الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

استدراج روسيا إلى الحرب.. أوكرانيا بين "الانتهازية" الأمريكية و"النفاق" الأوروبي

 
عبد الحميد توفيق
 
 
بين المغريات، التي سوّقتها الإدارة الأمريكية على وقع أزمة أوكرانيا، كان الترويج لقبول كييف في الناتو والاتحاد الأوروبي.
 
طرحٌ بدا مثيراً للأوكرانيين، فزاد بُعدهم عن الروس ودخلوا في المواجهة، وهو في الآن ذاته طرحٌ مستفزٌّ لموسكو، أسهم في تحريضها أكثر ضد أوكرانيا ودفعها للإسراع بالانتقال إلى خيار العمليات العسكرية.
 
معادلة أنتجها الأمريكيون ولوّح بها الأوروبيون تيمُّنًا بالأمريكيين.
 
من جملة ما ينطوي عليه النزاع الروسي الأوكراني من عِبَر ودلالات هو ذلك الجانب المتعلق بالدور الأمريكي والأوروبي الأطلسي على خطّين، الأول مرتبط بالضخ الإعلامي الواسع، الذي تناوبت على لملمة عناصره وسائل الإعلام الأمريكية والغربية بشأن ما أسموه "الحشود العسكرية الروسية" على حدود أوكرانيا، ومخاطبة الرأي العام العالمي عموما، والأوكراني خصوصا، لتشكيل بيئة نفسية بأن موسكو اتخذت قرارها بـ"غزو" جارتها، وأن واشنطن وحلفاءها في الغرب الأطلسي سيقفون إلى جانب الشعب الأوكراني في مواجهة أي تحرك عسكري روسي ضد بلادهم!
 
في غضون الخط الأول، الذي دشنته الماكينة الإعلامية الغربية-الأمريكية في الثاني والعشرين من شهر نوفمبر 2021، كشفت أن روسيا "حشدت ما يقارب مائة ألف جندي على الحدود الأوكرانية"، وراحت تنقل عن الأمريكيين وبعض القادة الغربيين ما يعتبرونه سيناريوهات الأيام العصيبة المقبلة، ليس على أوكرانيا وحسب، بل على روسيا والعالم برمته.
 
على الخط الثاني، كان العمل جاريا من قِبَل واشنطن وبعض حلفائها الغربيين على رفع منسوب التوتر والقلق على جميع الصُّعُد، فتم استدعاء عائلات الدبلوماسيين الأمريكان والبريطانيين من كييف، وإطلاق وعود بدعم الجانب الأوكراني بأسلحة وأموال إضافية لتمتين صفوف جبهاته الداخلية والخارجية.
 
بدا جليًّا أن الإدارة الأمريكية التقطت فرصة التوتر المتنامي بين موسكو وكييف وسَعَت إلى ربطه بملفات ثنائية ودولية متشابكة مع الكرملين. وضعت إمكاناتها السياسية والدبلوماسية والإعلامية لتقديم صورة للمشهد الناشئ بين الجارَين الروسي والأوكراني على أنه "صراع دولي خطير" وأن الشعب الأوكراني على أعتاب مرحلة بخيارين لا ثالث لهما، فإما أن يكون "ضحية لأطماع روسيا إذا لم يأخذ بنصائحنا ويجابه الجيش الروسي"، وإما أن يتحوّل إلى شريك لواشنطن ولدول الناتو في الوقوف بوجه موسكو ويحصل على ما يحتاج إليه من دعم عسكري واقتصادي وسياسي.
 
هذا التوصيف المختصر لحيثيات النزاع العسكري المتفجِّر بين كييف وموسكو حاليا يعكس عددا من الحقائق، منها أن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين دفعوا بالنزاع إلى أقصى درجاته وصولا إلى ترجمته عسكريا، بحيث أصبحت أوكرانيا دولة وشعبا وسيادة وقيادة ضحية على صخرة مصالح أمريكا وأوروبا، حين تركوها، خلال العمليات العسكرية، وحيدة، وكشفوا عن أن استراتيجيتهم أبعدُ من الدفاع عن أوكرانيا وشعبها، وما أوكرانيا سوى رأس حربة جرى توظيفها بشيء من الخداع و"النفاق" في مشروع غربي أمريكي أطلسي لتأجيج الصراع مع روسيا، واستغلال النزاع بين الجارَين لتحقيق أهداف اقتصادية وأمنية وعسكرية وسياسية تتجاوز حدود ومصالح الأوكرانيين.
 
الحقيقة الأخرى تتمحور حول صعوبة الخروج من النفق الذي وجدت أوكرانيا نفسها في خضم تعرّجاته، بعد أن أفردت واشنطن والأوربيون أوراقهم بوضوح. أوراق عكست مضامينها جوهر أهدافهم المرتبطة فقط بمصالحهم دون الاكتراث بمصالح أوكرانيا وشعبها.
 
الحقيقة الثالثة جاءت في سياق البرهنة على واقعَين تعيشهما القارة الأوروبية: الواقع الأول، حالة الانقسام الواسع الذي تفشَّى بين دولها وزعاماتها، والضعف الذي نخر عظام هياكلها السياسية، ما أدى إلى تقلّص أدوارها وتأثيرها الفعلي داخل القارة أولا وخارجها تاليا، وهو ما منح الأمريكيين نافذة مشرعة لترسيخ تبعية الأوروبيين على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية والأمنية.
 
أما الواقع الثاني، فمثاله الصارخ ما حدث مع أوكرانيا وفيها، إذ تبنَّى الأوروبيون موقف الإدارة الأمريكية القائم على المراوغة والتقلب في المواقف تجاه كييف، تماشيا مع التكتيك الأمريكي، وكذا الأمر تجاه موسكو كمناورة لحماية المصالح الحيوية، التي تربط معظم العواصم الغربية مع روسيا.
 
تقلبات الموقف الأمريكي ليست مفاجئة، وليس جديدا خداعُها وتنصُّلُها من تعهداتها كما حدث في أكثر من ساحة وقضية، فقد ظلت على الدوام تستغل بعض القوى المحلية هنا وهناك لخدمة أغراضها، وعندما يتحقق ما تصبو إليه، تدير لها ظهرها وتتركها نهبًا للصراعات.
 
لقد غذّت واشنطن والغرب نزعة التصادم لدى الجانب الأوكراني مع روسيا بافتراض خادع ومبالغ فيه، وأكملوا مرواغتهم بسحب جنودهم من أوكرانيا للإيحاء لموسكو بأنه لا يوجد خطر بشأن اندلاع صراع مباشر مع الناتو.
 
سلوك واشنطن ومعها مواقف الأوروبيين بشأن الأزمة الأوكرانية واستغلالهم ظروف كييف الصعبة، أفصحت عن مشكلة قيمية في النظام السياسي لديهما. تطورات النزاع الروسي-الأوكراني ونتائجه ستمثل الاختبار الأكثر صعوبة وجدية لهم.