الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

العبيد في مغرب الأمس القريب.. 5- العبد ملك لسيده ومرآة لصورته

 
حلقات يعدها الزميل محمد الخدادي عن العبيد في مغرب الأمس القريب
 
 
في إطلالة على عالم العبودية من ماض قريب، نقدم في حلقات رصدا لبعض مظاهر العبودية والرق بالمغرب في القرن التاسع عشر، بالاعتماد على كتاب للباحث المغربي السوسيولوجي محمد الناجي، عن "الجنود والخدم والجواري"، صدر في طبعة ثانية باللغة الفرنسية عن "منشورات إديف" عام 1994.
 
 
5- العبد ملك لسيده ومرآة لصورته
 
لم تخل فئة العبيد من اختلافات حادة في التراتب الاجتماعي و"الطبقي"، فكل المملوكين، من رجال ونساء، لم يكونوا حراسا ومرافقين ومؤنسين للكبار، بل إن الأغلبية الساحقة عاشت ظروفا قاسية، باعتبار العبد هو الآلة، أو وسيلة العمل الناطقة.
يقدم الكاتب الفرنسي أوجين أوبان، في "مغرب اليوم"، الصادر عام 1922، صورة عن المظهر الخارجي للعبيد السود، فالرجال منهم "حليقو الرؤوس باستثناء عرف (كَرن) صغير من الشعر الأشعث في قمة الرأس"، وقلة نادرة منهم بلحية كثة. وحملت الوجوه ندوبا عميقة، اقتصرت في الغالب على الخدين، ( لا شك أن هذا هو أصل التعبير الذي ما زال متداولا إلى اليوم: العبد مشرط لحناك). أما النساء، فقد انتشر بينهن تقليد الوشم الأمازيغي الأصل، وخاصة بين العينين، وعلى الذقن واليدين.
لما كان "العبد وما ملك مِلكا لسيده"، فهو أيضا مرآة تعكس المكانة الاجتماعية والاقتصادية للسيد، كما تخبر هيئة العبد نفسه عن مكانته وموقعه في بيت صاحبه. فخدم صغار الأسياد المحدودي الإمكانات لم تستر أجسادهم، عادة وفي كل فصول السنة، سوى الأسمال البالية والمهترئة، بينما تميز العبيد الموعودون للخدمات الامتيازية في الدور الكبرى بملابس تضاهي وتفوق ما يتوفر لأسياد زملائهم سيئي الحظ في الفئة الأولى. تحدث الأخوان الفرنسيان جان وجيروم تارو في " فاس، أو بورجوازيو الإسلام" ( الصادر عام 1930)، بإسهاب عن عبيد القايد المتوكي، جنوب شرق مراكش، بسوادهم الفاحم والجميل، في ملابس ناصعة البياض، وبأقراط كبيرة من الفضة في الأذن بحجم دملج. في فصل الشتاء يرتدون جلابة سكان الجبال، بأرضية رمادية وخطوط سوداء، وهم يشبهون في هندامهم عبيد القايد الشهير، المدني الكلاوي، في قصبة تالويت.
وللتميز عن عبيد أسياد آخرين، عرفوا أيضا برؤوسهم الحليقة، ما عدا خصلتي شعر حول الصدغين، وأخرى في أعلى الرأس، والأجساد الضخمة في قامات قصيرة.
لكن عبيد القواد الكبار وكبار الأسياد ما كانوا ليضاهوا الصفوة من عبيد المخزن، سواء في الملبس أو المأكل، وكل ما يتصل بشروط العيش. وتوضح المراسلات المخزنية لوازم المقتنيات الجديدة من الجاريات في "منصورية"، وهي لباس طويل فوق القفطان، وسروال ينزل من القامة إلى القدمين، ثم الحايك، وهو قطعة الثوب الكبيرة التي تغلف الرأس وكل الجسد فوق الملابس، لحجبه عن الأنظار والنظرات غير البريئة، بالإضافة إلى الجلابة والسلهام، اتقاء للبرد في فصل الشتاء، والبلغة، أخيرا، للقدمين، وعرفت ايضا باسم الرواحية.
أما الرجال من عبيد المخزن، فاستفادوا من القشابة (التشامير) بدون أكمام، على عادة مغاربة العصر، وهي من خيوط الصوف الدقيقة، مثل حايك النساء، وقميص داخلي بأكمام عريضة، ثم الجلابة الخارجية، والسلهام فوقها، والبلغة للانتعال، والشاشية كغطاء للرأس، وهي بلون أحمر.
وحرص المخزن بعناية على مد خدمه من العبيد سنويا ببذلة للشتاء وأخرى للصيف، (كما سيحصل لاحقا مع أفراد الجيش والشرطة وغيرهم من حملة الزي الموحد). وكان السلطان المولى عبد الرحمان بن هشام (1822- 1859) حريصا على هذا الجانب، إذ تؤكد رسالة منه إلى مسؤول في منطقة بأن يختار "أحسن الأنواع من الكتان الأبيض الرقيق، وتفصل منه 300 منصورية للباس خادمات القصر، تكون مخيطة بخيط الحرير، ولا بد أن تكون عريضة، بعضها بعرض سبعة أذرع ونصف ذلك في الطول، والأخرى بخمسة أذرع ونصف."
وفي الدور الكبرى للأسياد، انفردت الجواري بأجود الملابس، وأفضل المعاملات، وذلك منذ اقتنائهن، إذ تقدم لهن ثياب جديدة، من قفطان، وفوقيات، وحزام من الحرير، وبعض الحلي.
وبطبيعة الحال، ترتفع قيمة الملابس وتتنوع بقدر موقع الجارية في قلب السيد حسب مواهبها، لكنها تظل، في نهاية الأمر، ومن بعيد، دون مستوى ما لدى الزوجة الشرعية. ففي رسالة أحد الأعيان يحث أمين مال على السهر شخصيا على توفير ملابس لأهل البيت، ولتفادي أي خطأ يوضح المطلوب بدقة: "للزوجة للا فاطمة خمسة قفاطين من الجوخ وأربعة من الحرير، وعشر فرجيات من الكتان الرقيق، وأربع جلابات، وزوجين من البلغة".
أما الجاريات، فقد أوصى لكل واحدة منهن بقفطان من الجوخ وكُرزية ( تلف حول الرأس مثل العمامة أو السبنية)، ومنصوريتين.
خارج الملابس وبعض الحلي، لا تملك الجارية شيئا، مهما ارتفع مقامها عند السيد، ليبقى عزاؤها الأكبر في الامتياز والتميز في الملبس، والأكل، والنوم، عن بقية العبيد، نساء ورجالا، المسخرين للأعمال المنزلية، وكل ما يتطلب الجهد العضلي في البوادي والمدن.