الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

بيان التقاعد.. لماذا التقاعد قبل الأوان ببضع سنوات؟

 
مصطفى لمودن
 
والآن بعد ظهور "الحسم" الرسمي، لابد من توضيحات، لعلها تفيد البعض.
اتخذت القرار عن روية، بعد تقليب الاحتمالات، وإجراء حسابات الربح والخسارة..
سأخسر الكثير على المستوى المالي.. وهذا بفعل آخر إجراءات في هذا الشأن اتخذتها الحكومة السابقة (المتلاحقة!)..
ماذا سأربح؟ لا أعرف، هناك وقت فائض سيتوفر، عليّ أن أستغله..
لأَعُدْ إلى البدايات "الحالمة"؛ مباشرة بعد نيل شهادة الباكالوريا، ولجت المهنة بعد سنة من التكوين، كنت مضطرا كثيرا لذلك بعد وفاة الوالد. وكنت آمل بعد اشتداد عودي، أن أواكب وأستمر، أن أنخرط في تحصيل جامعي كما كان يفعل البعض، وأغير الوضعية. لكن، بمجرد وصولي إلى مركز التكوين، أصدر وزير مشؤوم مذكرة تمنع (أي) مدرس(ة) من التسجيل بالجامعة! وكانت أول ضربة ستتلوها أخرى.
فحتى بعد الدراسة بالجامعة، ونيل شهادة، لم ينفع ذلك بشيء، لقد تمّ الحصار التام والشامل.
شيء آخر، حينه، لم تكن مهنة التعليم ملقاة على جانب الطريق، لقد كانت تنتج عن اختيار "نخبة" ممن حصلوا على نقط متميزة في امتحان الباك، وكان أول مرة يتم فيها استعمال الحاسوب لهذا الغرض. وبعد تعييني كانت التلفزة تقدم إعلانات من أجل استقطاب الشباب لمهنة التدريس..
جيل الثمانينيات من المدرسين سد فراغا هائلا، وكانت الحاجة ملحة إليهم مع بداية انتشار التعليم، وخاصة بالعالم القروي، حيث تمّ تشييد أقسام مبعثرة على البوادي من البناء المفكك.. كانت المدرسة (وما تزال في غالبيتها) بدون المواصفات المطلوبة.. في هذا الخضم أُلقيّ بي (بنا) في مُهمة التدريس بدون أية وسيلة أو ظروف مناسبة في عالم قروي ورث كل أشكال الإهمال، وبأجور جد متدنية، مثلا أول أجرتي كانت 1430,00 درهما.
ورغم ذلك، تلك "الأجرة" وفّرت الحد الأدنى للعيش، ودعم من يحتاج للدعم من الأسرة. ولا شيء غير ذلك، لم يكن فِعلُ أي شيء آخر بتلك الأجرة ممكنًا، حتى الزواج والإنجاب كان مغامرة محفوفة بالمخاطر، وكان يبدو المدرس(ة) كأي مواطن(ة) عاجز عن تحقيق ذاته ويحتاج للمعروف! وهذا كان يعرفه سكان القرى، ويقدمون مساعدات للمعلمين رغم أنهم بدورهم يحتاجون الدعم، وكذلك أصحاب وسائل النقل مثل الحافلات. وكان يُضرب بالمعلم المثل والتندر.
وأظن أن ذلك كان مقصودا، فالحكومات كانت مطالبة بتعليم الشعب (داخليا وخارجيا على مستوى صناديق الاقتراض)، ولكن في حدود معينة، وظل المدرسون في صف الفئة المغضوب عليها، ولهذا لحقها الكثير من الإهمال، ومنه عدم التوفر على خدمات اجتماعية مناسبة، مثلا لم تكن هذه الفئة تتوفر على أي مكان للاصطياف كبعض الوظائف والمهن العمومية الأخرى.
ورغم ذلك صبرنا، وكنا نشارك في جل الإضرابات التي تدعو لها النقابات التعليمية الجادة حينذاك.
بدأ يتحسن الوضع نسبيا مع ظهور "الترقي" إلى سلم وظيفي أعلى. لكن سرعان ما أغلق القوس بسبب ما كان يقال عن عدم "توفر المناصب المالية"! وكانت تظهر نتائج التداول في الترقي والامتحانات مرفقة بكلمة "لا أحد".
ومع حكومة التناوب تغير الوضع إلى الأفضل، لكن بمساطر تجعل الأمر يطول بالنسبة للجل، وظهرت فئات أُغبنت في حقوقها، منها من ما زال يعاني إلى الآن.
بالنسبة إلي، وقد أكون ضمن حالات قليلة، انتقلت ضمن أربعة سلالم؛ وهذا ما زاد في الـتأثير السلبي على قيمة المعاش، بالإضافة إلى قرار الحكومة المشار إليه أعلاه.
