الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم
الدكتور محمد العودي

الحداثة لا تُبْنى على قاعدة الرداءة

 
د. محمد العودي
 
ما الغاية من الكوميديا والأعمال الفكاهية وما الفائدة بالنسبة للمجتمع؟ تساؤل ما كان ليطرح من جديد لولا موجة الاستنكار التي أثارتها الأعمال الفكاهية للقناتين بمناسبة رمضان...
 
ما أشبه البارحة باليوم!
أحمد حميد المرادي
هذا المقال للدكتور محمد العودي تمت كتابته في أكتوبر سنة 2006، ننشره اليوم كما كُتب آنذاك، في هذه اللحظة التي يعرف فيها الوطن انزياحات بئيسة، ورديئة، من قبيل احتجاج هيئة منظمة (المحامون) على تناول مسلسل لـ"المهنة"، وبيان شبه نقابة (السكك) نظرا لـ"تحقير" مستخدم السكك الحديدية في مسلسل (...)، ولا ندري إن سوف تستقيم الأمور مستقبلا.
في وقت تم إخراس كل الأصوات الناقدة لهذه الرداءة التلفزية المستعادة كل سنة، بشراء الذمم أو الإسكات عبر "تحت الطاولة"، لم نعد نشاهد التلفزيون بقنواته، لكن رائحته تزكم الأنوف من خلال ما نراه من تعليقات على وسائط التواصل الاجتماعي وتواتر الأحاديث...
 
أعمال تثير بالفعل القرف، مؤكدة بذلك أننا حقيقة بصدد أزمة إبداع وليس أزمة إمكانيات. وثمة اعتراف على نطاق واسع بواقع أن وظيفة هذا النوع من الإنتاج الفكاهي السخيف تندرج، منذ العهد السابق، ضمن منظومة مدمرة غايتها التبليد والتدجين على جميع المستويات، بما فيها إفساد الذوق والتشويش على ملكة الإبداع والإلهام الفني عند الناشئة. بل إنها أضحت تسبح ضد تيار التمدن الذي يواكب لا محالة عملية النمو والتحديث. وذلك من خلال التأثير، عن وعي أو دون وعي، في اتجاه بَدْوَنَة الأشكال الفردية للحياة العامة والسلوكات في مجتمع المدنية.
 
إن ملكة الإبداع الكوميدي والفكاهي التي يفجرها عادة ركام الحياة الاجتماعية أو حصاد تجربة إنسانية تعتبر، منذ القدم، أداة من أدوات التغيير والتقدم والدفع بسلاسة إلى التفكير بعمق مرح في الواقع المعيش من أجل بناء مجتمع إنساني أفضل...
 
من هذا المنطلق تُعرض صور من وحي طرافة أو صعوبات الحياة اليومية، وتتعرض لنقد هزلي هادف، بإبداع فني يفضي إلى دعم وإثراء الثقافة الشعبية.
 
على هذا النحو من السخرية الراقية، يتم إذن انتقاد عاهات المجتمع بفنية نيرة ومسلية، كالاستهزاء اللاذع من ظروف الإفقار والتسلط والظلم الاجتماعي أو الاحتجاج الساخر على غلاء المعيشة. خاصة وأننا كباقي شعوب دول الجنوب نعيش في عالم يعاني من مظاهر قاسية من الفقر والمسغبة والقهر والعنف الناتج عن المشاكل المعقدة التي أنجبتها شراسة العولمة الرأسمالية.
 
وفي اتساق مع النظرة النقدية الفاحصة لبؤس الكوميديا والفكاهة المغربية، بالرغم من بعض الاستثناءات، نستحضر هنا التجربة التاريخية لإيطاليا في هذا الميدان. لقد ساهمت بالفعل الفكاهة والكوميديا الإيطالية، برموزها الشهيرة عالميا عبر السينما والمسرح، في بناء رفاهية المجتمع الجديد بعد مرحلة الظلامية الفاشية والانهزام في الحرب الكونية الثانية. وتتجلى بالذات نموذجية الكوميديا والفكاهة الإيطالية في سخريتها النقدية للمؤسسات، ومساهمتها الفعلية في تغيير العقليات وتفتح الكنيسة على المجتمع المدني، والحد من طغيان اللاهوت في الحياة السياسية والاجتماعية. مما يبرهن أن الأعمال الإبداعية، فكاهية كانت أو غيرها، هي وثيقة الصلة بالتنمية، وتظل إحدى آليات التطوير الحضاري، ومكافحة كل أشكال الظلم والتخلف. ولنا مثال حالي في فيلم "أنديجان"، الذي كان وراء إرجاع الحقوق المهضومة لقدماء المحاربين المغاربيين بفرنسا.
 
على أن الأسس التي يستمد منها الإبداع الفني وجوده، فضلا عن أجواء التسلية والمرح المفترضة، تتعارض ومنظومة الرداءة التي شملت مختلف مرافق الحياة العامة ببلادنا. مما أفضى إلى تهميش الطاقات الخلاقة، وحجب كل ما هو جميل في حياتنا الاجتماعية والثقافية والفنية. بيد أن التنمية والحداثة لم تنبن في أي ميدان وفي أي مكان وزمان على عنصر الرداءة...