الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم
أنظر تعليق أحمد المرادي على هذه الصوة أدنى المقال

المناضل اليساري محمد العودي يستحضر رؤوف الفلاح ويكتب: رفيق في الذاكرة.. بعد الرحيل

 
محمد العودي
 
لو لم يكن العزيز رؤوف الفلاح كما هو في واقعه، بنزاهته وقوة شخصيته، لاختلقته الأسطورة نكاية في شيوع الانتهازية والانبطاح. إذ أنه ظل يشكل في حياته اليومية كتلة نضالية في تأجج وقلق ضميري دائم. قلق طالما رافقه منذ أن كان مناضلا طلابيا بجامعة محمد الخامس بالرباط، والقمع في أشده أواخر الستينيات، وبداية السبعينيات. لقد كانت مرحلة فاصلة في حياته، وخطوة أساسية في تكوين بنيته العقلية والفكرية. لتتجذر الذات الثائرة ضد الظلم والقهر الاجتماعي. ومن ثمة، فإن الراحل ترك سلوكا نضاليا سيظل نموذجا يعتد به في تحصين الأجيال الصاعدة من مخاطر التدجين والتيه السياسي.
 
لقد سلك المرحوم، وهو المناضل اليساري العصي عن النسيان، طريق المثقف العضوي الذي تظل تأثيرات عطائه اليومي الدؤوب، بالنسبة لصيرورة المجتمع، جد عميقة، سواء تعلّق الأمر بمحيطه أو على مستوى أجيال من تلامذته ورفاقه... وذلك على غرار مثقفين كانت لهم القدرة على تمثيل رسالة اجتماعية وأيضا فلسفة نضال. على أن الراحل فضل اقتحام الواقع من باب مقاربة المعيش. وضع لا يخلو من انعكاسات ومخاطر في ظل البيئة السياسية، خلال سنوات الرصاص، بيد أنه موقف ظل في حالة تأجج دائم بنبله ونزاهة الباعث.
 
إن تراثه المكتوب يبقى بالفعل محدودا، مقارنة عما كان يتوفر عليه من مؤهلات ونباهة فكرية. لقد كان مقتنعا بضرورة الاطلاع على أهم ما يكتب. وذلك حتى لا يعتمد على ما يطلقه الآخرون من أحكام. حرصا منه على تكوين ذاته بذاته. مما عمق اهتماماته الفكرية وتحليلاته النقدية لواقع التشكيلة المغربية، مدققا في خصائص السلطوية بالمجتمعات العربية، كما هو الشأن في ما يخص تكالب الإمبريالية على العالم الثالث، واغتصاب أرض فلسطين، التي جعل منها معركته المقدسة.
 
هذا، إلى جانب شغفه بتجارب حركات التحرر عبر العالم الثالث، على رأسها الملحمة التاريخية الفيتنامية، بحيث كان يحيل، في جلساته، على الزعيم الفيتنامي "هوشي منه" والثوري الماركسي "غرامشي"، أكثر مما يحيل على "ماركس" و"لينين". مع أنه كان على اطلاع ومعرفة عميقة بالفكر الماركسي. إن تعدد الحقول المعرفية عنده، لم يفض فقط إلى توجيه تحركاته العملية والثقافية. وإنما، إلى ترسيخ الإيمان لديه بأنه لن تكون هناك عدالة اجتماعية، بل، ولكي تكون عدالة أصلا، لابد أن تكون هناك إمكانية الإنصاف.
 
لقد كان مؤمنا بالدور الطلائعي للمثقف المجتمعي، ليس فقط من خلال الحراك الدائم، بل أيضا من خلال التكوين الدائم. فلم يتردد، مع مطلع الثمانينيات، في ركوب موج التحدي بعد سنوات من التدريس. كنتُ وقتها بجامعة Poitiers، حين قرر رؤوف طلب التفرغ الإداري دون راتب والالتحاق بجامعة Ponthéon - Assas - Paris II بقلب باريس. لعل الفرصة كانت مواتية أيضا لمعانقة رفاقه في المنفى، لم يلتق بهم منذ فترة الاختطافات والاعتقالات مع مطلع السبعينيات، والتي شملت آنذاك صفوف الحركة الطلابية الجذرية، والفصائل الثورية الاتحادية، في خضم نشاط خلايا العمل المسلح.
 
