الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

عزيز رويبح.. الفاعل الحقوقي والمحامي الذي يتأبّط شعرا ويحلم بالتغيير

 
أحمد نشاطي
 
عندما قرأت تدوينة للصديق والرفيق والفاعل الحقوقي والمحامي عزيز رويبح بعنوان "شذرات مما نهدف إليه على مراحل"، والتي جاءت بمثابة "دفتر تحمّلاتِ" محامٍ يترشّح لانتخابات هيئة المحامين بالرباط، تمازجت في ذهني الصور عن السي عزيز، الإنسان الخلوق واللطيف، والمناضل الصلب والعنيد، وكيف تتلاقح فيه هذه الصفات ليكون، كما عرفته، ذلك الحالم بالتغيير، بالتقدم، والبليغ في التعبير عن الحلم بتغيير العالم، بلاغة تتأطّر أحيانا بلغة المحامي المطبوعة بالمنطق والمرصوصة بألفاظ محسوبة بعقلانية، فيما يجد ملاذه، أحيانا أخرى، في لغة الشاعر، شاعر مشاغب بلغة منحوتة من تضاريس القلب والحب والأفق المفتوح على عالم جميل آتٍ لا ريب فيه...
 
 
ولعل هذا ما يفسّر الخلفية الفكرية والأدبية للسي عزيز رويبح، فهو ليس فحسب ذلك المحامي، الذي يقرأ ويتتبّع اجتهادات وأمهات الفقه والقانون والعلوم السياسية، فهو يقرأ مونتسكيو وروسو، مثلما يقرأ فطاحلة الأدب العالمي، من بودلير وألبير كامو إلى إرنست هومونغواي وحنا مينة ومحمود درويش وسميح القاسم وعبد الرحمن منيف ومحمد زفزاف وعبد القادر الشاوي...
 
هو لا يقرأ هؤلاء اليوم فقط، وإنما يعيد قراءتهم، وينتزع لحظات ليخلو إلى عوالمهم، مثلما فعل خلال مفتتح هذا العام (2023)، عندما أعاد قراءة رواية "زوربا اليوناني" لنيكوس كازانتزاكي، كان يلتهم صفحاتها بلهفة ومتعة وتمعّن وشوق، إلى أن وجد نفسه يستعيد صورا من حياته في الماضي البعيد، يقول عزيز رويبح: "كانت طفولتي ومراهقتي حرائقَ وآلامًا ومتعةً وغناءً وحلمًا دون ضفاف وخجل وضعف وهوان وقوة وتحدٍّ مرصع بكثير من الإقدام المحتشم الجسور على كل السلط، من الأرض إلى السماء"، ثم يعترف: "نعم كنتُ، كما اليوم تماما، أعشق يومي ولا أراه جميلا إلا مشتعلا بنار ولهيب أن أكون حرا ومتسائلا: كيف علي أن أكون في دوامة هذه الحياة الدوارة الفاتنة الفانية المقلقة الرائعة؟"...
 
هذه الشّعلة سرعان ما يلاحظها أي متتبّع لعزيز رويبح عندما يحل مشاركا أو ضيفا على تجمّع مهني، أو محاضرا في ندوة ما، تجده هادئا إلى أبعد حد.. ينصت بإمعان.. يميل برأسه قليلا، وقد يقطب حاجبيه لاستيعاب فحوى الخطاب.. يقف عند المصطلح، قبل أن تشرع دواليب تفكيره في تفكيك أبعاد الفكرة، وحين يتناول الكلمة، التي غالبا ما تكون مرتجلة، ينطلق بانسياب كشلال.. فهو متحدث متمكن من اللغة، بأسلوب مثير يشد المسامع، ونبرة قوية تخلف صدًى وأثرا عند المتلقي.. فضلا عن انتقاله السلس من فكرة إلى أخرى.. لمزيد من الوضوح والإيضاح والإقناع...
 
