محمد السكتاوي: Тетя Рита.. العمة الروسية تيتيا ريتا
الكاتب :
"الغد 24"
محمد السكتاوي
تيتيا ريتا Тетя Рита
"العمة تيتيا ريتا"، هكذا كان يسميها الطلبة العرب وغيرهم من الطلبة الأفارقة، الذين درسوا في أواخر الحقبة السوفياتية في سانت بطرسبرغ.
كانت تحضنهم كأبنائها، تفتح أبواب بيتها للجميع، وتضع هاتفها الثابت رهن إشارة كل من يرغب في الاتصال بعائلته أو العكس.
لم تكن تكلّ في التنقل بين بيوتهم، تساعد من أصابه عوز، وتسعف المرضى، وتؤنسهم في وحدة الغربة.
زوجها كان فنانا يعزف على الچيتار، ولا يقل عنها في بسط عطفه ومحبته على الطلبة الغرباء.
تعوَّدا، نهاية كل أسبوع، الخروج معا للتنزه في الغابة والمروج يحملان حقيبة ظهر، ويقضيان اليوم كاملا في جني التوت البري، وجمع نبات الفطر وأعشاب غذائية أخرى.. وبهذه النباتات البرية، التي تنمو تلقائيا، يُحضّران المخلّلات وأصنافًا من المربّى وتخزينها لاستعمالها طوال العام.
الطلبة العرب كانوا يحبون أطباق العمة ريتا وسخاءها في استضافتهم.
الآن مرت عقود، لم تبق سوى ذكريات بعيدة عن ذلك الزمن السوڤياتي الجميل.
تفرّق الطلبة وعادوا إلى بلدانهم أطرا ومسؤولين كبارا ووزراء، وكثير منهم يداهمهم، في الأيام المقرورة، الحنينُ، ويشعرون بدفء العمة ريتا المفقود، ويتذكرون نشوة التجول معها في شوارع سانت بطرسبرغ، والمشي على نهر النيڤا المتجمد.
تغيرت أمور كثيرة، واختفى الاتحاد السوڤياتي، والنهر مازال يجري...
أحد أصدقائي الصحافيين المغاربة ممن تبنّتهم العمة ريتا، حضر القمة الأفريقية الروسية في يوليوز الأخير بسانت بطرسبرغ، واغتنم الفرصة لزيارة الحي، الذي أقام به سنوات الدراسة، تغيرت بعض المعالم العمرانية، وتغيّرت معها وجوه السكان.. جيل آخر من الشباب تضج أصواتهم وضحكاتهم في أزقة المدينة وأسواقها ومقاهيها وحاناتها.
التقى صديقي صدفة أحد زملائه في الدراسة، وكان وقتها طالبا أتى من إثيوبيا، اختار، بعد تخرجه، أن يستقر في روسيا، وصار أستاذا بجامعة بطرسبرغ.
سأله عن العمة ريتا، قال له إن ما يعرفه أن زوجها عازف الچيتار مات، منذ عشرين عاما، وإنها هي أيضا ماتت بعده.
لم يقتنع صديقي الصحافي بهذه القصة، فالعمة ريتا الطيبة لا يمكن أن ترحل دون أن تودع أبناءها الطلبة الغرباء.
بعد تيه في الطرقات، عثر على بيتها، كانت واقفة بالباب كأنها تنتظره في يدها إضمامة زهر الأقحوان، امرأة تجاوزت تسعين سنة، لكن ملامحها مازالت تحتفظ بنضارتها وصفائها وطيبوبتها، اقترب منها، لم تتأمله كثيرا حتى صاحت: كريم! غبت عني طويلا يا ولدي... والتمعت في عينيها دمعة حزن ممزوجة بالفرح، وعانقته...
الآن يمكن لي أن أموت، قالت بصوت هادئ، وتابعت: ألا تسمع قيثارة زوجي هناك على أطراف المدينة، إنه وحده، منذ عشرين عاما، ينتظر أن أحمل له بعض التوت البري ووجبة فطر مملح بالثوم وحبات الخرذل..
يقول صديقي، وقد علت وجهه غيمة بيضاء مثل ثلج بطرسبرغ: دخلنا البيت، وجلستُ على نفس المقعد، الذي كنت أجلس عليه في التسعينيات من القرن الماضي، شربنا فنجان قهوة، وسألتني عن تفاصيل حياتي في المغرب: هل تزوجت؟ ألديك أطفال.. هل تحدثت لهم عن جدتهم الروسية؟
ثم قامت وفتحت دولابا خشبيا على جانب الصالون الصغير، وعادت نحوي مبتسمة: خذ مني هذه الهدايا الصغيرة لحفدتي في المغرب.