إن اختيار جامعة "Assas"، التي تخرّج منها ثلة من الأطر والمشاهير والشخصيات السياسية الفرنسية والدولية، كان بمثابة تحد في حد ذاته. إذ، بغض النظر عن الانضباط والمصداقية، فإنها كانت تضم نخبة من الأساتذة الباحثين بتوجهات محافظة من حيث المقاربة والمزاج. بحيث إنها كانت بمثابة النقيض لجامعة Vincennes، التي تأسست بعد ربيع 1968 الطلابي. لم يكن الأمر يقتصر عند حد تواجد التيارات اليمينية، وإنما يتعداه إلى اليمين المتطرف، الذي كان حاضرا بقوة داخل الحرم الجامعي. حتى أن فصائل اليسار والطلبة المغاربيين والعرب عموما كانوا يتحاشون التسجيل بشعبها.
 
لم يكن ذلك ليحد من آرائه اليسارية، خاصة إذا تعلق الأمر بالمسألة الإمبريالية أو القضية الفلسطينية، إلى درجة أن أحد الأساتذة راوده الشك، فسأله: هل أنت فلسطيني؟ بعد أن كان يعتقد أنه طالب من أمريكا اللاتينية، نظرا، دون شك، للون عينيه وملامح وجهه، التي كانت قريبة من مظهر تشي غيفارا، بحيث عادة ما كنت أنادي عليه بلقب "راوول" فلاح. لم يحاول "راوول" المراوغة للتغطية على المشاعر التي بداخله. بل، أجاب أستاذه، بجرأته المعهودة، بأنه طالب مغربي! ومن واجبه، كمثقف وإنسان، أن يكون له موقف من مأساة شعب تعرض لأبشع نصب في التاريخ المعاصر، للتعويض عن جرائم مصدرها الغرب. مما اندهش له أشهاد المدرج.
 
كنا على موعد اللقاء بصديقنا المرحوم محمد العيادي، الذي كان بدوره يحضر السلك الثالث بباريس، والسنة الجامعية كانت على وشك النهاية. فإذا بـ"راوول" يغادر فجأة فرنسا، تحت ضغط إكراهات إدارية، مادية وعائلية، بحيث إنه انسحب قبل إتمام الامتحانات الشفهية، ليلتحق دون تحسر بالوطن الأم.
 
لقد كان يجد لذته الثقافية في تمرده الفكري، في كل ما من شأنه مخالفة القواعد. إذ أنه ظل دوما سيد نفسه وقناعاته، لا يخضع بطبعه لأي سلطة، بما فيها سلطة التنظيمات. بحيث لم يكن يرضخ إلا للوازع النضالي، الذي رافقه طيلة حياته، مما جعله يهتم بكل ما هو ميداني، بحمولة فكرية تتجاوز المألوف. ومن ثمة، فإن بِؤرة هويته كانت ترتكز على المبادئ والعقلانية، لا غير. إذ أنه قبل أن يصبح أستاذا للغة الفرنسية، كان طالبا بشعبة الفلسفة بجامعة محمد الخامس بالرباط، بحيث إن الرافد الفلسفي جعله يدرك مدى أهمية التمييز الحاسم، الذي أقامه الفيلسوف "هيغل" بين الماهية والوجود، في سياق ملموس بماهية الإنصاف، وإحقاق الحق والمساواة الاجتماعية، بل العدالة الإنسانية.
 
من أبرز أيقونات حياته، أيضا، تكوينه الأكاديمي في العلوم السياسية والقانونية. وذلك، من حيث حصوله على الليسانس بكلية الحقوق بالدارالبيضاء. غير أنه رفض، بتعفف المحارب الصامد، مغادرة الأستاذية والالتحاق بسلك المحاماة أو الموثقين، متجاهلا في اختياراته العنصر المادي، لأنه كان يدرك، بحسه النضالي العميق، مدى رهان تعليم الأجيال الصاعدة بالنسبة لمعركة التحرر والانعتاق من الجهل والتخلف.
 
