الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

أحمد نشاطي: مسرحية "كلام الليل".. عرض باذخ أعاد الجمهور إلى بهاء مسرح الهواة

 
أحمد نشاطي
 
من شاهد العرض الرسمي لمسرحية "كلام الليل" لفرقة فضاء القرية للإبداع، مساء يوم الأربعاء 11 أكتوبر 2023، في المسرح الكبير بن امسيك، سيخرج بقناعةٍ، قد تتفاوت من متلقٍّ لآخر، مفادها أن المسرح المغربي، رغم كل الإكراهات والمطبات والضربات، التي يتلقاها من حين لآخر، ما يزال بخير، وأنه لا يحتاج فقط إلا إلى الصدق في أداء المُنجز، وإلى الجرأة في إيصال الفكرة، وإلى العمق في الأداء، وإلى البحث والاجتهاد من أجل تقديم فرجة يشعر معها الجمهور أن المسرحية تشبهه وتنتمي إليه وينتمي إليها، وأنها ليست غريبة عن ثقافته ومعيشه اليومي...
 
 
هذا بالذات ما حسّستنا به مسرحية "كلام الليل" لكاتبها الإعلامي والمسرحي إسماعيل بوقاسم، إذ لمسنا فيها الصدق والجرأة والعمق والبحث والاجتهاد، وفوق ذلك، شعرنا، طيلة الزمن المسرحي (ساعة ونصف)، أن قوة خارقة انتزعتنا من زمن الحاضر، لتضعنا في زمن "عباس" (بطل المسرحية)، بكل من يحمله من حلم وعنفوان وألم وخيبات أمل.
 
من شاهد العرض الرسمي لمسرحية "كلام الليل" لفرقة فضاء القرية للإبداع، في المسرح الكبير بن امسيك، سيخلص إلى أن المسرح المغربي، رغم كل الإكراهات والمطبات والضربات، ما يزال بخير، وأنه لا يحتاج فقط إلا إلى الصدق والجرأة والعمق والبحث والاجتهاد
 
مسرحية "كلام الليل"، التي أخرجها بوشعيب الطالعي، وساعده في إخراجها المؤلف إسماعيل بوقاسم، عُرضت في إطار دعم الإنتاج والترويج لوزارة الشباب والثقافة والتواصل برسم موسم 2023، وكانت من أداء حسن عين الحياة وعلي علاوي ووفاء العصادي وبشرى مسطري. أما السينوغرافيا فكانت للممثل حسن عين الحياة، والإنارة لعبد الكبير البهجة، والموسيقى لمبروك مولاي الهاشمي، والملابس لفاطمة الدقاقي، والمحافظة العامة لتوفيق سرحان.
 
مسرحية "كلام الليل" تحكي حياتين، في زمنين مختلفين.. حياة "بيضاء"، التي شخّصتها، بحرفية لافتة للانتباه، الممثلة الواعدة وفاء العصادي.. إذ قدّمت لنا شخصية "بيضاء"، وهي "فتاة هوى" فطنة، قادتها الظروف لتعيش مع "عباس" ليالي الأنس والسهر والمتعة، داخل غرفة أشبه بالحانة.. والتي كلما أفرطت في شراب، تذكرت خطيئتها مع حبيبها الأول "شعيب"، في براكة في حي صفيحي، وكيف كتمت أنفاس جنينها فور ولادته، حتى لا يتسرّب صراخه الأول إلى "براريك" الجيران. ولعل هذا التذكر، الروتيني، هو ما يغيض "عباس" الباحث في "بيضاء" عن المتعة والشغف، باعتبارهما محركين أساسين لإبداعاته كرسام.. بحيث يُحوِّل هذا الغيض إلى سخرية حبلى بالتهكم من خطيئةِ "بيضاء".
 
ثم من جهة ثانية، تحكي المسرحية حياة "عباس"، التي تمتد إلى حيوات أخرى ممتدة في الزمان والمكان.. وتنطلق على لسان "بيضاء"، بلغة استفزازية، حينما تقلب الطاولة على "عباس" المتهكم، فتذكّره بـ"الشرف"، وكيف "تركوه يوما في الحانة يشرب الخمر واختطفوا ابنته ثم اغتصبوها".. ويزيد الاحتقان كأولى عُقد المسرحية، عندما تقول "بيضاء": (مسيكن هذا الـ"عباس".. كنت أحكي مصيبتي.. فجأة وجدتني أحكي سيرة الـ"عباس".. مسكين هذا الـ"عباس").
 
