الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم
الشاعر محمد السكتاوي

لعبة المعنى والمبنى في تجربة الشاعر المغربي محمد السكتاوي (محمد خلاد)

 
إسماعيل طاهري
 
 
الجميل في تجربة الشاعر المغربي محمد السكتاوي أنها تجربة تمثل نقلة نوعية في مسار الشعر المغربي المعاصر وفتحه على آفاق عالمية: فالقارئ لهذه التجربة لا يحس إلا بتجربة إبداعية متفردة وصافية لصاحبها، تحمل بصمات روح إنسان متمردٍ على السنن، مُقوضٍ لكل القواعد المستهلكة. وهذا هو التفرد والخصوصية التي يتعين توفرها في كل تجربة إبداعية حقيقية.
 
كل قصيدة جديدة للشاعر المغربي السكتاوي لا تكذّب حدسي منذ انبهاري باكتشاف تجربته قبل سنتين..
 
هذا شاعر مروض للكلمات، يهرب شعره من المغالاة في الشكل إلى المعنى الجميل. ثم يهرب من سطوة المعنى (المعطى) إلى شكل جميل كنهر رقراق خفيف الظل. وهذا هو رهان الإبداع الحقيقي، الذي لا يبلغ مداه إلا قلة قليلة من المبدعين وفي كل مجالات الإبداع والجماليات على مر العصور.
 
وهذا الجدل بين الشكل (المتنوع نسبيا) وبين المعنى (المعطى: كـ"معنى مطروح في الطريق" كما قال الجاحظ) نجحت في تحققه تجربة السكتاوي الشعرية.
 
ومن ثمة، فالقصيدة، عند السكتاوي، تشبه خبزة طازجة أصلها ماء وعجين وملح ونار، لكن لها خصوصية فنية مستجدة لم يسبق لأحد من أمهر الطباخين أن عرف كنهها أو طها نظيرا لها.
 
لا أفهم صمت نقاد الشعر في المغرب عن هذه التجربة الثرية التي مازالت قيد التشكل، فلا يجب النظر إلى شخصية السكتاوي كتاريخ حافل بالنضال في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان.
 
اليوم إنه شاعر يروض اللغة بدربة لافتة، ويشبه معصرة زيتون يزود الغاوين بزاد إبداعي متفرد، سيكون بلا شك من علامات إحياء الشعر المغربي المعاصر المصاب بعدة عاهات وإكليشيهات متجاوزة جعلته غارقا في التفاهة والعدمية والكساح شكلا ومضمونا.
 
تحتفي تجربة السكتاوي بالمكان وتحوله إلى مادة شعرية تلقح العواطف وتمنحها أبعادا عجائبية، لقد جعلنا شعره نحب قرية "بني خلاد" على ضفاف نهر اللوكوس شمال المغرب، كما أحببنا عبلة عنترة، وفاطم امرئ القيس، وولادة ابن زيدون... وربما لم يسمع بقرية بني خلاد الكثير من الناس إلا بفضل شعره والصور الفوتوغرافية التي ترصد وديانها ووهادها وشعابها وزهورها وأقمارها الوهاجة، التي ترافق القصائد، التي ينشرها على هشتاغ #محمد_خلاد.
 
وبني خلاد هي البلدة الصغيرة التي حوّلت شاعرنا السكتاوي إلى طفل يهيم على صدرها كأم حنون، بوصفها منبع الحب والحنان. وينطق عن الهوى بها شعرا باذخ البيان وجميل البنيان والتبيين.
 
لكن المهم في كل هذا هو دربة الكتابة الشعرية عن قرية سميت باسمه وسمي باسمها: بني خلاد/ محمد خلاد.
 
"حين يصمتُ نبضُ روحِكِ
في قلبي
وأنكِ الطين الأول"، كما يصفها الشاعر.
….....
 
مكابدات تجربة شعرية
 
بالعودة مثلا إلى قصيدة "حين تعرت شجرة الرصيف"، يتملكنا الإحساس بحجم المكابدات التي يعانيها الشاعر خلال مخاض التجربة الشعرية لكي تكون القصيدة مصقولة بعناية من خلال صورها الشعرية الجميلة.
 
فالسكتاوي، بالفعل، صاحب دربة لغوية نادرة: لا يترجم، لا يقلد، لا يغرق في المحسنات البديعية، ولا يسقط في التناص المفضوح، لأن التجربة، على ما يبدو، اختمرت في دروب الحياة ومعارج الأشواق الكامنة في النفس العميقة لهذا الشاعر الذي آثر التعبير عن أحلامه الصغيرة وطموحات جيله، الذي جابه عالم الطواغيت بصدور عارية تنبت فيها الورود والقصائد وندى العشق الجميل وحب الناس أجمعين. ولو كان داخل زنازن الطغاة.
 