وبالرغم من كونه سلاويا حتى النخاع، فإنه لم يتوان في التباهي بالاستقرار بالدارالبيضاء، التي التحق بها بعد مغادرته دهاليز الاعتقال منتصف السبعينيات، من حيث إن الهوية السوسيواقتصادية للمدينة، بالنسبة إليه، تكمن بالذات في قوّتها العمالية وسيرورة انتفاضة 1965. كما هو الحال بالنسبة لهويتها الثقافية، التي تتجسد عنده في تواجد العديد من المثقفين والفنانين والرياضيين والصحافيين، الذين كان قريبا من شخصياتهم وإبداعاتهم.
 
حتى إنه حين كان يتكلم عن مرحلة الاعتقال، كان يشير إليها بـ"السفر" قبل اللجوء إلى الدارالبيضاء، في علاقة ضمنية بالمجهول، بحكم أنه لم يكن يعرف ساعتها عما ستؤول إليه حياته. على اعتبار أن الدارالبيضاء احتضنته وكمدت عمق جراحه. إذ أسس بها أسرته الصغيرة. ومن ثمة، لم يعد يهاب شساعة المدينة، بقدر ما أصبح يخاف على تدبير حكامتها من بطش الفساد والزبانية.
 
لقد ظل "راوول" مهووسا بالعودة بسرعة إلى حضن مدينته بالتبني، أينما رحلنا وارتحلنا، عاقدا، بعد حط الرحال في أي مكان، مقاربته النقدية لمظاهر التهميش المختزلة عبر المناطق النائية بالمغرب المنسي، خاصة بعد معاينة بؤس أطفال القرى الجبلية المعزولة أو الفيافي الصحراوية. وذلك، في تكافل بين عيون المناضل الملتزم وفضول الباحث النبيه، ليتحوّل السفر إلى رحلة في أتون الفقر والمعاناة بـ"المغرب غير النافع".
 
لم أسمعه، طيلة عقود من الرفاقية، أنه تألّم لمحنة اعتقاله السياسي. كمن لا يحادث إلا نفسه في مثل هذه المواضيع. بقدر ما كان يحكي عن معاناة الأم في بحثها رفقة العائلة، عن مقر احتجازه. عن رحلة عذاب باقي الأمهات المكلومات في اختفاء بناتهن وأبنائهن المختطفين بسلا وغيرها من أرجاء الوطن. يتحسر على أحوال الحركة التقدمية بالعالم العربي. لما آلت إليه أوضاع شعب فلسطين، وما ارتُكب من دمار ومجازر مروعة في حق شعوب العراق وسوريا وغيرهما. علما أنه، حتى آخر أيامه، وهو يدعو إلى الصمود أمام محن التاريخ.
 
ثمة أكثر من فاجعة في الواقع تركت أثرا بالغا لديه، بدءا بذكريات مرحلة الطفولة اليتيمة. ثم اختطاف واغتيال المهدي بن بركة. الصدمة التي خلفتها نكسة 1967 أمام الآلة الحربية الإسرائيلية وظروف رحيل جمال عبد الناصر. يتألم في سكون الليل، خلال جلساتنا المعهودة، لاستشهاد مناضلين بدلالاتهم الرمزية من طينة سعيدة لمنبهي وعبد اللطيف زروال واغتيال الشهيد عمر بنجلون. للنهاية التراجيدية للشهيدين محمد بنونة وسليمان العلوي بقرية أملاكو ضواحي كلميمة، وباقي رفاقهم عبر المنطقة بعد فشل عمليتهم الثورية سنة 1973. يتخشع عند زيارتنا لأماكن استشهادهم، رافضا نعتهم كما في المؤلف، بـ"أبطال بلا مجد".
 
يتألم للذين أعدموا بسجن القنيطرة كالشهيد عمر دهكون وباقي المناضلين الثوريين. أمثال لحسن تاغجيشت الذي كنت أحكي له عنه، لما كان عون سلطة بحينا في مدينة آسفي، وأنا مراهق، قبل أن يلتحق في الستينيات بالجزائر. ليعود مسلحا ويُعتقل بعد استشهاد رفاقه، قبل أن يتم إعدامه. يتألم لمعاناة الزوجة وأطفالها الذين لم يتعرفوا عليه ولم يتمكنوا حتى من تحديد مكان قبره. كان يستحضر بحزن ضحايا صنوف القهر وأسوار السجون والمعتقلات. يصرخ في صمت، حين يتذكر ضحايا الاختفاء القسري، الذين قضوا تحت التعذيب. يتألم لسادية الانتهاكات التي أصابت المعتقلين والمعتقلات، بل حتى الأطفال منهم، في أجسادهم، في إنسانيتهم وهيام شبابهم. وكأنه يحاول أن يخفي الجرح الذي بداخله، حتى لا ينكشف من شخصيته إلا المناضل الصلب، القاسي على نفسه، قبل يكون قاسيا مع الآخر.
 
