الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

العبيد في مغرب الأمس القريب.. 8- المخزن لا يتخلى عن عبيده

 
 
حلقات يعدها الزميل محمد الخدادي عن العبيد في مغرب الأمس القريب
 
 
في إطلالة على عالم العبودية من ماض قريب، نقدم في حلقات رصدا لبعض مظاهر العبودية والرق بالمغرب في القرن التاسع عشر، بالاعتماد على كتاب للباحث المغربي السوسيولوجي محمد الناجي، عن "الجنود والخدم والجواري"، صدر في طبعة ثانية باللغة الفرنسية عن "منشورات إديف" عام 1994.
 
 
8- المخزن لا يتخلى عن عبيده
 
لم تشكل فئة العبيد استثناء أمام الأمراض والأوبئة، التي عرفها المغرب في القرن التاسع عشر والقرون السابقة، وهي مرتبطة عادة بدورات الجفاف والمجاعات. ورغم حديث بعض الرحالة الفرنسيين عن بعض الأمراض بين السود، فإن الوثائق المزامنة لا تذكر أمراضا خاصة حصرا بالعبيد. كما أن ظروف العلاج لا تختلف كثيرا بين العبيد والفئات الدنيا من الأحرار من عامة الناس، بل إن حظوظ العبيد أفضل في بعض الحالات، كما هو شأن عبيد المخزن.
بالإضافة إلى الطاعون، والتفويد، والجذري، انتشرت الأمراض التناسلية على نطاق واسع بين العبيد، وخاصة لدى الجواري المحظيات. أبرز تلك الأمراض السيفليس، الذي خلط المغاربة عموما بينه وبين مرض الجذام لتشابه الأعراض بين الداءين في المراحل المتقدمة. واقتصر العلاج على استعمال نوع من النباتات من فصيلة الزئبقيات، والمياه المعدنية، مثل حامة مولاي يعقوب. أما النتائج فظلت متواضعة، لكن سجلت حالات شفاء من السيفليس، ولو أنها قليلة، بقدر ما تشهد بنجاعة الوصفات العلاجية، فإنها تقدم دليلا على تعلق أغلبية الأسياد بعبيدهم، وخاصة من المحظيات ذوات المكانة الخاصة.
في رسالة توصية إلى أحد معارفه، يلح سيد في "البحث عن امرأة ذات دراية في أمر الطب، للسهر على علاج الجارية بالأدوية، والمداومة على الاستحمام وغسل الملابس... والقيام بكل ما هو مطلوب لكي تشفى". كما يلح في التحذير من تعرض المحظية للبيع، "وإذا حصل ذلك، لا بد أن تستعيدها بأي ثمن".
لم يواجه كل العبيد، إذن، مصير الإهمال والموت أمام المرض، كما أن نتائج التداوي لم تكن سلبية في جميع الحالات، حسب الشهادات المتزامنة، فقد أكد أطباء عصريون أن جارية مصابة بالسيفليس استعادت عافيتها بعد أن أرسلها حاجب السلطان إلى عامل مراكش من أجل العلاج، وأنها أنجبت بعد ذلك عدة أطفال.
لكن المرض يترك آثاره في غالب الأحيان، حتى بعد الشفاء، إذ يقول أحدهم إن "عبدي أصبح عاجزا عن القيام بأي عمل بسبب الآلام الفظيعة في يديه ورجليه". في مثل هذه الحالات، وتفاديا لخسارة كاملة، قد يعمد الأسياد إلى بيع عبيدهم بمجرد ظهور الأعراض الأولى للمرض.
أما المخزن، فقد نهج طريقا مغايرا تماما بعدم التفريط في المرضى من عبيده، أو اللجوء إلى بيعهم، ولجأ أحيانا إلى استقدام الأطباء ذوي الخبرة من جبل طارق، عند فشل العلاجات التقليدية، كدليل على الحرص، وعلى مكانة المرضى المادية أو المعنوية.
ولا شك أن للعامل السياسي والديني أيضا دورا في الحرص على العناية بالعبيد، باعتبار السلطان حاكما وإماما للأمة، أحرارها وعبيدها، وهو، بالتالي، مسؤول عن أحوال الرعية ومطالب بإعطاء المثال.
لدى الخواص من الأسياد أيضا، لم تقم العلاقة بين العبد والمالك على الجوانب المادية فقط، ولم تقتصر الروابط المعنوية والعاطفية بين الطرفين على المحظيات والجواري فقط، بل شملت أيضا جوانب أخرى من الحياة الأسرية، جعلت علاقة العبودية تكاد تختفي من السلوك اليومي، في حالات مربيات الأطفال (الدادة) والمرافقين والمنادمين للأسياد.
أثارت انتباه الزوار الأروبيين لبيوت الأسر البورجوازية في فاس مظاهر الثراء، وحركة الإماء السود المنتظمة في بروتوكول تتقاسم طقوسه عدة فتيات، واحدة مختصة في استقبال الزائر والترحيب بمقدمه، وأخرى تحضر عدة الشاي، وثالثة تسهر على غلي الماء، ورابعة مكلفة بإحضار طبق الحلويات.. وفي الرباط، تحدث مسافر فرنسي عن زيارته لبيت باشا المدينة، حيث سهرت على خدمته جاريتان سوداوان، "الأولى طويلة القامة، تحمل طبقا من النحاس، وطاسا تصب منه الماء بكثير من العناية على أيدي كل الزوار، أما الثانية، وهي أصغر سنا، فتسلمهم، بكثير من الحذاقة والرقة، فوطة لمسح الأيدي".
وتستدعي المناسبة أن تتزين الجواري خلال أداء هذه المهام "بأحسن الملابس، من القفاطين ذات الأكمام العريضة، المرفوعة بحمالات من الحرير، تكشف عن أذرع وسيقان ممتلئة ومتناسقة".
أما في البادية، فتسجل الكتابات الفرنسية حضور العبيد الذكور في بروتوكول الاستقبال، كما هو الشأن لدى أحد القواد الكبار في ناحية مراكش، حيث يقدم الطعام "عبدان يرتديان جبتي صوف بخطوط سوداء، نظرا لبرودة الطقس".
وعموما، فقد ارتبطت الحياة اليومية للعبد بطبيعة نشاط السيد ومشاغله، وقدم الأخوان الفرنسيان جان وجيروم تارو، في "فاس، أو بورجوازيو الإسلام" وصفا ضافيا لعلاقة الطرفين، ففي المدينة، عندما يحل المساء، يغلق التاجر دكانه، ويركب بغلته، قاصدا المسجد، متبوعا بخادمه المتمسك بذيل الدابة. وفي أيام العطل والأعياد، تقصد الأسرة ضاحية المدينة للاستجمام، إذ "يحمل العبد المجمر والفحم والرابوز وأدوات الشاي، وكذا أطباق الأكل، المعدة في البيت سلفا".
إن المعايشة اليومية لأفراد الأسرة أقامت روابط معنوية مع العبيد، رجالا ونساء، الذين شهدوا ميلاد أطفال البيت، وعايشوا نموهم، واستقبلوا وستروا أولى أسرارهم، فضلا عن أسرار الكبار.