شخصية "عباس" قدّمها، باقتدار وبأداء رفيع، الفنان المبدع والصحافي اللامع حسن عين الحياة، الذي أقنع في أدائه، فنال اقتناع الجمهور، حيث أظهر طاقة هائلة في الحركة والتحرك والتفاعل مع شخوص المسرحية، وفي الحوار، الذي اختاره المؤلف فصيحا في ثلثي المسرحية ودارجيا في الثلث المتبقي
 
شخصية "عباس" قدّمها، باقتدار وبأداء رفيع، الفنان المبدع والصحافي اللامع حسن عين الحياة، الذي أقنع في أدائه، فنال اقتناع الجمهور، حيث أظهر طاقة هائلة، طيلة أنفاس المسرحية، سواء على مستوى الحركة والتحرك، أو على مستوى التفاعل بتركيزٍ عالٍ مع شخوص المسرحية، أو على مستوى الحوار، الذي اختاره المؤلف ليكون في ثلثي المسرحية عربيا فصيحا، ودارجيا في الثلث المتبقي.
 
مسرحية "كلام الليل"، في بعدها الدرامي المفتوح على التأويل، تحكي، من خلال "عباس"، سيرة الإنسان العربي عموما، في تدرجه من الرِفعة زمن العرب القدامى إلى الانحدار في عصرنا الحالي.. وتبدو من خلال أنفاسها الأربعة (السيرك، عرين العرافة، المعتقل السري، والمقبرة) كما لو أنها تتحدث عن واقع الآن، وقد أفلحت الفنانة وفاء العصادي في ترجمة الهيمنة الإمبريالية في بعدها القديم والحديث في دورها الثاني كـ"مروّضة" داخل "السيرك"، وهي تقدم لجمهورها مراحل انحدار "عباس"، من بطل حقيقي إلى آخر من ورق. وذلك من خلال آلة التجويع، وأسلوب "العصى والجزرة"، أو بتعبير مجازي أدق، أسلوب "جوّع كلبك يتبعك"، وإن كان صاحب النص، قد حوّل "عباس" داخل السيرك إلى قرد، يقلد بعض التمظهرات، على شاكلة "الحلايقية" القدامى (دير نعسة السارح.. دير بْرْكةْ القايْد.. هاذي بركة ديال شي واحد كبر من القايد...).
 
ومع تصاعد أنفاس المسرحية، يجد "عباس"، الذي أصبح فجأة متهما بجريمة لم يقترفها، (يجد) نفسه داخل عوالم مختلفة، أولها السجن، وقد تمكّن الفنان والباحث والناقد المسرحي علي علاوي من ترجمة السلطة القهرية للغرب المستعمر، من خلال دور "السجان"، الذي يتفنّن في تعذيب "عباس"، من أجل انتزاع اعتراف السجين بكونه قتل ابنته "ميمونة" (الحلم والأمل في التغيير). كما تميّز الفنان نفسه (علي علاوي) في دور حارس المقبرة، حينما ترجم حرفيا نص المؤلف، القائل، على لسان "عباس"، في حديثه لـ"بيضاء"، أثناء السهر والحكي: (فوجئت، وأنا بباب إحدى المقابر العتيقة، برجل لا يشبه الرجال في مظهر.. وكأني به من العصور الحجرية، جره الزمن إلى تلك المقبرة).
 
مسرحية "كلام الليل" عرض فني ساخر بحمولة تراجيدية، يجمع النقيضين: منفتح على الماضي الأليم، في أفق التطبيع معه، كنوع من المصالحة مع سنوات الجمر والرصاص، ومفتوح على ليالي التفكه والأنس في بعدها الخمري، لكن دون مغالاة في العزف على تيمة الجسد أو السقوط في "التعبير المباشر"
 
ويبقى مشهد "عرين العرافة" أحد مفاتيح المسرحية، وهي في ذُرْوتها الدرامية، حينما قادت الظروف "عباس" إلى البحث عن ابنته "ميمونة" عند الساحرات والعرافات، طبعا بعدما بحث عنها في الدروب والأزقة والمخافر والمستشفيات والمخيمات والملاجئ.. حيث وجد نفسه أخيرا بين يدي "العرّافة"، التي شخّصتها، بمهنية كبيرة، الفنانة بشرى مسطري، في بُعدها الصوفي. وقد تمكّنت هذه الممثلة، من خلال حركاتها وتشوفها في "الماء"، أن تحملنا إلى عوالم من الكهنوت الخفي، الذي يحكمه "حوت أعمى.. قاهر"، وهي تقرأ مصير "ميمونة" كروح ترقص وتغني في دواخل "عباس"، قبل أن تشق له طريقا بين الأموات، حيث يُفترض أن تكون "ميمونة".
 
ورغم كون المسرحية تتكوّن من أربعة أنفاس، إلا أن المخرج قدمها لنا في فضاءين، بعد تقسيم الخشبة إلى قسمين.. الأول ثابت (غرفة "عباس") في وسط اليمين للدلالة على الحاضر، والثاني متغير (السيرك، السجن، عرين العرافة، والمقبرة) في أعلى اليسار للدلالة على الماضي، وقد ساهمت السينوغرافيا، التي صممها الفنان المبدع حسن عين الحياة، في إظهار هذه الأبعاد بمستويات جمالية مبهرة.
 
