واضح جدا أن من يسعى للكتابة في السرد، ليس عليه فقط أن يقرأ ما يوجد ويستجد في هذا الشأن فقط، بل أن يطلع كذلك على النقد الأدبي. حيث إن ذلك مفيد لأي قارئ بغض النظر عن أي قصد..
وفي هذا الصدد، يمكن ذكر دراسة مهمة حديثة النشر، تعود للناقد د. المصطفى سلام، من خلال كتابه الموسوم بـ"المتخيل الأسطوري في الرواية المغاربية"، الصادر عن دار النشر "سليكي أخوين"، الطبعة الأولى، في أبريل 2021، من خلال 333 صفحة..
وقد تضمن الكتاب جزءًا ذا طابع نظري، تمحور حول "المتخيل" و"الأسطورة"، غطى ذلك نصف الكتاب، وقدم الكاتب دراسة مستفيضة ذات طابع تأصيلي وتفسيري؛ وقد درس كلا المصطلحين عند العرب قديما وحديثا، وعند الغرب، سواء من طرف الإغريق أو النقاد المعاصرين..
أما المحور التطبيقي، فقد شمل دراسة أربع روايات من المغرب العربي، وهي:
ـ "السيد" لمحمود المسعدي من تونس.
ـ "عشب الليل" لإبراهيم الكوني من ليبيا.
ـ "الحوات والقصر" للطاهر وطار من الجزائر.
- وأخيرا "خميل المضاجع" للميلودي شغموم من المغرب.
درس الكاتب في هذه الروايات كيف استعمل الكُتاب الأسطورة، وقد اعتمدوا على أساطير قديمة، في نوع من التناص أو التشابه السياقي، مع اختلاف في الشخوص وفي المآلات والمصائر أحيانا..
مما لفت انتباهي تأكيد الكاتب على لا نهائية التأويل في الرواية، بقوله: "إن النص الأدبي عامة لا يمكن تجفيفه من المعنى أو اختزاله إلى معنى نهائي لأنه لو تم ذلك لأصبح جثة هامدة أو رميما في مقبرة الكتابة. والحقيقة غير ذلك، إذ رغم حصافة المناهج النقدية وأهمية المداخل المنهجية وإجرائية المفاهيم والأدوات التحليلية، لا يمكن إفراغ النص الأدبي من معناه، بل ما يمكن هو فتح نافذة على العالم الدلالي اللانهائي للنص التخييلي". ص: 21.
فكرة جيدة لا تجعل النص يموت، بل منفتحا على تأويلات مستمرة.
لماذا يلجأ الكاتب لاستعمال الأسطورة؟ يجيب الباحث بقوله:
"باعتماده النص الأسطوري كوسيط فني يحيلنا على كون الأدب شكل في تاريخ الإنسانية، وفي بعض الوضعيات الحرجة التي عانى فيها المبدع والمجتمع من ظلم السلطة، ضربا من المقاومة، وهي نوع خاص، المقاومة بالحيلة، والتوسط بالأسطوري: محكيات ورمزا، وهو مجال يقول فيه المبدع رأيه بطريقة غير مباشرة، لأنه مجال يسمح له بذلك ويعفيه من المراقبة، فيلجأ إلى الرمز بطريقة غير مباشرة، لأنه مجال يسمح له بذلك ويعفيه من المراقبة، فيلجأ إلى الرمز ويعود إلى وقائع تراثية وأسطورية ويسقطها على الواقع. لكون الأدب لا يمكن للسلطة أن تستولي عليه كما تستولي على المصانع وتتحكم فيها مثلا، كما أنها لا تتمكن من الاستيلاء على وسائل التعبير الأدبي". ص: 228.
التساؤل القائم، إذا كانت السلطة لن تتوصل إلى المعنى والمبتغى من استعمال الأسطورة في الرواية، حتى يمر ذلك تحت عيونها، فلا تراه، فكيف يمكن للقراء فَهْم ذلك؟ ألا يمكن أن يروا في تلك الكتابة مجرد أحاجي وأحيانا طلاسيم كما ظهر من الروايات المدروسة؟ عوض أن يكتب الكاتب بشجاعة وبدون مواربة.
لقد حدد الناقد د. المصطفى سلام للرواية مهامَّ متقدمةً ذات بعد جمالي ومعرفي ونضالي، إذ كتب في الصفحة 208 ما يلي:
"إن إشكالية السلطة لم تبق حكرا على الدراسات السياسية والفلسفية والاجتماعية... بل تناولتها الأعمال الأدبية وخاصة الرواية".
ويضيف في الصفحة الموالية: "وما سمح للرواية بهذا التناول هو طبيعتها المزدوجة: إذ هي من جهة تحقق المتعة الجمالية من خلال البناء المحكم للحكاية وجمالية التصوير وخصوبة الوصف ودينامية السرد، ومن جهة ثانية: تحقق البعد المعرفي، الذي يكمن في الموقف الإيديولوجي الذي يعرض في النص من خلال الحكاية. هذا الوضع جعل الرواية أو بالأحرى الخطاب الروائي موضوعا لمقاربة القيم السياسية، وعلاقة المثقف بالسلطة، أي أن الرواية لم تعد مادة تخييلية فقط، بل هي موضوع معرفي، إلى جانب البعد الفني والتخييلي".
وعليه، هل الالتباس الذي قد تقع فيه الرواية باستخدامها الأسطورة يخدم التوجه المشار إليه؟
بل حتى استعمال الأسطورة في الرواية يختلف من جنس أدبي إلى آخر، والكاتب يؤكد ذلك بقوله:
"التحقق الأسطوري يختلف في الخطاب الأدبي باختلاف الأجناس الأدبية، وتختلف الأجناس الأدبية باختلاف الأنواع النصية باختلاف مقتضيات البناء والتركيب والتأليف، إذ البناء الشعري يتغاير عن البناء المسرحي، وهما بدورهما يتمايزان عن البناء السردي" ص: 303.
ناهيك عن ضرورة توفر القارئ المثقف للتواصل معه على شكل مناسب، وهو ما لا يتوفر في القراء على قلتهم بالتناسب مع عموم الشعوب.
لا مندوحة لأي مهتم بالسرد من الاطلاع على هذا الكتاب لما يوفره من فوائد جمّة، رغم بعض الهفوات (حسب رؤيتي)، من ذلك سوء توزيع علامات الترقيم، اعتماد مراجع تعود لأزيد من عقدين في مجملها، دون الانفتاح على المستجد في عالم النقد الأدبي، وظهور بعض التطويل الذي يبعث على الملل من التكرار، بحيث يمكن حذف ربع الكتاب دون أن يقع أي خلل خاصة بالنسبة للخلاصات وفقرات في مجال دراسة الروايات الأربع، مثلا ما جاء في الصفحة 254.
ورغم ذلك فللكتاب فائدة تنويرية وتثقيفية وتوجيهية مهمة...