الذين يعرفون عزيز رويبح عن قرب، يقولون، وأنا واحد منهم، عن قناعة، إنه فاعل حقوقي صلب، كرّس حياته للدفاع عن الحقوق المواطنية والإنسانية، بما في ذلك مساهماته المشهودة في الدفاع عن حقوق المرأة، في أبعادها الكونية الحضارية، ليقينه التام أنها تعيش في بيئة حاضنة للعنف، ومُسَوَّرة بقوانين هشة تكرّس التمييز المقنّع وبقايا النزعة الذكورية... وعندما تسأل رويبح عن الدوافع الشخصية الكامنة وراء دفاعه المستميت عن المرأة والترافع من أجل تمكينها من حقوقها الأساسية، يجيبك بابتسامته المعهودة: "الداوفع بسيطة للغاية.. فقط ردّ الجميل للمرأة.. للنساء اللواتي عشت بينهن.. نساء بدويات بسيطات ومكافحات.. ولكل النساء المغربيات"... في حياة رويبح عديد النساء ممن أثّرن في مساره الحقوقي، ففضلا عن والدته، وكذا رفيقة دربه عائشة ألحيان، التي تقود، اليوم، اتحاد العمل النسائي، خلفا لجيل من الرائدات النسائيات من أمثال لطيفة اجبابدي وعائشة لخماس ونزهة العلوي، ثمة نساء عظيمات، إضافة إلى هؤلاء، تركن بصماتهن في مساره النضالي، أمثال فاطمة المرنيسي وعائشة الشنا، وكل الرواد، رجالا ونساء، الذين أعطوا بُعدا متقدّما للنضال من أجل الحرية والكرامة والمساواة والقضاء على كل أشكال التمييز القائم على النوع...
 
كما أن ذاكرة رويبح تختزن آثار تأثيرات نسائية منذ نعومة أضافره... دعوني أحكي قصة عزيز مع أستاذة فرنسية الجنسية كانت تدرّس اللغة الفرنسية، وهو تلميذ بثانوية ابن رشد في الرباط، عندما طلبتْ من الفصل كتابة "نص" حول "ذكريات الماضي وجمالها"... بسرعة وارتعاش ونشوة ودون تحفظ وبتمرد معلن، انتقد عزيز التلميذ عنوان النص، واعتبر النزوع لتمجيد الماضي يعيق الخيال ويكبّل استشراف القادم من الأيام، وأن الحديث عن اللحظة يعرّي حقائق الإنسان بصفاء وعري أنصع وألذ وأجمل... في الحصة الموالية، والتلاميذ يغادرون الفصل، اسْتبْقتْه أستاذته، دوّنت ملاحظاتها على الورقة، وكتبت وهي تبتسم: "أفكار كبيرة وأخطاء إملائية كثيرة، انتبه!"، ثم همست بلطف: "أتمنى أن أراك مستقبلا قصّاصا أو شاعرا"...
 
عندما استعاد عزيز المحامي (اليوم) هذه القصة (بالأمس)، خلص إلى القول في ما يشبه البوح: "خاب ظن أستاذتي الجميلة، ولم أصبح شاعرا ولا قصاصا، ولكن محاميا يطارد دخان صفحات المذكرة السنوية البغيضة، ويعاين مآسي الظلم والقهر المسلّط على الناس كل يوم، ويفعل ما يراه مواتيا ليكون كما يريد أن يكون: محاميا لا يخشى في كلمة الحق لومة لائم ولا لئيم، أما الشعر والأدب والرواية والفن، فهي وقود وغذاء الروح والأعصاب والجسد والحلم..."، قبل أن يؤكد: "في كل واحد منا شيء من زوربا"، زوربا المجنون والحالم، ككل الحالمين، من نيكوس كازانتزاكي إلى محمود درويش، بحقنا، جماعيا، في أن نعيش الحياة مهما استطعنا إليها سبيلا...
 
هكذا تتقاطع اللحظات والأزمنة في حياة عزيز رويبح، لتنتهي إلى هذا الكائن، ذي البذلة السوداء، الذي يحمل معه، باستمرار، هموم الدفاع عن حماة العدل، وعن مهنتهم، بميثاق مهني وأخلاقي، وعن إطاراتهم وهياكلهم وعن حقّها، وهو واجبها في الآن نفسه، في أن تكون هيئات مؤهّلة قوية مستقلة ذات مصداقية وذات قدرة على حماية المهنة ومواجهة كل تطاول عليها، وكل مساس برسالة الدفاع...
 
