حين خلع البذلة السوداء وتأبّط أدبا.. المحامي والحقوقي عزيز رويبح في صحبة زوربا اليوناني!
الكاتب :
"الغد 24"
عزيز رويبح
وأنا أعيد قراءة رواية (زوربا اليوناني) لنيكوس كازانتزاكي، بلهفة ومتعة وتمعن وشوق وخلفية متماهية أو تكاد مع شواغل وهموم وأسئلة عمر إنسان انفرط في عقد وجوده أكثر مما تبقى،،، لست أدري لماذا وقف تفكيري عند لحظة بذاتها راودتني على نفسها لأغوص في يوم شارد قد يكون بدون معنى لكن تفاصيله أغرتني بالبوح والاستعادة.
كانت طفولتي ومراهقتي حرائقَ وآلامًا ومتعةً وغناءً وحلمًا دون ضفاف وخجل وضعف وهوان وقوة وتحدٍّ مرصع بكثير من الإقدام المحتشم الجسور على كل السلط من الأرض إلى السماء، نعم كنت كما اليوم تماما أعشق يومي ولا أراه جميلا إلا مشتعلا بنار ولهيب أن أكون حرا ومتسائلا: كيف علي أن أكون في دوامة هذه الحياة الدوارة الفاتنة الفانية المقلقة الرائعة؟
في يوم من تفاصيل غياهب الماضي البعيد القابع في جب الماضي المتجدد الخواء والعواطف والتذكار، طلبت منا أستاذة الفرنسية، وأنا بثانوية ابن رشد في الرباط، كتابة نص حول ذكريات الماضي وجمالها...
بسرعة وارتعاش ونشوة ودون تحفظ وبتمرد معلن، انتقدت عنوان النص، واعتبرت النزوع لتمجيد الماضي يعيق الخيال ويكبل استشراف القادم من الأيام، وأن الحديث عن اللحظة يعري حقائق الإنسان بصفاء وعري أنصع وألذ وأجمل... وأسهبتُ في الحديث عن مخاضات وقت الكتابة وهمومها ورقتها وجمالها...
في الحصة الموالية، وأنا أغادر الفصل، أمرتني أستاذة الفرنسية بالتريث والانتظار، بابتسامة رقيقة ولطف مُطَمئنٍ لمراهق متوجس من الأوامر، قالت لي ما مفاده، وبشكل مباشر وصريح، وورقة الاختبار موضوعة على مكتبها: هل لديك مشاكل في الأسرة، وهل طفولتك كانت مريرة لدرجة ترفض الحديث عنها؟ فأجبتها بتردد واستحياء بدوي مخضرم تسأله أستاذته بلغة موليير: طفولتي لم تكن سيئة، أم رائعة وأب مشاغب كريم وحنون، ولكن اليوم أجمل لأنني بلغت ما أنا عليه كفاحا ضد المرض والجهل والتردد، فهو لي كما أردته، لذلك لا أريد الالتفات إلى الماضي...
عادت إلى مكتبها، كانت عيناي ترمقان الورقة، كلمات مسطر عليها بالأحمر، أخذت أستاذتي الفرنسية السيدة سوربيي القلم، ودوّنت ملاحظتها وهي تبتسم، ثم همست بلطف: أتمنى أن أراك مستقبلا قصّاصا أو شاعرا، ثم أمدتني بالورقة، وضعتُها في محفظتي وانصر فتُ، دوّخني شغب الأصدقاء وسؤالهم عن سر أمر الأستاذة بالانتظار، فلم أقرأ الورقة إلا بعد يومين أو أكثر، وجدت ملاحظة جميلة ومركبة: "أفكار كبيرة وأخطاء إملائية كثيرة انتبه!"...
خاب ظن أستاذتي الجميلة، ولم أصبح شاعرا ولا قصاصا، ولكن محاميا يطارد دخان صفحات المذكرة السنوية البغيضة، ويعاين مآسي الظلم والقهر المسلط على الناس كل يوم، ويفعل ما يراه مواتيا ليكون كما يريد أن يكون: محاميا لا يخشى في كلمة الحق لومة لائم ولا لئيم، أما الشعر والأدب والرواية والفن، فهي وقود الروح وبهجة كل الأوقات...
في كل واحد منا شيء من زوربا، شيء من شيطان وشيء من ملاك، والكمال لله.