استغلال الثورة التكنولوجية للتجسس واختراق سيادة الدول العظمى
الكاتب :
"الغد 24"
مراد بورجى
اختراق حكومات لهواتف معارضين وصحافيين، ومعهم مسؤولون من بينهم العاهل المغربي الملك محمد السادس والرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون، بدافع التجسس، الذي كشف عنه التحقيق الاستقصائي المفترض لمؤسسات إعلامية، وعلى رأسها صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية و"الغارديان" البريطانية، بالتعاون مع "منظمة العفو الدولية"، يطرح مجموعة من الأسئلة التي يجب الإجابة عنها.
أول هذه الأسئلة هو: هل التجسس هو وليد اليوم، ومن المستهدف، ومن المستفيد؟
ثاني هذه الأسئلة: هل المخابرات المغربية، بمختلف تلويناتها، وصلت اليوم إلى مستوى اختراق سيادة فرنسا، والتجسس على هاتف رئيسها، دون الكلام عن اتهامها بالتجسس على ملك البلاد وبعض أفراد عائلته وبعض المقربين منه؟
لجوء المغرب وفرنسا وأي متضرر مفترض للقضاء من شأنه الوقوف على حقيقة ما جرى، لإجلاء الحقيقة.
ما يهمنا هنا هو أن نستغل هذه الضجة الإعلامية لنتكلم عن هذا النوع من الهجمات السيبرانية (اختراق الثورة التكنولوجية مجال سيادة الدول)، التي لا تعدو أن تكون موضعا لتطبيق القانون الدولي عليها باعتبارها لا تنطوي على استخدام القوة (المادة 2/4)، الذي يشترط اختراق السيادة الإقليمية للدول المستقلة، وذلك على شاكلة أن التجسس لا يعد استخداما للقوة بموجب القانون الدولي، على الرغم من اختراقه لسيادة الدول، ولكن في المقابل، فإن امتداد آثار الهجمات السيبرانية على أرض الواقع يجعل منها فعلا يخترق السيادة الإقليمية للدولة، أيًّا كانت هذه الدولة.
فمادامت هذه الهجمات تستهدف تحقيق أهداف سياسية محددة، فإن بعضها، بالتالي، يعتبر تدخلا في الشؤون الداخلية للدول، وذلك من خلال اختراق الشبكات والأجهزة ونشر الوثائق الحساسة الموجودة بها على مواقع أخرى، وإتاحتها للجميع، الأمر الذي قد يتسبب وفقا لطبيعة تلك التسريبات في الإحراج السياسي أو اضطراب الساحة الداخلية أو توتر العلاقات الدبلوماسية بين الدول أو حتى اهتزاز الأوضاع الاقتصادية...
هذا بالإضافة إلى أن التحولات الهيكلية في المقومات المركزية للنظام الدولي، قد أدت إلى عدم قدرة الدول على السيطرة على حركة المعلومات وتدفقها، مع انتشار التسريبات مثل تسريبات ويكيليكس "wikileaks" التي كشفت كثيرا من الأمور غير المعلنة عن العلاقات بين الدول.
وتجدر الإشارة إلى أن ويكيليكس (موقع بث الأخبار السرية الذي أنشأه جوليان أسانج Juliane Assange) كشف أن أمريكا منحت لنفسها سلطة التدخل في مختلف شؤون الأمم الأخرى. فالمسألة تخطت اختراق سيادات الدول. لقد أصبحت سفارات أمريكا وحلفاؤها الغربيون أشبه بأجهزة حكومية بوليسية ما فوق أجهزة الدول الأصلية، متغلغلة داخل مؤسساتها التقليدية والمدنية.
وقد شهد العالم خلال السنوات الأخيرة سلسلة هجمات إلكترونية متعددة مست أهدافا مختلفة لدول بعينها.
ففي سنة 2007، تم تعطيل عدة مواقع رسمية لدولة إستونيا. وفي سنة 2010، هوجمت مئات أجهزة الطرد المركزي للمفاعل النووي الإيراني، وفي 2017، تم الاختراق الرقمي لحواسيب الرئاسة الألمانية وكذلك الهاتف الشخصي للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئيسين الفرنسيين نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند...
كما يندرج التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية لعام 2016 ضمن هذا السياق. فمحاولة روسيا التأثير على العملية الانتخابية في الولايات المتحدة أو في دول أوروبية أخرى يعتبر أمرا خطيرا وجديدا. وهو ما اصطلح عليه بالانتخابات العابرة للقارات.
فالثابت أن الهجمات الإلكترونية والتسريبات باتت تشكل تطورا جديدا وحقيقيا في العلاقات الأمريكية-الروسية والعلاقات الروسية-الغربية، وتؤكد حقيقة أن روسيا "البوتينية" تريد تحجيم التدخلات الغربية في الحديقة الخلفية لروسيا بكافة الوسائل السياسية والعسكرية والاستخباراتية، كما تعمل على العودة إلى دورها كدولة ذات نفوذ على الساحة الدولية من دون الدخول في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة.
لذا، تم اتهام روسيا بصورة غير قانونية وغير أخلاقية لزعزعة استقرار الديمقراطيات الغربية، من خلال استخدام ثلاث أدوات أساسية وهي: التأثير على القوى المحافظة في الغرب، والاختراق، ونشر أخبار وهمية تتوافق مع وجهات نظر الكرملين.
وقد بدأ اتهام روسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وتحديدا مع تسريب فريق القرصنة "فانسي بير" (Fancy Bear) لحوالي 20 ألف رسالة إلكترونية من اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي، وكذلك ما ذكر عن اختراق فريق قرصنة آخر يُدعى "كوزي يبر" (Cozy Bear) للجنة الوطنية منذ صيف عام 2015. ولقد ساهمت الوثائق التي تم الكشف عنها في الإضرار بمصداقية الديمقراطيين ومرشحتهم هيلاري كلينتون، مما دفع البعض إلى الاعتقاد بأن ذلك كان خطة روسية لدعم مرشحها المزعوم ترامب للوصل إلى السلطة.
وجدير بالملاحظة، أن توجيه الاتهامات إلى روسيا وحدها لا يعد بالأمر الجديد، فهو جزء من تقليد قديم في المجالين الأكاديمي والإعلامي الغربي، وغالبا ما يكون ذلك "هجوما استباقيا" متعمدا في إطار سياسة أكبر تهدف إلى تحجيم النفوذ الروسي، خاصة في ضوء توتر العلاقات الروسية-الغربية، على خلفية الأزمة الأوكرانية، إلى الحد الذي دفع البعض إلى الحديث عن حرب باردة جديدة.
إذا، يمكن القول إن الثورة التكنولوجية تجعل تطبيق المفهوم التقليدي المطلق للسيادة أمرا يستحيل واقعا تنفيذه. لأن منطق الفضاء الافتراضي هو في تضاد عضوي مع منطق الجغرافيا والحدود، وبالتالي السيادة.
في النهاية، يظهر لنا جليا أن العولمة عملت على تقويض السيادة، وبالتالي فإن على الاقتصاديات أن تتكيف من أجل البقاء، في إطار التكتلات الإقليمية...