فرنسا تتجاوز الزلزال السياسي.. إيمانويل ماكرون أول رئيس يفوز بولاية ثانية منذ عشرين سنة
الكاتب :
"الغد 24" و(و.م.ع)
فاز إيمانويل ماكرون، اليوم الأحد 24 أبريل 2022، في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية بحصوله على 58.2 في المائة من الأصوات، مقابل 41.8 لزعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، وفق تقديرات أولية، لتتجنّب فرنسا، بذلك، ما كان يمكن أن يكون زلزالا سياسيا، خصوصا مع الحضور المتصاعد لمارين لوبان، التي باتت تحصد مزيدا من الأصوات، إذ تميز هذا الاقتراع بتسجيل أكبر نسبة يحصل عليها اليمين المتطرف في تاريخه، وهي ثمار استراتيجية طويلة اتّبعتها لـ"نزع شيطنتها" و"تبييض" صورتها، رغم أنها في الواقع لم تغيّر أي شيء من برنامجها، وبالأخص ما يتعلق بالهجرة. إذ كان من شأن وصول لوبن إلى رأس قوة نووية مع مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي، أن يشكّل زلزالا ليس فقط في أوروبا، وإنما في العالم...
من جهة أخرى، راوحت نسبة الامتناع عن التصويت بين 27,8 و29,8 في المائة. وأغلقت مراكز الاقتراع، التي دعي إليها الناخبون الفرنسيون البالغ عددهم 48,7 مليونا، عند الساعة 18,00 بتوقيت غرينيتش في المدن الرئيسية.
وإذا كانت نتائج الجولة الأولى قد أشارت إلى منافسة قوية مع زعيمة التجمع الوطني، فإن الأسبوع الأخير من الحملة بين الجولتين كان حاسما في اختيار الفرنسيين.
وكان المرشحان قد ضاعفا اللقاءات والخرجات الإعلامية، سعيا على الخصوص إلى استقطاب الناخبين المترددين، الممتنعين عن التصويت، ومناصري المرشحين الآخرين الذين فشلوا في الجولة الأولى.
ومنحت المناظرة التلفزيونية، التي جمعت إيمانويل ماكرون بمارين لوبان، يوم الأربعاء 20 أبريل 2022، بشكل عام، التفوق للرئيس المنتهية ولايته، الذي اعتبرته استطلاعات الرأي، أكثر إقناعا وقدرة على قيادة البلاد خلال السنوات الخمس المقبلة، لاسيما في سياق دولي يتسم بجائحة غير مسبوقة وحرب في أوروبا، مع تداعيات متعددة على القدرة الشرائية للناخبين.
وشكل مستقبل فرنسا في الاتحاد الأوروبي، القدرة الشرائية، البيئة، الأمن والهجرة، أهم المواضيع التي ركزت عليها الحملة الانتخابية للجولة الثانية.
وبحسب المتتبعين للمشهد السياسي الفرنسي، فإن الجولة الثانية، بعيدا عن قطبية برنامجي المرشحين، شكلت "استفتاء حول أوروبا ومن أجل فرنسا تعددية".
وفي خطابه بعد إعلان النتائج في "شون دو مارس" بمحاذاة "برج إيفل"، أكد إيمانويل ماكرون أنه يريد أن يكون "رئيس جميع الفرنسيين، الذي سيبدد الانقسامات والاختلافات، وسيأخذ بعين الاعتبار جميع الصعوبات، يجيب على مظاهر القلق المعبر عنها ويواصل العمل من أجل مجتمع أكثر عدلا ومساواة بين الرجل والمرأة".
وقال ماكرون، أمام حشد غفير، إن "مشروعنا إنساني، جمهوري من حيث قيمه، اجتماعي وإيكولوجي ينبني على قيمة العمل"، مؤكدا ضرورة أن "يكون حريصا وطموحا في سياق دولي كارثي حيث يتعين على فرنسا أن تتحلى بالوضوح في اختياراتها".
وقد التزم ساكن الإليزيه القديم-الجديد بالتحلي بـ"احترام الجميع أمام الانقسامات التي تعرفها البلاد"، مؤكدا أنه "لن يتم التخلي عن أي أحد".
ويتطلع الرئيس الفرنسي، أيضا، إلى تدشين مرحلة جديدة، لأن "هذا الانتخاب في نظره ليس استمرارية للعهدة التي أتت على نهايتها، بل إبداع جماعي لطموح متجدد من أجل البلاد وشبابها على وجه الخصوص".
ويبقى التحدي الأبرز في الظرفية الراهنة متمثلا في الانتخابات التشريعية ليونيو المقبل، التي يحتمل أن تعيد رسم الخريطة السياسة الفرنسية وتقوض الأوراش التي أعلن عنها الرئيس إيمانويل ماكرون للعهدة المقبلة.