لا ينطلق عزيز رويبح، في خلفيته هذه، من فراغ، إذ هو، ككل المحاميات والمحامين الأوفياء لمهنتهم ولتاريخهم، يستحضر ذاكرة هيئات المحامين، بوجوهها وشموعها، بالأمس واليوم، التي بصمت، يقول عزيز رويبح، على تاريخ "مرصّع بطاقات وهامات وكفاءات عشقت المهنة حد التماهي مع قيمها ومبادئها، حلمتْ وقالتْ كلمتها عندما كان الحلم صعبا والكلام محاصرا، آمنت بأن مغربَ العدالة واستقلال القضاء، ومغربَ حقوق الإنسان والحريات، مغربٌ ممكنٌ ومستحقّ"... ويتابع القول إنهم "أجيال شامخة، برجالها ونسائها، لا ولن تُنسى رغم شدة الضباب المحيط بنا، أجيال أسدت في صمت، وأعطت بتواضع، وناضلت باستماتة، وكافحت بإيمان وتضحيات ودون مساومة"...
 
ولما قلت له، بمشاكسة محبّبة، إنه يقترب من الانتقال إلى الحلم، ردّ عزيز رويبح على الفور: بالأحرى "مطلب"، حلم-مطلب أن تكون "السياسة-الأخلاق، كما يشهد التاريخ، جسرا لخدمة المهنة وتمكينها وإعلاء شأنها دون استعلاء ولا تبخيس ولا تدليس ولا ضجيج، وليس مجرد قاعدةِ قفزٍ بالزّانة إلى مواقع الريع والمنافع، لأنه جيل أو أجيال كانت تؤمن، كما يؤمن الكثير منا اليوم، أن المحاماةَ-الرسالةَ، والمحاماةَ-البعدَ والمعنى، أبْقى وأعظم وأكبر من عوارض السياسة ومناصبها ومواقعها وتموجاتها وتقلباتها وإغراءاتها..."، هكذا تكلّم عزيز رويبح موضحا وحاسما، بكثير من الاعتزاز والتقدير، في حديثه عن تلك "الأجيال التي جعلت للمحاماة أصولا وتراثا وتاريخا، وأزهرت وأينعت وشمخت بعمق جذورها وقيمها في تربة وطن (حديث) العهد بالقانون والمؤسسات وبحقوق الدفاع وباستقلال القضاء وسلطته... تلك الأجيال، وأولئك الرواد علّمونا وأقنعونا، عن حق، أن المحاماة ليست مهنة كباقي المهن القانونية، كما أراده ما سمي بالميثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة، وكما يسعى إليه خصوم المهنة والحاقدون على سمو رسالتها وجرأة رجالها ونسائها، الشرفاء منهم ومنهن تخصيصا واستهدافا؛ بل هي رسالة بمهام وأهداف مرتبطة، في جوهرها وفي شكلها و(بذلتها) ومضمونها، بماهية دولة الحق والقانون، وبنصرة سيادة القانون وإعماله بوصفه أسمى تعبير عن ارادة الأمة"...
 
لكل ذلك، فإن من لا تاريخ له، صعب أن يبني مستقبلا آمنا، يؤكد عزيز رويبح ويزيد: "نحن (مجتمع) المحامين والمحاميات لنا تاريخ قوي وعظيم لا يكفي أن نفتخر به، بل لابدّ أن نزرعه قناعات وإيمانا وصبرا ونبراسا في وجداننا الجماعي، وفي صلب ضميرنا الجمعي، شيبا وشبابا، لِنُحيل القوة الكامنة فينا إلى قوة ميدانية تملك كل أسباب التصدي والمواجهة مهما كان موقع الخصوم، فالوطن في حاجة إلينا على الدوام... لا يمكن أن تهزمنا نطّاتٌ وقفزاتٌ غير محسوبة النتائج، سواء كانت من أهل الدار أو من المتربّصين بالديار، ما دام وعينا بدقة اللحظة، التي نجتازها كبيرا وكافيا بشبابنا الرصين والغيور، وبكل أجيالنا المجرّبة والمنحازة لقيم المهنة وتراثها وطموحات شبابها"...
 
