الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

مسرحية "غادي جاي" لإسماعيل بوقاسم.. إبداع مسرحي جميل في فضح الانتهازيين

 
أحمد نشاطي
 
صدرت للكاتب المسرحي والإعلامي إسماعيل بوقاسم مسرحية "غادي جاي"، مزدانة بغلاف من إبداع الفنان حسن عين الحياة، وبتقديم لمحمد بهجاجي وتمهيد لأحمد نشاطي (هو نفسه المقال أدناه)...
 
عندما تكون بصدد قراءة النص المكتوب لمسرحية "غادي جاي" للكاتب المبدع إسماعيل بوقاسم، تكاد تحس أن كل شخوص المسرحية وجوه مألوفة لديك، تكاد تعرفها عن قرب، وعلى وجه التحديد بطلا المسرحية: فؤاد شعبان وزوجته عائشة، لأنهما معا هما من يرسمان معضلة مزمنة، هي الانتهازية والتسلّق الطبقي والانفصال عن الشعب، معضلة موجودة في مختلف بلدان المعمور، وبالخصوص في المنطقة العربية، كما توحي بذلك طبيعة بعض الأسماء، التي اختارها المؤلّف لشخوصه (شعبان، جويدا، سوسن...)، ثم بشكل أخص في المغرب، وهنا، سرعان ما تتبادر إلى ذهنك وجوه سياسيين ومثقفين يجسّدون انتهازية فؤاد شعبان، الذين يبيعون ويشترون في الشعب، ويتاجرون بقضاياه لمزيد من الاسترزاق... فغادي جاي رمز لتلك العلاقة النافرة بين المثقف والسلطة، علاقة تقاطعية تصادمية، أحيانا ينتصر المثقف بالصمود، وأحيانا يسقط فيكون فؤاد شعبان...
 
أتكلّم، هنا، عن النص المكتوب، لكن، في الوقت ذاته، وباعتبار تمازج الكتابة الدرامية بكتابة السيناريو، يحملك الكاتب المبدع المسرحي الفنان إسماعيل بوقاسم إلى تخيّل النصّ على الركح، لتجد نفسك أمام آفاق رحبة في مقاربة المعنى، المفتوح على التعدّد، ولعلّ في هذا قوة النص، الذي يحيلك أنت أو هو على شخصية فؤاد أو شخصياته المتعددة في الواقع المعاش، فؤاد الذي قد أراه أنا في شخصية أو شخصيات أخرى، وسواء أنت أو أنا أو آخرون، قد نختلف في تمثّل شخصية فؤاد، لكن الكاتب، بكثير من الدهاء الفني، وبغير قليل من المكر الدرامي، يجعلنا نجتمع ونُجمع على أن فؤاد وعائشة وكل شخوص المسرحية ليسوا شخوصا تخييلية، وإنما أناس من لحم ودم، تعيش بين ظهرانينا، بل قد تكون لنا بها معرفة شخصية... ولنفهم أكثر هذا البُعد، قبل الانتقال إلى التأويل، نلقي بعض الضوء على هذه المسرحية الجميلة...
 
"غادي جاي" مسرحية في خمسة أنفاس، نُسج تدرجها الدرامي بأسلوب مجازي متحرك، تتسع أبعاده لأكثر من تأويل، كما أن زوايا قراءاته تتفاوت بحسب تعدد مستويات الإدراك لدى المتلقي، ومدى قدرته على التفاعل مع تفاصيل مجريات الحكي الدرامي، الذي يُحرك أنفاس المسرحية.
 