بروفايل.. قصة شاب مولع بالأدب والفلسفة والاقتصاد
ثم دخل السياسة فقادته لقصر الإليزيه
دخل إيمانويل ماكرون تاريخ فرنسا في 14 مايو 2017 عندما تولى رسميا مهام رئيس البلاد بعد فوزه في الانتخابات أمام مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان. وكان يومها أصغر رئيس دولة فرنسي (39 عاما) منذ لوي-نابليون بونابرت في 1948 (40 عاما). ويوم الأحد 24 أبريل 2022، أصبح إيمانويل ماكرون أول رئيس يفوز للمرة الثانية على التوالي برئاسة لفرنسا منذ عام 2002، عقب انتصاره على منافسته اليمينية مارين لوبان بهامش مريح نسبيًا بلغ 58.5% مقابل 41.5%...
إنها قصة رجل طموح مولع منذ صغره بالمسرح والأدب، ومُتبحر منذ شبابه في التاريخ والفلسفة، لكنه جعل من الاقتصاد إحدى مجالات اختصاصه المهني، ثم دخل عالم السياسة، الذي قاده لقصر الإليزيه للمرة الثانية...
وكانت تلك نقطة وصول بارزة في مسيرة مميزة انطلقت خلال حقبة فرانسوا هولاند (2007-2012)، التي تولى خلالها إيمانويل ماكرون منصب مساعد أمين عام الرئاسة، ثم أصبح في 2014، وكان عمره 36 سنة، أصغر وزير للاقتصاد في تاريخ فرنسا منذ فاليري جسكار-ديستان.
في انتخابات 2017 الرئاسية، قدم ماكرون نفسه في ثوب "مرشح جديد" مقارنة بما سماه "العالم القديم" في إشارة إلى الممارسات المشبوهة والتي وصفها بأنها تعود إلى "حقبة الملوك"، التي انهارت قواعدها في 1789 مع اندلاع الثورة الفرنسية وانتهت رسميا في 1948 مع لوي-فيليب.
العفوية مقابل "لغة الخشب"
في 2017، لعب المستشار السابق في مصرف روتشيلد ورقة الشفافية والوسطية والاعتدال لكسب قلوب وأصوات مواطنيه، واستخدم في خطاباته كلمات يتداولها العام والخاص، متصرفا بكل عفوية على عكس السياسيين التقليديين الذين تعودوا على "لغة الخشب". استقطب حصص اليمين واليسار من الناخبين الغاضبين وفاز في الاقتراع بسهولة أمام زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان بحصوله على 66.1 من الأصوات.
بعد خمس سنوات في السلطة، تحول الشاب الطموح إلى رجل دولة، فنالت من أناقته وبشاشته الأزمات. فتزعزع عرشه مرارا، إلا أنه صمد أمام عاصفة "السترات الصفراء"، وقاوم انعكاسات خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، ثم تسلح بالشجاعة والثبات أمام تداعيات فيروس كورونا القاتل. وفيما أوشكت ولايته الرئاسية على النهاية، تفجرت الحرب الروسية على أوكرانيا، ليقود فرنسا وأوروبا بصفته رئيسا دوريا للاتحاد إلى مجابهة فلاديمير بوتين ووضعه أمام الأمر الواقع في عدة مناسبات رغم أن رئيس روسيا رفض الانصياع لأي شخص رشيد.
واستغل إيمانويل ماكرون الحرب في أوكرانيا لأغراض انتخابية إذ ترك الغموض يلف إعلان ترشحه لولاية ثانية لغاية 3 مارس 2022، أي قبل يوم واحد من غلق باب الترشيحات. وفيما يصفه أنصاره بأنه جريء ومنفتح يهتم بحماية الشعب، يرد معارضوه بالقول إنه "رئيس الأثرياء" صاحب التوجه الليبرالي المتشدد.
قصة غرام خيالية
ولد ماكرون في 21 ديسمبر 1977 في مدينة أميان (شمال فرنسا) من والدين متخصصين في الطب، ضمن عائلة ثرية تضم ثلاثة أطفال. وقضى طفولة سعيدة بين لعب البيانو وممارسة الرياضة والسفر إلى الخارج.
وختم مساره التعليمي في عمر 16 سنة بعلامة امتياز، إلا أن قصة غرام -مع أستاذة اللغة الفرنسية ومنشطة ورشة مسرح- بريجيت ترونيو زعزعت هذا النجاح المبهر، فقرر والداه نقله إلى باريس لمتابعة دراسته في ثانوية "هنري الرابع"، التي تقع في الدائرة الخامسة. والسبب وراء اعتراض الوالدين لقصة الحب التي كان يعيشها نجلهما هو أن المدرسة كانت تكبره بـ24 عاما.