يتحسر، ليس على الظروف المؤسفة التي غادر فيها المركزية النقابية، التي ما ناضل داخل صفوفها. وإنما لِما وقف عليه من أسرار المعبد. يتحسر عما آلت إليه الحركة العمالية وأوضاع الطبقات الكادحة. بعد ما كان أمله في العمل النقابي مرتبطا بمشروعه اليساري. ولو أنه كان واعيا بأن الحلم المؤجل والأهداف المثالية للمعارك من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، سوف لن تتحقق آنيا. عزاؤه في ذلك، الآمال المعقودة على مسيرة الشعوب، الشاقة والطويلة.
 
إن فترات الاسترخاء النادرة في حياته اقترنت بذكريات الحياة الجامعية صحبة الرفاق. ذكريات أسفارنا عبر المناطق النائية بربوع الوطن، ببعض الأحداث الطريفة التي ميزت مسار صداقة وطيدة لم تخلُ من مستملحات، اقترنت بالحنين الذي كان يشده من حين لآخر لحقبة من الشعر واللحن الجميل. فيردد، عن ظهر قلب، قصيدة من روائع محمود درويش أو مظفر النواب... يستمتع بأنغام أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، أو الحسين السلاوي... يتغنى بأنشودة لمارسيل خليفة... بإحدى خالدات فؤاد نجم والشيخ إمام التي كان لها الوقع في وجدانه، حتى وهو يحتضر. لقد كان يتماهى خارج الفترات النادرة من الهدنة مع الواقع، ليعاني في صمت حتى لا تتأثر المعنويات من حوله. خاصة، بعد رحيل العديد من الرفاق.
 
غادرنا العزيز رؤوف، وهو يحمل معه، حتى آخر أيامه الحرجة، هموم الوطن، مؤكدا عمقه الإنساني وقربه من قاعدة المجتمع، بإدانة كافة صور القهر والظلم والتنميط، متشبثا بتكتل اليسار الصرف من أجل استرجاع ماهيته السياسية والاجتماعية. بحيث إن أي تقوقع للذات الحزبية لطيف من أطياف اليسار، كان يصيبه بخيبة على نحو مثير. سرعان ما يتجاوزها ليعود من جديد إلى تشديد الحث على تجاوز الخلافات و"اللم عرضا"، حسب قوله المعتاد، عبر محيط القوى التقدمية بكل فصائلها، عُدّ نقطة فاصلة في حياته وحلما طالما راوده مند سنين. بحيث إن تحقيقه كان له الأثر البالغ على معنوياته في مواجهة محنة المرض. حلم تمثل في انبعاث مجلة بطموح التحري في حقول المعرفة ومقاربة قضايا التحرر، والتي انطفأت بانطفاء آخر أنفاسه في ظروف يغشاها ضباب كثيف.
 
لقد قرر "راوول"، الرفيق والصديق، أن ينعزل بعفة، وحيدا مع الذات التي نهشها المرض. حتى نحتفظ له في الوجدان والذاكرة، ذاكرة كل الذين يعزهم، بتلك الصورة الشامخة التي ألفناها عنه. طيلة كل هذا الزمن العسير الذي قضاه وهو يكافح، دون كلل، ضد التخلف وكل أشكال التيئيس. لنكتشف مع رحيله، كم هو عمر المناضل قصير...
 
___________________
- الدكتور محمد العودي مناضل يساري وكاتب وأستاذ باحث في الجغرافية الاجتماعية
- الفقيد رؤوف فلاح المعروف بلقب "الفلاح" من المعتقلين السياسيين السابقين وأحد قادة ومناضلي الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وأحد مؤسسي منظمة "إلى الأمام"
 
أحمد المرادي معلّقا على الصوة:
بحكم معرفتي العميقة بالصديقين محمد العودي ورؤوف فلاح،
وكأنهما يطرحان السؤال المشترك: ماذا نفعل هنا، وما المصير؟