يحكي النص العاري للمسرحية، عن شخصية "فؤاد شعبان"، المثقف الذي مكّنته ظروفه الخاصة من تحقيق شهرة واسعة جدا، حرّكتها الدعاية الإعلامية بكل أجناسها (السمعية المرئية والمكتوبة، وعبر الشبكة العنكبوتية للإنترنيت، ومن خلال الجيوش الإلكترونية على مواقع التواصل الاجتماعي)، هذ الصيت، الذي ذاع على مواقع التواصل، دفع بالكثيرين من مختلف فئات مجتمعه، بدءا من أصوله الطبقية المتوزعة على مختلف شرائح المستضعفين، وصولا إلى الطبقة الغنية وتسلّقاتها من أرباب شركات وأصحاب عقارات وأثرياء السياسة، إلى اللجوء إليه لطلب وساطته لدى الحاكمين لحل مشاكلهم أو لقضاء أغراضهم ومآربهم الدنيوية...
 
تتصاعد الأحداث داخل مساحة الحكي المسرحي، في تسلسل درامي ساخر، وبأسلوب متهكم ينتقد الهواجس الانتفاعية التي أضحت تحرك النفوس الانتهازية بشكل متنامٍ داخل المجمتعات، فحوّلتها إلى أشبه ما تكون بنسخ كاربونية تتناسل بين ظهراني البوادي والحواضر.
 
تتواتر مستويات الحكي داخل أنفاس المسرحية، وتتدرج في إماطة اللثام عن تعدد وجوه الشخصية المحورية للعمل المسرحي، وتُعرّي زيف ادعائها خدمة الناس، وتتسلل داخل الإنسان فيها بحثا عن معدنه، فتكتشف دواعي انجرافه وانحدار قيمه النضالية وهشاشة مبادئه ومواقفه أمام تحديات الواقع، وهرولته إلى الجنوح للارتماء بين أحضان الانتفاعية والانتهازية...
 
وفي كل ذلك، لا يمكن، في أي نفس مسرحي من أنفاس النص الخمسة، بل وفي أي لحظة من لحظات الغادي والجاي، إلا أن تحس أن الشخصية المحورية، فؤاد شعبان، تعرفه حق المعرفة، وهذا واحد من علامات قوة المسرحية، المتأتية من تجربة معاشة لمن يعرف بعض التفاصيل عن حياة كاتب المسرحية، إسماعيل بوقاسم، فهو ليس من أولئك الكُتّاب ولا المبدعين، الذين تكرّست بعض صورهم المهيمنة على متخيّل فئات واسعة من الناس عن كّتاب يعيشون في حياة خاصة ويكتبون بطقوس خاصة، فيبنون شخصياتهم على مقاس تخييلي... الكاتب، هنا، إسماعيل بوقاسم، هو أصلا مناضل طبقي، اجتماعي، سياسي، نقابي، وجمعوي مدني، عاش وعايش دهاليز مسؤولية التدبير الجماعي الترابي، التي تفترض أن تكون مع الناس في مختلف مواقع وجودهم اليومي، في السكن والحي والشارع والتعليم والصحة، وصولا إلى الاستثمار الاقتصادي، وأن تدافع عن قضاياهم... وفي المسار العام لهذه المسؤولية، سواء من زاوية التدبير أو من زاوية المعارضة، تكون أمام امتحانات متواصلة وموصولة، امتحانات أن تكون بأمانة مع من انتخبوك، ومن ائتمنوك على قضاياهم، ومن يرون فيك كوّة ضوء وأمل تساهم في الانتصار إليهم في معركتهم اليومية ضد الحكرة والفقر والحاجة وقلة الشي...، أو أن تسقط في الإغراءات التي تشدّك من كل جانب، وتستأثر بوعيك الشقي، فتقفز على الطموح المشروع إلى عيش حياة أفضل، وتنغمس في دورة التسلّق الطبقي على سلاليم الريع نحو تحقيق غنى فاحش بالمنافع المالية والعينية، من أراضي زراعية ومختلف أنواع "الكريمات"، من رخص النقل ورخص الصيد البحري ورخص المقالع، وغيرها من الامتيازات، التي لا يمكن التحصّل عليها إلا بتقديم خدمات مشبوهة للفساد والمفسدين...
 
