في سائر الأسر.
بطبيعة الحال، لم تكن نتيجة التداوي إيجابية في جميع الحالات، وتتحدث الشهادات عن عبيد أخضعوا للكي على إثر آلام في البطن، فتعفنت جروحهم وماتوا.
أما عبيد الأسياد الكبار والمخزن، فهم أوفر حظا في التداوي، بإحضار المعالجين التقليديين، وحتى أطباء العصر. واختص، عادة، المسيحيون، الذين اعتنقوا الإسلام بعد أسرهم في القرصنة البحرية للخروج من وضعية الاسترقاق، في ممارسة الحلاقة، إلى جانب معالجة الأمراض الخفيفة، بينما تطلب علاج الأمراض الأخطر أطباء أكثر خبرة.
وتتحدث الرسائل المخزنية عن أفواج العبيد، من الرجال والنساء المرضى، يغادرون قصر السلطان من أجل الاستشفاء، يجري توجيه النساء إلى البادية، حيث يتكفل بهن قائد المنطقة.
وإذا كانت الوثائق تسهب في الحديث عن المرض والتداوي، فهي لا تحدد دائما طبيعة الداء، لكن الجذري يحتل موقعا بارزا، من خلال ذكر البثور الدائمة التي يخلفها على وجه المصاب. وكان اللقاح المضاد للجذري معروفا في المغرب منذ القرن التاسع عشر، حيث وفد من بريطانيا عبر مصر، إلا أن استعماله لم ينتشر على نطاق واسع، وما كان للعبيد وعامة الناس أن يستفيدوا منه.
كما لا يرد في المصادر ذكر أمراض خاصة حصرا بالعبيد، ولو أن الرحالة الفرنسي، أوغست مولييراس، أورد في كتابه "المغرب المجهول" (1899) فكرة مسبقة عن نوع من الجنون يصيب السود في فترة محددة من السنة، يسمى "البوري"، بينما تؤكد وثيقة معاصرة للأحداث الأصل الإفريقي لهذه التسمية. (تحدث مولييراس بكثير من الدقة والتفاصيل عن الحياة الاجتماعية في المغرب، خاصة في المنطقة الشرقية وشمال حوض سبو، من دون أن يزور المغرب أبدا، إذ كان مستقرا بالجزائر، واعتمد في كتابه على رواية شخص مغربي، سماه علي الريفي).
مرض آخر يثير الانتباه انتشر بين النساء من المحظيات والجواري، وتحدثت عنه الوثائق باسم "حَب الإفرنج"، ويتعلق الأمر بمرض السيفليس، ووقع الخلط بينه وبين الجذام بسبب تشابه الأعراض في المراحل المتقدمة من الدائين.
هكذا يقدم تشخيص مزامن من وضع أطباء ذوي خبرة مرض السيفليس لدى امرأة معروضة للبيع: "إنها مصابة بحبوب الإفرنج، التي تغطي كل جسدها، بينما بعضها انفجر داخل الجسم حتى أن الصديد يسيل عبر الدبر, يتعلق الأمر بنوع من الجذام".
وتسجل تقارير الأطباء الغربيين آنذاك افتقار المغاربة لدواء ضد السيفليس ، "فهم لا يعرفون شيئا عن مزايا الزئبق، إلا أنهم يتناولون بعض الأدوية ذات الفعالية في تخفيف الآلام". وكان العلاج بالزئبق عرف في المغرب منذ القرن الثامن عشر، لكن يبدو أنه أهمل لاحقا لفائدة أعشاب ومياه حامة مولاي يعقوب، وحصلت حالات شفاء، ولو أنها قليلة بالقياس إلى الوفيات.