ورغم ذلك اخترت التقاعد النسبي.
لقد حرصت على القيام بمهمتي بصدق وأمانة (وحتى بدون قَسم)، ومازلت أرفع مناشدة إلى أي كان، لديه معلومة سلبية عن أدائي، أن يدلي بها، سواء من قائمة تلاميذي السابقين وهم كُثر، ومنهم من يقرأ ما أكتب. أو من بين ولي(ة) أمر تلميذ(ة)، أو زميل(ة)، أو مؤطر(ة)..
لقد ضحيت كثيرا، وعانيت كثيرا.. وخاصة في العالم القروي حيث اشتغلت لمدة 33 سنة.
أمام الصعوبات والعراقيل الكثيرة، كان عليّ برمجة حياتي وفق مسار محدد، راعيت فيه الإمكانيات، وما يجب تحقيقه؛
أولا حرصت باستمرار على القراءة ومتابعة المستجدات، ولم أشعر يوما أنني على هامش الثقافة والأحداث، ولو بالاطلاع..
لم أركن للهامش والاستسلام، لم أدخن ولم أتناول مخدرا؛ لقد حرصت على يقظتي المستمرة..
خضت معارك من أجل قضايا عادلة، من ذلك إدخال الماء والكهرباء لمدرسة رغم صعوبات لا يمكن تصورها. كنت وراء جلب معدات لقسم في صنف التعليم الأولي، كما ساهمت بجلب نظارات طبية لتلاميذ..
انخرطت في العمل السياسي النضالي وليس الانتهازي، وكنت مستعدا لدفع الثمن في أي لحظة، وقد أكون دفعته من حيث لا أحتسب...
ساهمت في تأسيس عدة جمعيات جادة، وتحملت فيها المسؤولية..
مارست العمل الصحفي التطوعي، وحضرت من أجل ذلك عدة تكوينات، جعلتني ألمّ ببعض مبادئ الكتابة الصحفية، وذلك أفادني كثيرا في كتابة الرواية والقصة، ولو أن هناك تفاعلا بين جميع أصناف الكتابة.
تحملت المسؤولية النضالية في مجال حقوق الإنسان.
مارست الإعلام المواطن التطوعي على مستوى الإنترنيت..
اكتسبت خبرة في مجال التنشيط الثقافي وتنظيم الندوات وإعداد الملصقات..
وكل هذا لم ينفع بشيء على مستوى المهنة الغارقة في الاجترار والتفاهة والمراقبة غير الموضوعية..
رغم الهامش المتاح للمدرس(ة) في عمله مع المتعلمين داخل القسم، بحيث إنها مهنة فيها الارتكاز على عامل الضمير بنسبة كبيرة، ولا يمكن أن يفرض فيها "كابران" يراقب سير الأشغال. لكنها (المهنة) محاصرة بتعليميات وزمن تعليمي وفضاء محدد قاهر، وبرنامج يغلب عليه التقليد والسطحية وقلة الوسائل التعليمية والضخامة والترهل الخ.
رغم ذلك عملت بعشق ومحبة، ولم أكن "خُبزيا" ولج الوظيف من أجل العيش فقط، بل حرصت باستمرار على تلطيف -ما أمكن- ذلك المقرر الجاف وغير المستساغ من قبل جل المتعلمين، إذ لا يلبي في الغالب حاجياتهم ولا يراعي أعمارهم وظروفهم..
فما أقسى أن يستهلك المعلم(ة) والمتعلم(ة) نفسيهما في دروس مفروضة كما هو حال جل دروس التربية الإسلامية التي تحولت إلى ست مواد.. وما أقسى حذف النشاط العلمي لمدرس(ة) العربية، بعدما كان متنفسا يتيح إعادة أمور العقل إلى نصابها، واِلحاقه بمدرس(ة) الفرنسية ليزيدوه ثقلا مع الرياضيات واللغة الفرنسية، كي لا يتحقق أي شيء ذي قيمة للأسف!
إن المدرسة "بؤرة" منعزلة تعيش ظروفا صعبة، فالتعليم بمناهجه ومقرراته وضع ليخدم فكرة وتوجه الكبار، وخاصة الفئة الغالبة، وفي حالة المغرب تبقى المدرسة ضحية لبعض التسويات الضيقة من طرف بعض الفرقاء، كل يريد أن يقضي حاجة ما من وراء المدرسة، وفي هذا الصدد يدخل إغراقها بدروس الدين.
المدرسة معزولة عن محيطها، لا يوجد مِن المقرر ما يجعل التلميذ(ة) يطلع من خلال المدرسة على ما يتفاعل داخل المجتمع.