واصل الشاب إيمانويل مشواره بجامعة العلوم السياسية بباريس ثم حصل على شهادة عليا في الفلسفة السياسية من جامعة نانتير (ضاحية باريس الغربية) قبل أن ينضم، سنة 2002، إلى المدرسة الوطنية للإدارة، التي تخرجت منها دفعات من قادة فرنسا الحديثة.
لعبت برجيت ترونيو -التي تزوجها ماكرون لاحقا- دورا أساسيا في سطوع نجمه، فعززت ثقته في النفس التي مكّنته من مواجهة تحديات عالم السياسة. فبعد تخرجه من المدرسة العليا للإدارة سنة 2004، توظف في المفتشية العامة للمالية مدة ثلاث سنوات. وعمل بعد ذلك مستشارا في لجنة كانت مهمتها إيجاد سياسة مالية لدعم الاقتصاد الفرنسي تحت رئاسة جاك أتالي، المستشار السابق للرئيس الاشتراكي الراحل فرانسوا ميتران (1981-1995).
من مصرف روتشيلد إلى الإليزيه
في 2007، التحق ماكرون بمصرف "روتشيلد" ليكتشف أسرار البنوك والمالية. وفي حوار مع صحيفة "لوموند"، علق ماكرون على خبرته البنكية قائلا: "لقد تعلمت مهنة، واكتشفت كيف يسير عالم المال والاقتصاد".
وفي مايو 2012، انضم إلى فريق الرئيس الفرنسي الجديد آنذاك فرانسوا هولاند ليصبح مساعد أمين عام الإليزيه، ثم وزيرا للاقتصاد خلفا لأرنو مونتبور. وقال عنه وزير الداخلية آنذاك مانويل فالس: "لديه سحر في نظرته وهو يعانق الجميع". لكن الرجل الطموح بدأ حملة خفية قادته في ما بعد إلى سدة الحكم.
ففيما كان يدافع عن "قانون ماكرون" لتحرير الاقتصاد الفرنسي من الجمود، والذي عارضه اليسار الذي ينتمي إليه الرئيس، كان في الوقت ذاته يلتقي شخصيات ليلا وسرا في صالونات باريس، استعدادا لمسيرة سياسية شخصية. وهو ما تحقق في أبريل 2016 عندما أطلق حركة "الجمهورية إلى الأمام"، ليستقيل من حكومة هولاند في 30 غشت من العام ذاته.
قرارات رئاسية مباشرة
لم يمر عام على إطلاق حركته السياسية حتى تمكن ماكرون من الوصول إلى قصر الرئاسة. وقال عنه جان-بيار شوفينمون الوزير الاشتراكي السابق وأحد الداعمين له، إن "الرجل أحادي القرار". واستغل أصغر رئيس (سنا) في تاريخ الجمهورية الخامسة [التي أسسها الجنرال شارل دي غول في 1958] صلاحياته الدستورية ليمارس حكما هرميا قوامه القرارات الرئاسية المباشرة مستندا لنصائح الأمين العالم لقصر الإليزيه ألكسي كولر.
وباشر ماكرون إصلاحات أربكت الناخبين اليساريين الذي صوتوا له في الانتخابات، لاسيما من خلال تعيين رئيس وزراء يميني (إدوار فيليب)، لكن سريعا ما واجه أزمات متتالية أبرزها استقالة رئيس أركان الجيش بعد بضعة أسابيع من توليه الحكم وقضية معاونه الأمني ألكسندر بينالا و"السترات الصفراء".
لكن مع ظهور وباء كوفيد-19 في مطلع 2020، جنح ماكرون إلى تخفيف القيود الاقتصادية الناتجة عن إصلاحاته فضخ ملايير الأورو في مواجهة التداعيات الاجتماعية للفيروس لتشهد شعبيته تحسنا ملحوظا. وبلغت شعبيته ذروتها بفضل مساعيه لوقف الحرب الروسية على أوكرانيا، إذ أنه تحدث مرارا للرئيس فلاديمير بوتين طالبا منه وضع حد للعملية العسكرية والخروج من أوكرانيا...
فتأخر الرئيس المنتهية ولايته في إعلان ترشحه حتى آخر لحظة، واكتفى بمحطات انتخابية قليلة لخوض الدورة الأولى. في النهاية، تأهل إلى معركة الدورة الثانية في المقدمة، التي فاز فيها أمام مارين لوبان، يوم الأحد 24 أبريل 2022، بفارق يطرح تحديا حقيقيا على ماكرون، الذي يعرف أن جزءا مهما من الناخبين صوتوا له بسبب غياب البديل، ولقطع الطريق على اليمين المتطرف الناهض، في بلد بات أكثر انقسامًا من أي وقت مضى، ومن المتوقع أن تسود فترة الخمس سنوات الرئاسية القادمة حالة من التوتّر...