الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

محمد العودي.. الرجل الذي يحمل الأمل في قلبه

 
حميد أحمد المرادي
 
 
في حضرة د. محمد العودي
 
على مدى ما يقارب ربع قرن، صادقت العديد من النساء والرجال، وفي صداقاتي كان الخاص ينفصل دائما عن العام، وفي الحالات الأجمل، لا يمكنك إلا أن تشترك الخاص مع الذين تحبهم ومنهم، وهم قليلون، السي محمد العودي.
 
في حضرة السي محمد العودي يمكنك أن تضحك ملء شدقيك دون إحراج، ويمكنك أن تبكي هزائمك دون خشية من تشفي، ويمكنك أن تبوح بأسرارك وأنت على يقين بأن سرًّك في بئر.
 
في حضرة السي محمد العودي، يحضر التاريخ العام والمغربي بكل تجلياته، بانتصاراته وهزائمه، تحضر الجغرافيا بكل مكوناتها، الحضرية والتنموية والسياسية وتحضر الصداقة بصدقيتها ورسوخها.
 
أسفي حاضرة المحيط الأزرق
 
تعود علاقتي بأسفي، يوم انتقل أخي البكر عباس المرادي، من قلعة السراغنة إلى مدينة أسفي للدراسة بثانوية الإدريسي، التي كانت تستقبل التلاميذ النبهاء في الرياضيات، وكانت الشعبة هي "الرياضيات والتقنية"، بعدها بسنوات ذهبت إليها مناضلا في صفوف الشبيبة الاتحادية، للمساهمة في الحملات الانتخابية، أو في التجمعات الحزبية الداخلية أو العامة، لكن الرحلة التي بصمت شخصيتي هي مرافقة العزيز المرحوم الصادق العربي الشتوكي ذات لقاء مع مناضلي الاتحاد الاشتراكي في مقر الحزب بشارع الرباط بأسفي.
 
لم أستوعب تاريخ أسفي إلا حين لقائي بالسي محمد العودي، فمعه ترى التاريخ يمشي على الأرض، ومعه تعيش أسفي من خلال شباب يركبون القطار إليها قبل أن يمنعه إدريس البصري من ولوجها، يوزعون المناشير ويعودون إلى دراستهم بكلية الآداب بالرباط عبر الحافلة
 
لكنني لم أستوعب تاريخ أسفي، إلا حين لقائي به، السي محمد العودي، فمعه ترى التاريخ يمشي على الأرض بشخوصه وأحداثه، وانتصاراته وهزائمه، معه تعيش أسفي من خلال مجموعة من الشباب يركبون القطار إلى أسفي، قبل أن يقرر إدريس البصري منعه من ولوج مدينة أسفي، يوزعون المناشير الداعية إلى التحرير والديمقراطية والاشتراكية، ويعودون إلى دراستهم بكلية الآداب بالرباط عبر الحافلة.
 
فأسفي حاضرة في حياة السي محمد العودي، يحملها معه إلى كل الأمكنة، وفي عشقه للحياة والمستقبل الجميل لكل الناس، حتى وهو يتذكر الأمسيات التي كان يمر بها، وهو بصحبة أطفال وعائلات الصيادين في انتظار عودة آبائهم من رحلة الصيد في البحر.
 
ومن ثمة، اسْتلهَمَ أول بحث أكاديمي لنيل دكتوراه السلك الثالث بجامعة لواتيي بفرنسا، حول "اقتصاد الصيد البحري والحياة العمالية بأسفي" (Economie de pêche et vie ouvrière à Safi).
 
ومن هنا نأتي إلى الكتابة الملتزمة بقضايا الكادحين عند د. محمد العودي، حيث إن هذا البحث لم تتح له الفرصة للنشر، لكن كتبا أخرى رأت النور في ما بعد.
 
الكتابة عند د. محمد العودي
 
كل كتاب من كتب س محمد العودي له سياق، ونسق وله حكايات وحيوات.
 
- كان أول كتاب قرأته لصديقي السي محمد العودي، مكتوبا بلغة فرنسية رفيعة، تشتم فيها دقة العقل الديكارتي، وشاعرية بودلير، وخطاب جان جوريس.
 