عندما نظم اتحاد المحامين الشباب بهيئة الرباط، قبل أربع سنوات، ندوة وطنية حول "قانون مهنة المحاماة وتطلعات المحامين الشباب"، كانت لمداخلة عزيز رويبح طعم آخر بأفق مفتوح على المستقبل، ردّ على الذين يستهينون بانتخابات المحامين في تحقيق المطالب والمكاسب، وقال إن المشكل ليس في الانتخابات، التي هي قيمة ديمقراطية أساسية، ينبغي تحصينها وحمايتها بمقتضى القانون، موضحا أن المشكل يتمثل في أن المكاسب التي عرفتها المهنة تحقّقت في أوقات الانفراج، وليس في أوقات الشدة والحصار والتضييق والاستبداد، وقال للمحامين الشباب: أنتم أسياد المستقبل... ومسؤوليتنا اليوم هو الانخراط الجماعي والمسؤول والمتقدم في عملية التدريب والتكوين لجعل شباب المحامين يشكلون قوّة مضادة لمن يريد استعمالهم للتحكّم في المهنة وتبخيسها وتتفيه المنتسبين إليها...
 
كانت مداخلة قوية مازالت آثارها موجودة في فيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي، وكأن عزيز رويبح كان يتنبّأ بما سيحيط بحال وأحوال المهنة، وما بدأت تعرفه اليوم من إشكالات حادة، يمكن تلمّس بعض مظاهرها في قضايا الضريبة، والملف الاجتماعي بتفرّعاته، وامتحان الأهلية، وضعف وتراجع شروط الممارسة المهنية، ناهيك عن مشاريع قوانين الإصلاح، بدءا بمهنة المحاماة، وصولا إلى المسطرتين المدنية والجنائية... في هذا المنحى العام يقول: "لابد من الاعتراف بالأزمة، التي تضرب المهنة، وتمس بصورة المحامين، ولابد من الإقرار بالحاجة الماسة إلى نهضة مهنية متجدّدة تكون في مستوى التاريخ المجيد، الذي بنته هيئات المحامين بالجهد والصمود والتصدي وبالتضحيات، لتبرهن، للقاصي والداني، على أن المحاماة قلعة محصنة وقوية، لم تزحها الضربات عن تصدر طليعة المدافعين عن الحقوق والحريات، وأنها ولّادة وحاضنة لقيم الشجاعة والكرامة"...
 
قلت لعزيز: هذا تحريض؟ فردّ بتصميم وعزم: "تحريض على القانون، على النضال السياسي والحقوقي بمقتضى القانون"، وأضاف موضحا: "السياسة ليست نزوةً ولا عنادًا... السياسة حكمةٌ، عقل وتعقّل وبُعد نظر... لسنا أعداء لأحد.. نحترم القانون.. وبقدر احترامنا له، فإننا لا نرضى عن كرامتنا واستقلاليتنا بديلا... وعلينا نحن، شعب المحاماة، وعلى المؤسسات المهنية، أن نتحمل مسؤولياتنا كاملة"...
 
هذا هو عزيز رويبح المحامي والحقوقي والإنسان، عرفته في العديد من حالاته، لكنها، رغم اختلافاتها وتبايناتها، تتوحّد وتجتمع فيه، ليكون وليعيش صادقا واضحا كريما شجاعا مقبلا على الحياة وما انسحب يوما من أي من التحديات والمعارك النضالية لحماة العدل، في جموعهم العامة، وفي ندواتهم ولقاءاتهم، وفي فضاءات المحاكم حيث "نحيا ونتعايش ونتلاحم ونتخاصم ونتصالح ونتوادد"، يقول رويبح، الذي كان وسيبقى ودودا بكل ما فيه من تلقائية، وبكل ما يحمل من حكايا وطرائف ونوادر، وبكل قلبه الجميل وما يكتنزه من سمة الصفاء ومن قدرة على التسامح والعطاء، وأساسا بكل أحلامه الصغيرة والكبيرة عن القضاء، الذي هو أساس الملك، يقول رويبح ويضيف: وهو عنوان حضارة، ووجه الدولة وصورتها، ولذلك، فعندما ينحرف القضاء تميل الدولة وتفقد هيبتها وتنكسر قوتها وينحدر مستوى الثقة في خطاباتها وبرامجها ومجهوداتها مهما كانت كبيرة وصادقة...
 