لا توجد آلية ثابتة وقانونية للتواصل مع الأسرة وأولياء الأمور، فقد يقضي تمليذ(ة) سنة أو أكثر دون أن يقع أي لقاء أو حوار مع ولي أمره.
تعتبر المدرسة فضاء كئيبا للمتعلمين والمدرسين. وليس هذا ما أنشره اليوم، بل لقد كتبت عنه مرارا، وأدليت بمقترحات لتجاوز ذلك.
ناهيك عن بعض الممارسات التعسفية في حق سلك الابتدائي عموما، حتى كأنه يبدو الأمر متعمدا ووراءه سلوك غير سوي، من ذلك إرغام التلاميذ والمدرسين في المدن على القدوم والإياب أربع مرات في اليوم، والعمل ستة أيام في الأسبوع.. يبررون بأن ذلك في مصلحة المتعلمين، بينما أثبتت الأحداث أن تلك "المصلحة" المزعومة يعفس عليها في أول مناسبة.
ناهيك عن مهام كثيرة بالمؤسسة، تجعل الأستاذ(ة) مسؤولا عن التلاميذ من باب المدرسة إلى أن يخرجوا منه، عدا الحراسة بالساحة..
ومِن ذلك ما يُلح عليه بعض المراقبين من توفير كمّ هائل مما يسمى "الجذاذات" مكتوبة بخط اليد، لأن مدرس(ة) الابتدائي يقدم موادَّ كثيرةً ومختلفةً بمعدل نصف ساعة لكل مادة، بينما المطلوب هو توفير التكوين الجيد والمستمر للمدرس، بحيث يصبع قادرا على الإبداع وليس على الاجترار، وقادر على التكيف السريع مع كل وضعية طارئة بالقسم، وليس التماس الحل من ورقة صماء، مدرس يعد الخطوط العريضة وما هو ضروري ولو على رؤوس أقلام، وليس "جذاذة" أنيقة بالألوان حرصا على سلامة عيون المراقب(ة).. باستمرار كنت أغيّر النصوص المقترحة للشكل مع المستوى السادس وغيره، بحث إن تلك النصوص المقترحة إما طويلة، أو غير مستوفية لمتطلبات الظاهرة اللغوية المدروسة، أو أنها خارج الموضوع وليست مناسبة للوحدة المدروسة.. ولكن لم أعد ذلك على ورقة أنيقة، بل قد تكون بقلم الرصاص على هامش النص المقترح بالكتاب، أو على ورقة، كما كنت أملأ دفترا كبيرا خلال السنة من مثل هذه الإعدادات، التي لا تروق لبعض المراقبين. مرة قال لي أحدهم، في المرة القادمة يجب أن أجد عندك جميع الجذاذات من أول السنة إلى اليوم الذي سأزورك فيه! وكأنني معلم حمار الطاحونة، وهو عنوان نص كتبته بالمناسبة وهو متوفر على شبكة الإنترنيت..
ولهذا لا يوجد مقياس موضوعي للتصنيف، فقد تكون مُجدا، ترهق ذاتك، تساهم من مالك لتوفير بعض المستلزمات، تحضر في الوقت بل قبله، تكون آخر من يغادر، وتتمنى أن يطول الوقت أكثر حتى يفهم التلاميذ وينجزوا المطلوب منهم، ولم يكن الوقت دائما يكفي.. بينما قد تجد زميلا(ة) أو أكثر، ينجز الحد الأدنى، يتهاون، يلعب بهاتفه.. ورغم ذلك لا فرق. علما أنني باستمرار ظللت شاهدا على تضحية جل المدرسين الزملاء وقيامهم بالواجب.
لقد ظل العمل في القسم بمثابة السجن الذي يجب مغادرته بأي طريقة كانت. ولا يتم وضع التدريس بالقسم في المستوى اللائق من الاحترام والتقدير. فالكل يسعى ليصبح مديرا أو مفتشا أو يشتغل بالمديرية.. ولا يمكن لأي مِن هؤلاء أن يختار يوما ما العودة إلى القسم. وهذا ما تنبّه له محررو "النموذج التنموي" واقترحوا الرفع من شأن المدرس(ة).
باختصار، خرجت قبل أن أنهار بالكامل..
رغم تقاعدي هذا المبكر، أعلن أنني رهن التعليم، سواء بالرأي أو بمحاولة الكتابة في هذا المجال.
وتحية لجميع الزملاء والزميلات، تحية لمن اتصل مهنئا، وأقول ما أروع أن تتجول بالشوارع وأنت متيقن بأن أي تلميذ(ة) سابق لك، لن يشير إليك بأصبع اتهام أو عداء. وأتمنى أن يتحسن وضع المدرسة المغربية لما في ذلك من خير عميم.