كتاب "الدار البيضاء من خلال صغار مقاولي الفقر" هو أطروحة الدكتوراه التي حصل عليها بجامعة بواتيي بفرنسا وقد أهداه السي العودي للمناضل اليساري أبراهيم السرفاتي، زعيم "إلى الأمام"، في وقت يعتبر نفسه ابنا للحركة الاتحادية، و"23 مارس"
 
كتاب "الدار البيضاء من خلال صغار مقاولي الفقر" (Casablanca, à travers ses petits entrepreneurs de la pauverté)، كتاب كان في الأساس أطروحة الدكتوراه التي حصل عليها بجامعة بواتيي بفرنسا. وقد أهداه للمناضل اليساري أبراهيم السرفاتي، زعيم "إلى الأمام"، في وقت يعتبر نفسه ابنا للحركة الاتحادية، و"23 مارس".
 
ومن حكايات هذا الكتاب أنه قد بلغنا، أن والي الدارالبيضاء، نهاية التسعينيات، إدريس بنهيمة، وفي اجتماع رسمي، كان يضم أطر الولاية والأمن الولائي والسلطات المحلية، وهو يناقش أوضاع الفوضى التي تعم الدارالبيضاء، سحب الكتاب من مكتبه وسلَّمه لوالي الأمن آنذاك، مشيرا عليه أن يطلع عليه لاستيعاب الوضع وإشكالاته.
 
في ذلك الليل البارد، الذي هزمنا برودته بضحكاتنا المتحررة من كل رقابة، وباستعاداتنا لتاريخ مليء بالانتصارات الحقيقية والوهمية، وبالهزائم الشخصية والجماعية، والتي نعيد حكايتها وكأنها انتصارات، بعد جلسة في نادي الكرة الحديدية، بحديقة الجامعة العربية بالدارالبيضاء، تسلمت أول نسخة من هذا الكتاب، حملته معي إلى المحمدية حيث كنت أقيم، وقرأت جزءا مهما منه تلك الليلة.
 
صادق أحد الأبطال من "أبطال بلا مجد" صديقه الحميم البزيد البركة وقبله صادق أحد الناجين من جحيم سنوات الرصاص، المرحوم رؤوف فلاح وقبله وبعده صادق الكثيرات والكثيرين على طريقته الخاصة، المليئة بالصدق والعطاء والوفاء
 
- بعد ذلك، وفي سنة 2005، سلمني السي محمد العودي مشروع كتابه الثاني، وكان مرقونا بآلة كاتبة، فأعدنا رقنه من جديد وكان موضوعه "الحركة الثورية الفرنسية 1830-1878)"، وهو في الأصل بحث لنيل الإجازة في التاريخ من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، قدم له الصديق اليزيد البركة، واخترنا له عنوانا دالاَّ: "جذور تأسيس الديموقراطية، الحركة الثورية بفرنسا 1830-1878).
 
وكان الكتيب على شكل "دليل المناضل"، وحددنا له ثمن 15 درهما، وهو ثمن رمزي، في أفق تسهيل الحصول عليه... وكان الإهداء لكادحي الوطن زمنهم، الصيادين في بحر أسفي.
 
ومن حكايات هذا الكتاب أنه كلما بيعت منه 3 أو 5 نسخ في منطقة مغربية نائية، كنت أمزح، سواء عبر الهاتف أو في لقاءاتنا، وأخبره بأن خلية قد تشكلت في تلك المنطقة.
 
أما الكتاب الثالث فأصدرنا أول طبعة منه سنة 2008، وهو بعنوان "فقراء زمن العولمة"، وقد اختار السي محمد العودي، أن يكون غلاف الكتاب مزينا بصورة لطفلة من أنفكو، وهي تمد يديها الصغيرتين طلبا للدفء... وقد أهداه السي محمد العودي لأهالي أنفكو الذين ماتوا قهرا وبردا.
 
أما حكاية الكتاب فهو أن أحد الأصدقاء الناشرين المصريين، طلب مني أن أسمح له بإعادة نشر الكتاب بنسخة مصرية، فما كان مني إلا أن طلبت من السي محمد العودي، شروط وحقوق النشر، فسلمني تنازلا للناشر المصري عن كل الحقوق المالية، معيدا مقولته الشهيرة: "يوم يكون لنا شعب يقرأ، آنذاك يمكن المطالبة بالحقوق"...
 
مسارات وصداقات وأماكن
 
السي محمد العودي، وهو طالب، كان يسكن بحي المحيط، بالرباط، غير بعيد عن دكان "خياط العروبة"، وهو دكان كان يمارس به السي علي بوشوا، المناضل بالاتحاد وبحركة 3 مارس 1973، ومحل الخياطة ذاك، كان مكانا لاجتماعات كان يحضرها مناضل آخر من الحركة هو عمر دهكون، لم يكن السي محمد العودي يعلم بذلك، فقد أخبره بعض الأصدقاء، في ما بعد، بأنه تم اعتقال صاحب المحل وعمر دهكون...
 