ويتابع رويبح موضّحا رؤيته لثنائية القضاء والعدالة بالقول: عندما يحدث ويزيغ القضاء عن العدالة، ويستقيل عن القيم الوطنية، يستحيل الدستور والقوانين والمرافق والمؤسسات والأنظمة الى دوائر فارغة بدون مصداقية ولا روح ولا معنى. فلا غيرة على الوطن وقيمه وثوابته الجامعة لدى من لا غيرة له على العدالة في هذا الوطن. إن الحياد في معركة إصلاح منظومة العدالة وتخليقها لا يليق بمن هو مؤتمن على حقوق الناس وحرياتهم وأمنهم القضائي، ولا يليق بمن حمّله المُشرّع أمانةَ إعمال القانون وإعلاء شأنه والدفاع عن سيادته. والعدالة لا تقبل الاتّكال، وليست ملكا خاصا لأحد، وليست همًّا فئويا، بل هي شأن مجتمعي وحقوقي وقانوني بامتياز...
 
وهنا، تُطرح، بقوة وبجدارة، مهام المرحلة، التي تفرض نفسها اليوم، والتي يحددها عزيز رويبح بكلمة دالة ومعبرة ومصيرية: "إن المسؤولية القانونية والأخلاقية تفرض على المؤسسات المهنية أن تبذل مجهودا أكبر وأن تقوم بواجبها في الإصلاح والتخليق، وأن تُسهم في بلورة شروط مناخ يعلي من شأن النزاهة والاستقلالية والكرامة وعزة النفس، ليس باعتبارها مبادئ مجردة، بل بوصفها قواعد حمائية، تعزّز الثقة في النفس، وتعمّق الإيمان بالعدل، وتكرّس المعنى الحقيقي للالتزام المهني"...
 
في هذا السياق العام، المؤطّر بالمسؤولية القانونية والأخلاقية، يريد عزيز رويبح الدفاع عن مهنة المحاماة والإعلاء من شأنها بعدما تعرّضت للإبعاد والإقصاء، منذ أزيد من عقد من الزمن، أي بتعارض مهول مع روح دستور 2011، إذ كل الانشغالات والاهتمامات وجّهتها الحكومات المتعاقبة نحو المؤسسة القضائية، ومن المفارقات الكبرى أن ذوي البذلة السوداء، حماة العدل، يعود لهم الكثير من الفضل في تحقيق استقلالية السلطة القضائية، بدءا من الفكرة، وصولا إلى الواقع، في مسيرة جماعية تُوّجت بإخراج النصوص التنظيمية والقانونية المتعلقة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، تمثيلا وتمثُّلا للإرادة الملكية الحاسمة والمصيرية في إصلاح منظومة القضاء... والحال أن الإرادة الملكية لم تكن جزئية ولا تجزيئية، ويستدلّ عزيز رويبح، في ذلك، برؤية رئيس الدولة لمهنة المحاماة، التي قال إنها "تواجه ضرورة توحيد القيم السلوكية المثلى، واعتماد التكوين المستمر، والاستجابة لمتطلبات مواكبة العالم الرقمي، والتوفيق بين وجوب احترام الحريات، وصيانة النظام العام، في ظل سيادة القانون وسلطة القضاء"، وزاد الملك محمد السادس مؤكدا أنها "قبل كل شيء، مهنة إنسانية مثالية تقتضي، إلى جانب الفقه القانوني، النزاهة في العمل، من أجل مساعدة القضاء، الذي يُعتَبَر المحامون جزءا من أسرته الكبيرة الموقرة، وشريكا أساسيا له في تحمل مسؤولية إحقاق الحقوق ورفع المظالم، على أسس العدل والإنصاف وسيادة القانون ونشر الثقة والاستقرار اللازمين لتأمين الحياة الاجتماعية، وتحفيز الاستثمار، والنهوض بالتنمية الاقتصادية"...
 
في خضمّ هذه المفارقة، كان عزيز رويبح، مع ثلّة من المحامين الأحرار، يعلن غضبه، وانتقاده، واحتجاجه، بحجج ثقيلة، يتصدّرها المنطوق الملكي، ومعه جميع العهود والمواثيق الدولية ذات الصلة، حيث المحاماة لا يمكن فصلها عن السلطة القضائية، إذ هي مكوّنٌ عضوي للعدالة، وبالتبعية هي جزء محوري ضمن منظومة الإصلاح القضائي، وبناء على ذلك، يطرح رويبح التساؤل الاستنكاري: كيف يتسارع الخطو نحو تأهيل الهياكل القضائية، مقابل تعطيل مسيرة التأهيل المنشود لمهنة المحاماة، وتركها، عن عمد أو غير قصد، تغرق في المشاكل والأزمات؟
 