فمن جهة، جرى الاعتماد، في فضاء "عباس" الليل، على تيمة الدائرة، لرمزيتها عند العرب، وتجلت في الخلفية الجميلة، وهي عبارة عن دائرة كبيرة مضاءة تتوسطها دائرة صغيرة مضاءة هي الأخرى، وتحتها ما يشبه الرفّ، عليه كؤوس خمرية. فضلا عن تحول هذه الدوائر إلى منصة للرسم، حيث يمارس "عباس" شغبه الإبداعي (علما أن حسن عين الحياة، الذي يشخّص دور "عباس"، هو أصلا رسّام، فنان تشكيلي، وسأُفشي سرًّا حول تنظيمٍ مرتقب لأول معرض تشكيلي له، وأتصوّر أن كاتب المسرحية المبدع إسماعيل بوقاسم كان يفكّر في "حسن" وهو ينحت ملامح شخصية "عباس")...
 
ثم تجلّت تيمة الدوائر في زجاجات الخمر، وفي الدربوكة، وفي البراميل، التي تتحول إلى كراسي وطاولة، وفي قارورات الصباغة و"باليت" الرسم، وحتى في القبّعة، التي يضعها "عباس".
 
ومن جهة أخرى، جرى الاعتماد، في الفضاء الثاني المتغيّر، على صندوق كبير يتحوّل بمرونة إلى سيرك، ثم إلى سجن بقضبانه الحديدية وآلات التعذيب، وأيضا إلى منزل العرّافة وإلى سفينة للإبحار، فضلا عن تحوّله، في آخر أنفاس المسرحية، إلى جسر مقبرة مفتوح على القبور الممتدة إلى كراسى الجمهور.. وهذا إبداع جميل جدير بالتنويه...
 
ثمة هفوات تتعلّق بالإضاءة لدي اعتقاد أنه سيجري تجاوزها، لتبقى مسرحية "كلام الليل" عرضا ماتعا ومتكاملا، سافر بنا إلى عوالم بهيّة من زمن مسرح الهواة في عنفوانه الفكري الباذخ، وأتطلّع إلى توسيع الترويج له بمشاركات وطنية وعربية وستكون تمثيليته مُشرّفة للمغرب وللمسرح المغربي
 
إن مسرحية "كلام الليل" عرض فني ساخر بحمولة تراجيدية، يجمع النقيضين، منفتح على الماضي الأليم، في أفق التطبيع معه، كنوع من المصالحة مع سنوات الجمر والرصاص، ومن جهة ثانية، مفتوح على ليالي التفكه والأنس في بعدها الخمري، لكن دون مغالاة في العزف على تيمة الجسد أو السقوط في "التعبير المباشر"، حيث قيمة المعنى تكمن في الإيحاء الفني الدال على جوهر الفكرة...
 
وعموما، أستطيع القول، دون مبالغة، إن النص المسرحي، المنطوق بلغة عربية سليمة وفنية، فجّر فيه الكاتب المبدع إسماعيل بوقاسم كل طاقته في فن الحبكة. فالنص، منذ منطلقه إلى آخره، مشحون بعمق فكري وفلسفي، ينتصر للحداثة وللسلم والتعايش وتقبّل الآخر، فضلا عن كونه مليئًا بالعُقَد، التي تشد الأنفاس، وحابلًا بالصور الإيحائية الغزيرة من حيث المبنى والمعنى، فضلا عن كون الحوارات تبدو كما لون أنها قصائد شعرية داخل ديوان باذخ يحمل اسم "كلام الليل"...
 
لكن رغم كل ذلك، ثمة هفوات ينبغي تجاوزها، مادام هذا العرض المسرحي قد شقّ جولته الأولى بعرض رسمي أمام لجنة الدعم.. وتكْمن أساسا في الجانب التقني، وأخص الإضاءة، التي كسّرت، في بعض الأنفاس، التسلسل الدرامي في بُعده الانتقالي من زمن إلى آخر، كما جرى في مشهد السيرك، حيث كان ينبغي أن تكون الإضاءة فاصلة في مراحل تدرج "عباس" من الشعور بالبرد في الزيارة الأولى، ثم الإحساس بالجوع في الثانية، والعطش في الثالثة. ثم أيضا في بعض مناطق الضوء داخل السجن وفي فضاء العرّافة...
 
عدا ذلك، وأظن أن هذه الهفوات سيتم تجاوزها، تبقى مسرحية "كلام الليل" لفرقة فضاء القرية للإبداع عرضا ماتعا ومتكاملا (نصا وإخراجا وسينوغرافيا وأداء)، سافر بنا إلى عوالم بهيّة من زمن مسرح الهواة في عنفوانه الفكري الباذخ، وأتطلّع، بصدق، أن يذهب هذا العمل الإبداعي إلى أبعد نقطة في الترويج، ليس على مستوى المشاركة الرسمية في المهرجان الوطني في تطوان فحسب، وإنما على مستوى التمثيليات في المهرجانات العربية والقُطْرية، وأنا متأكد أن تمثيليته ستكون جميلة ورائعة وبهيّة ومُشرّفة للمغرب وللمسرح المغربي...