وسيعود السي محمد العودي في سنة 2003، أي بعد ثلاثين سنة، إلى نفس المكان بالمحيط، ليتفقد تاريخا ما زال يسكنه. وسيبقى يسكنه.
 
قبل ذلك كان قد صادق أحد الأبطال من "أبطال بلا مجد" (كتاب المهدي بنونة أبن الشهيد محمود بنونة قائد حركة 3 مارس 1973 والصادر عن منشورات طارق باللغتين الفرنسية والعربية)، إنه صديقه الحميم البزيد البركة.
 
وقبله صادق أحد الناجين من جحيم سنوات الرصاص، المرحوم رؤوف فلاح، الذي أخذه منا جميعا المرض الخبيث.
 
وقبله وبعده صادق الكثيرات والكثيرين على طريقته الخاصة، المليئة بالصدق والعطاء والوفاء.
 
المساواة عند السي محمد العودي، فعل وسلوك يومي وليس ادعاء، وحين طُلبت منه، المشاركة في دراسات حول قضايا المرأة من طرف الرابطة الديمقراطية لحقوق المرأة، لم يتردد، ويدون مقابل، لأنه يعطي، ولا يأخذ في هذا المقام، في زمن ساد فيه البحث الزائد عن الحاجة.
 
فلسطين تسكن السي محمد العودي، فلم أره متأخرا عن حضور المظاهرات المطالبة بحقوق الشعب الفلسطيني، متى تم النداء، رغم علمه اليقين بأن الساهرين على تنظيم التضامن مع فلسطين، هم مجرد أشباه "مموني حفلات"، لكنه لم يتأخر يوما.
 
التنوير جزء لا يتجزأ من عقلية السي محمد العودي، بل هو الموجه لممارسته الفكرية ولعمله كأستاذ، طيلة مساره المهني، في وقت تخلى فيه العديد من نساء ورجال التعليم عن مهنتهم الأصلية، ليتولوا مهنا موازية من بناء، ودروس خصوصية، وتجارة، وبحث عن التمويل لمشاريع وهمية، وفي أحسن الأحوال تفرغ نقابي ريعي، وترك أبناء الشعب فريسة لخفافيش الظلام.
 
هو الذي عمل على فتح كلية عين الشق أمام حقوقيين وفاعلين سياسيين، كان أنجحها لقاء جماهيري للطلبة مع ذ. محمد الصبار نهاية التسعينيات في وقت كان التيار النكوصي، المتمثل في الجماعات المتأسلمة، يصول ويجول في الجامعة المغربية
 
هو الذي عمل على فتح كلية عين الشق، أمام حقوقيين وفاعلين سياسيين، لكي يوصل إلى الطلبة خطابا مخالفا لخطاب النكوص، كان أنجحها لقاء جماهيري للطلبة مع ذ. محمد الصبار نهاية التسعينيات، قبل أن يصبح (أمينا عاما للمجلس الوطني لحقوق الإنسان)، وكل هذا تم في وقت كان التيار النكوصي، المتمثل في الجماعات المتأسلمة، يصول ويجول في الجامعة المغربية.
 
كيف لي أن انهي هذا البروفايل، وأشياء كثيرة تتزاحم لتخرج من ذاكرتي إلى الورقة البيضاء، لن أجد أصدق مما كتبته ذات زيارة للصين وأنا أعد كتيب "الرحلة المرادية الى الصين الشعبية": "وصلت إلى بيت السي محمد العودي على الساعة الواحدة بعد الزوال، حيث إن محطة القطار الوازيس لا تبعد عنه بأكثر من مسافة عشر دقائق مشيا، وجدته في انتظاري بشوشا دائما، ولسانه لا يتردد، وهو يمازحك في إطلاق قفشاته السياسية اللاذعة، والتي لا تترك اليسار دون نقد، ولا تترك اليمين بأصوليته ووصوليته دون قدح وهجاء.
 
لكن ليس الكلام مع السي محمد العودي كله سياسة، تكلمنا ذلك اليوم وتلك الليلة في كل شيء، تحدثنا عن سكان العشوائيات وانتهازيتهم في ابتزاز الدولة حين تقرر القضاء على السكن العشوائي.
 
حول مائدة فتحت ولم تغلق إلا لكي نذهب الى النوم، أكلات لذيذة لذة الرفقة، من يد السي محمد العودي الذي يتفنن في الطبخ حين يجاريه "النفوخ" (حين يحب أن يفعل)، لأنني منذ عرفته لا يفعل إلا ما قاله له "النفوخ"، وهو متشبث بتلك الحرية التي يعتبرها أغلى ما ملكت أيمانه".