لعل هذه القضية وغيرها من القضايا الملحة ستكون حاضرة، بهذا الشكل أو ذاك، في الانتخابات المهنية، التي يعرفها قطاع المحاماة خلال هذا الأسبوع، والتي يتطلّع عزيز رويبح إلى أن تكون ذات صدقية وجدارة كفيلة بإفراز مؤسسات مهنية جديدة وقوية تتصدّر مهام الدفاع عن إصلاح المهنة ومعالجة أوضاع المهنيين...
 
عزيز رويبح يقول إن لديه أملا قويا في المستقبل رغم إكراهات الحاضر، ويقول، بلغته التي يتأبط فيها شعرا وحلما أحيانا: "نحن، المحامين والمحاميات، لا نملك جيوشا ولا أسلحة ولا قوات أمن مدربة... نحن ليست لنا مناصب ولا امتيازات ولا أرصدة مشبوهة ولا ولاءات مصطنعة ولا أجندات تصاغ في الظلام... نحن، المحامين والمحاميات، لسنا الأقوى طبعا، ولكننا، في لحظة الشدة والردة، نكون الأشد حرصا والأكثر ذودًا وغيرةً على الحق والحرية، نمسك بكل حيز ضوء في بلدنا ودستورنا ومؤسساتنا ومملكتنا ومكاسبنا وتاريخنا لنقول بكل بساطة (لا)... العدالة نحن حماتها وروادها وحراس أمنها مهما كلفت المواقف من ثمن، فمن أجلها نناضل ونختلف ونبادر ونتوحد ونختار الطريق... نحن، المحامين والمحاميات، شعب قانون وحق لا نخفض جناح الذل لأحد إلا للوطن، للعدالة الحقة إن وجدت، ولقيم العز والكرامة... نحن لسنا في حرب مع أحد كما يحاول أن يُظهر بعض تجار الأزمات! ولسنا في عناد جامح دون أفق ولا ضوابط! بل نحن من صلب وقلب هذا الوطن لا نرضى إلا بفصل السلط لا بتسلطها، وبدمقرطتها لا بالتباسها واختلاطها، ونريدها، تماما كما فُصّلت في الدستور، ديباجةً وروحًا ونصًّا... لا نريد الانتصار على أحد فلسنا هواة فرجة ولا قواعد عشيرة! نحن محامون ومحاميات نريد للدستور والقانون أن ينتصر، وأن تبقى العدالة في حيادها وفي موقعها الطبيعي ملاذا للجميع دون استثناء، وأن نبقى نحن أحرارا مستقلين إلا عن هموم الوطن... أكبر انتصار أننا وضعنا الانتصار، انتصار الوطن والكرامة والدستور والقانون وحماة العدل، نصب أعيننا، ومن أجله سنستمر"...
 
وتابع عزيز رويبح قوله: "وحتى لا ننسى أو نتناسى، نحن جميعا، بحكم طبيعة عملنا وتفاعلنا اليومي، قدرنا أننا في (أكواريوم) واحد، نَرى ونُرى، والعالم كله، شئنا أم أبينا، يرى"...
 
لا يخفي عزيز رويبح أمله القوي في المستقبل، في التأهيل المنشود لمهنة المحاماة، وفي استعادة الثقة في هيئاتها المهنية، وفي تبنّي خصلة الإصغاء لهموم المحاميات والمحامين، وفي خلق أجواء جديدة ترفع من مستوى النقاش المهني حول واقع المهنة ومستقبلها وآفاقها... ليخلص إلى القول: "نضالنا اليوم واجب مهني وحقوقي وإنساني، وضرورة تفرضها اللحظة التاريخية، التي نجتازها، بما تتطلبه من وضوح وقوة وحكمة في تدبير المرحلة... فلتكن لحظة انطلاق ووحدة صف والتفاف حول بعضنا البعض، مؤسسات وإطارات مهنية، ولنقل كلمتنا، لنكونَ، بمواقفنا القوية، في كل محطة تنادينا للدفاع عن وجودنا، ولنستحق جميعا أن نكون، بالقول والفعل، حماة للعدل"...