وربما زحمة الحياة لم تسمح لهذه التجربة بالخروج مبكرا إلى الناس، ولكن خروجها خلال الحجر الصحي المرتبط بوباء كوفيد-19 كان ميلادا لقصيدة مغربية جديدة، مازال نقاد الشعر ينظرون إليها بريبة. ولكنها تجربة تشق طريقها بإصرار نحو الريادة، نحو التميز، لأنها تعرف طريقها جيدا ومأخوذة بتلابيب شاعر مرهف الإحساس يحول ما حوله من أمكنة وأشياء بسيطة وحوادث صغيرة إلى قصائد مليئة بطاقة شعرية صورية خلاقة كثيرا ما بتنا نفتقد مثلها في منجز الشعر العربي المعاصر الذي يتجه حاليا نحو الموت السريري لحساب نصوص سوريالية أو سرديات ويوميات وروايات وسير. وقد انتشرت تقليعة "زمن الرواية" منذ نهاية الثمانينيات، وانتشرت بعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في الآداب سنة 1988.
 
أما في عالمنا العربي، فقد بدأ الشعر العربي يفقد بريقه وجمهوره بعد سقوطه المدوي في مطبة تقليد التجربة الغربية، وتحول إلى منصة لنثر غبار العدمية والشطحات السريالية المتجاوزة منذ ثلاثينيات القرن العشرين. وها هو يخفت رويدا رويدا ولم يبق في الساحة إلا نزر قليل من الشعراء الكبار بالمعنى التاريخي للكلمة. ورغم ذلك، فالشعر مازال ديوان العرب كما اعترف بذلك الشاعر العربي الكبير أدونيس في السعودية مؤخرا.
 
وبالعودة إلى تجربة السكتاوي نجدها تحضن مواصفات إنقاذ الشعر المغربي من أزمته، لكونها تجربة مليئة بطاقة الشرق العاطفية الجياشة كالبركان والمصقولة بأنامل العصافير ورائحة الخبز والحناء والزيتون والوادي، والمزينة بباقات الحلم والثورة والحب، في عبارات دالة مسكوكة ومسكونة بالأشواق تشع كالشمس الساطعة. وكذلك عبر نصوص قصيرة تكشف بعمق سعة فكر الشاعر وإلمامه بعدة ثقافات عالمية.
 
لذلك، وبسببه، فهي تجربة جديرة بالمطاردة كما يطارد الطفل (ولد بني خلاد) الفراشات على حواف نهر اللوكوس، وادي الملوك الثلاثة.
 
ونكبر في هذا الشاعر إصراره على نشر نصوصه في هشتاغ "#محمد_خلاد" على الفايسبوك بشكل متواتر للاقتراب أكثر من قراء العالم الأزرق وسكان مواقع التواصل الاجتماعي.
 
ملحق
 
1- حكايات الأبواب (26)
 
باب المعنى
 
تعاتبني بني خلاد
أيْنَك يامحمد
أنسيتَ نهري وضبابي
قيظي وظلالي
تحت خميلة رمان
وهجرتني؟
كيف أنساكِ ،قلت
وأنتِ بابُ المعنى
حين يغيب اليقين
وأنتِ الماهية في رحِمِك
كل الوجود
زرتُ أراض وأرخبيلات بعيدة
وغصتُ في شعاب مرجانية
لم يكشفها أحد
ولم أجدْ ظهيرةَ صيف
أفرِِشُها قرب نبْعِ ماء
أو قمرا يُناجي بيْدَر
كما في لياليك الصافية
تأكدتُ الآن ياسيدتي
بعد التشردِ في الغياب
أن السراب يأكلني
حين يصمتُ نبضُ روحِكِ
في قلبي
وأنكِ الطين الأول
الذي جبل اللهُ منهُ الخلْق
 
 
2- حكايات الأبواب (40)
 
أغلق باباً وافتح آخر
 
لم يفتِ بعْدُ الأوان
أغلق بابا وأفتح آخر
وأحزم الرياح في حقيبتي
وأسافر على جناح موجة
من كهف الحمام
إلى أرض فوق نيزك أخضر
أربي فيها أحلام زنبقة
وسنابل عشق
 
أكواخ بني خلاد بعدسة الشاعر محمد السكتاوي