الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

العبيد في مغرب الأمس القريب.. 4- جواهر سوداء نادرة في بيوت الأغنياء

حلقات يعدها الزميل محمد الخدادي عن العبيد في مغرب الأمس القريب
 
في إطلالة على عالم العبودية من ماض قريب، نقدم في حلقات رصدا لبعض مظاهر العبودية والرق بالمغرب في القرن التاسع عشر، بالاعتماد على كتاب للباحث المغربي السوسيولوجي محمد الناجي، عن "الجنود والخدم والجواري"، صدر في طبعة ثانية باللغة الفرنسية عن "منشورات إديف" عام 1994.
 
 
4- جواهر سوداء نادرة في بيوت الأغنياء
 
لما كان العبيد موعودين لمهام مختلفة، تتراوح بين العمل اليدوي الذي لا يتطلب إلا قوة العضلات، ومهام أخرى، تتطلب مهارات ذهنية، والأعمال المنزلية الجامعة بين الطبخ والعناية بالأطفال، والخدمات الخاصة في حجرات نوم الأسياد... اختلفت أيضا وسائل وتكاليف التربية للحصول على الخادم المثالي، أو الجارية الأفضل.
حافظ كل من المخزن والدور الكبيرة، من أرستقراطية تجارية، وفلاحين كبار، وقواد، على تقليد قديم، يعود إلى عصر الموحدين على الأقل (القرن الثالث عشر) في الحصول على جوار ومخصيين من مستوى عال في المهارة. كما تخصص تجار رقيق في توفير "البضاعة" الجيدة من سود وبيض من أصول أروبية كذلك، وهم على مشارف الطفولة، لكي يتكفل بتكوينهم مربون في مختلف المجالات، تبعا للوظيفة المنشودة.
وشمل التكوين والتعليم الأدب، والنحو، والموسيقى، والطبخ، وفنون الحرب، في تقليد يعود إلى الحقبة الأندلسية، حيث تخصصت نساء مسنات بمدينة إشبيلية في إعداد الجواري لحساب كبار الأعيان، بتلقينهن فنون العزف، والغناء، والطبخ، والطرز، بالإضافة إلى "آداب السرائر"، أي القواعد المطلوبة في سرير النوم مع السيد.
تشهد مآدب الأطباق الرفيعة والمتنوعة في قصور السلطان وكبار القواد، في الأعياد الدينية والمناسبات الرسمية، على مهارة صانعاتها من العبيد، وطالما انبهر الزوار الأوروبيون، وكذا صغار القواد من المناطق النائية، بجودة وتنوع الموائد المخزنية.
في عام 1898 وجه مسؤول كبير بالدولة (شقيق الصدر الأعظم، أي الوزير الأول) طلبا لصديق له في تطوان من أجل اقتناء "أربع عبدات تطوانيات من الصنف الممتاز، يتقنن صنع الحلويات والطبخ على الطريقة التطوانية. لا بد أن يكن من أحسن ما يوجد في البلاد، ولذلك نطلب منك أن تقوم باللازم، حتى تتوفر فيهن الشروط المطلوبة".
ولأن إماء بتلك المواصفات لا يمكن أن توجد إلا في بيت قلة من أغنياء المدينة، وثمن بيعهن مرتفع بالضرورة، فقد تعذر على الصديق تلبية طلب المسؤول المخزني بالسرعة المطلوبة، واضطر لتكليف شخص بالبحث عن "الجوهرة" النادرة.
ولتفادي الخصاص والأزمات، حرص المخزن أحيانا على إرسال فتيات إلى قواد المناطق وتكليفهم، بواسطة رسائل رسمية توضح الأمور المطلوب تلقينها، بالسهر على تكوين نساء الطبخ والأشغال المنزلية، فيجري توزيعهن على الدور الشهيرة بالمدن، قبل إرسالهن إلى القصر بعد اكتمال التكوين. وكانت فترة التكوين تطول عادة، وتنتهي بما يشبه شهادة من الأسرة المتكفلة، تؤكد المهارات التي اكتسبتها الفتاة في مجال الطبخ والعجائن والحلويات وغيرها. وفي الرباط، مثلا، اشتهرت عائلات، مثل بركاش وفرج وغنام وبنعبد الله، في تكوين نساء المخزن.
إلا أن الجارية الموعودة للطبخ وأعمال البيت، ومهما غلا ثمنها وارتفع الطلب عليها، لا تعادل في القيمة والمكانة المحظية الفنانة في الموسيقى والغناء في المجالس الخاصة. ولا شك أن كل الأسياد والأعيان تطلعوا إلى تأثيث بيوتهم بهذه النخبة الرفيعة من العبيد، على طريقة ألف ليلة وليلة، رغم بعض الكتابات التي نفت وجود الجواري المتعلمات والمغنيات في المغرب.
لعل الندرة هي التي تفسر منحى النفي، خاصة وأن حضورهن في الوثائق المعاصرة للفترة نادر، ولا يظهرن إلا من خلال القراءة خلف السطور في التعابير التعميمية. ثم إن المالكين ما كانوا ليستعرضوا جواريهم العالمات والعازفات، خوفا من إثارة غيرة الأقوياء وشهيتهم للسطو عليهن، بالترغيب والشراء أو بالقوة. وتحدثت الوثائق عن جارية في الجديدة، اشتهرت بالعزف على العود، والإلمام بالأدب والشعر، ما أثار اهتمام قائد المنطقة، الذي ألح على صاحبها في بيعها، وبعد محاولات عدة اقتناها بألف ريال، وهو مبلغ كبير في حينه.
في مدينة أخرى، وجد ببيت أحد الشرفاء عدة جوار يتقنن العزف والغناء، وأبدى رغبة في إهداء أربع منهن للسلطان، وورد في رسالة وسيط في العملية أنهن "بارعات في فنون الموسيقى، فسيدهن حريص غاية الحرص على تربيتهن، وهو يرغب في إهداء أربعة للقصر الشريف، إحداهن تجيد العزف على العود، والثانية على الرباب، والثالثة على الكمنجة، وعلّمت الأخريات، وهي أيضا أكثرهن تفقها في الدين، كما تحسن لعبة الشطرنج. أما الرابعة فتحسن الإيقاع على الدف".
هكذا لم يكن العثور على جوار بهذه المواصفات بالأمر اليسير، فهن لا يعرضن في الأسواق العادية للرقيق، واقتصر وجودهن على بيوت كبار رجال الدولة، وقلة من الأغنياء والأعيان. وتحدث مؤرخ الدولة العلوية، عبد الرحمان بن زيدان، في "إتحاف أعلام الناس بأخبار حاضرة مكناس"، عن اهتمام السلطان المولى محمد بن عبد الرحمان (1859- 1872) وبعده ابنه السلطان المولى الحسن (1872- 1894) بالموسقى، وكلف الأول أحد أشهر الموسيقيين في عهده، المعَلم المنصوري، بتكوين بعض الجاريات لحساب القصر في صنعة العزف.