وفي المحصلة، يضعنا الكاتب المسرحي أمام طبقتين (حنا وهوما)، كما حدّدتهما عائشة: "هوما عدهم الفروسية.. وحنا عدنا البوكس.. هوما التنيسة والگولف.. وحنا المصارعة والجري والتنقاز.. حتى دروبتهم ماشي بحال دروبتنا، هوما حي الوازيس وكالفورنيا.. وحنا دوار التقلية ولعوينة الحارة ودرب غلف.. هوما عين السبع وعين الدياب.. وحنا عين الحلوف وعين حرودة محرودين من ناحية الخدمة.. والله يلعن بوها حردة..."، إنها صورة بليغة للمغربي، الذي يعبّر عنه الكاتب في المسرحية...
 
وفي هذا الصدد، من المفيد الإشارة إلى أن من يعرف إسماعيل بوقاسم، عن قرب، سيعرف ذلك المناضل، الذي اقتحم تجربة مريرة في تدبير جماعة ترابية في العاصمة الاقتصادية، عاشها بكل تفاصيلها، باجتماعاتها وسمسراتها وأبواب ومداخل بيعها وشرائها، كما عرف في مسيرته الحياتية، الكثير من الوجوه المتغيّرة للشخصية المحورية... ثم اقتسم معنا، بحب وبانتماء، جوهر هذه التجربة، التي تعتبر شهادةَ إدانة لقيم الانتهازية والفردانية... ومصباحا كاشفا وفضّاحا لخطورة هذه المعضلة، حتى لا تقع الاستهانة بها، وبدورها التخريبي ليس فقط للقيم الإنسانية السامية والنبيلة، بل وتخريب المجتمع نفسه، خدمة للفساد والاستبداد، وتنويما للمواطنين المستضعفين بالتنفيس عمّا يعيشونه من قهر وفقر وتهميش وتيئيس وبؤس وحاجة ومرض وجهل...
 
وهذا هو حال فؤاد بالضبط، الذي عمل الكاتب على تهييئنا للتحوّل الدراماتيكي في شخصيته المحورية، من خلال إشارات توحي بإرهاصات كامنة تكشف استعداد فؤاد لهذا التحوّل، كما نلمس ذلك في التعامل "الدوني"، مع شريكة الحياة، عائشة، التي يُفترض أن يكون التعامل معها على قدم المساواة، في وعي المثقف العضوي، فإذا بنا نكتشف أنه مارس الكثير من الاحتيال الاجتماعي والسياسي والفكري لجرّ عائشة إلى الإيمان بدونيتها، عندما تخرج من حديث مع فؤاد لتقول للجمهور: "دابا عاد عرفت علاش گالو (وراء كل عظيم امرأة) حيثْ إلى دارها گدامو ماغيدير والو غيبقى غير مگابلها.. داك شي علاش العظيم كيديرها وراه، وبوزبال دايرها گدامو.. الله يطليه بيها...".
 
هذه الإدانة الرمزية، ستتبيّن، أكثر، في نهاية المسرحية، حين ينتهي الصراع الدرامي، الذي حكم أشواط المسرحية، بتحوّل بطل المسرحية، فؤاد شعبان، من روح النضال والانتصار لحياة إنسانية أفضل في ظل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، إلى السقوط المدوّي في أحضان الانصياع وراء مصالح خاصة ضيّقة، وخيّانة أصوله الاجتماعية... ثم أبى الكاتب المبدع إلا أن يضاعف الإدانة بجعل فؤاد يجنح إلى سلوك مطبوع بأقصى درجات الانحطاط والمذلة، من خلال ورقة طلاق عائشة، ورقة تعكس إعلانا رسميا عن الطلاق من طبقة، ومن مبادئ مُثلى وممارسات فُضلى، لفائدة الوصولية والانتهازية والتضليل والاحتيال والخداع والتناور والتآمر، ليتحوّل فؤاد شعبان إلى خديم للفساد والاستبداد...