مأساة عبد الوهاب بلفقيه.. صورة طفليه البريئين تسائل انهيار السياسة والساسة وتفشي الدسائس
الكاتب :
"الغد 24"
عبد الكريم غيلان
تنتابني حالة من الذعر لهذا المشهد المأساوي وهذه النهاية الحزينة للفقيد عبد الوهاب بلفقيه.. مشهد تجسدت فيه كل معاني الخسة والنذالة والوحشية... مشهد اختصر انحطاط المستوى السياسي الذي وصل إليه مجتمعنا في ظل معارك مفتوحة لا تنتهي أسلحتها الدسائس...
لنتأمل مليا هذه الصورة الجارحة، صورة نجلي الفقيد عبد الوهاب بلفقيه...
تختلف طريقة تعامل الأطفال والمراهقين مع الحزن، عن طريقة الكبار في تقبل الحزن، خاصة عندما يتعلق هذا الحزن بفقدان أحد الأحبَّة، حيث يُعتبر فقدان أحد الوالدين في سنٍ مبكرة، أمراً يجب التعامل معه بطريقة استثنائية، ليتمكن الطفل أو المراهق من تخطي هذه المرحلة بسلام، والاستمرار في حياته بشكل طبيعي.
لا توجد تعويذة سحرية، تنزع الحزن من قلوب الأطفال والمراهقين، لكن يمكن مساعدتهم، وعلى الأمد الطويل، ليتجاوزوا حزنهم، ويتفادوا آثاره التي من الممكن أن تتحكم بمستقبلهم، كما يجب الأخذ بعين الاعتبار الظروف المحيطة بوفاة الأب، وطبيعة التعامل مع المراهق الذي عاين أباه محمولا على الأكتاف ليوارى الثرى بأيت عبد الله في أيت باعمران، مصاباً بطلق ناري بمسقط راسه، وفي ظروف يلفها الغموض لحد كتابة هذه السطور...
تشكل هذه الوضعية أزمة مركبة، لا ترتبط بفقدان الأب فقط، بقدر ما ترتبط بصدمة وجودية وعاطفية كبيرة، تحتاج إلى عناية خاصة، ومتابعة نفسية متخصصة، فإذا كانت ظروف فقدان الأب، غير طبيعية، أو تحمل أي تفاصيل قد تكون غير اعتيادية، لابد من مراجعة الاستشاري النفسي، وعدم الاعتماد على النصائح المجانية، لأن الطفل أو المراهق في هذه الحالات، سيحتاج إلى تشخيص دقيق لحزنه، وطرق فعالة للتعامل معه، وغالباً ما تكون طويلة الأمد.
ستنتهي ولاية مجلس جهة كلميم واد نون، وستنتهي ولاية الحكومة المرتقبة، التي مازال تكوينها في مخاض، وسينتهي التهافت على المناصب الوزارية، وسيسقط من سيسقط وسيفوز آخرون، وستستمر الحياة بما لها وما عليها، لكن ستبقى هذه الصورة، صورة نجلي الفقيد عبد الوهاب بلفقيه، في ذاكرة كل من رآها.. بما لها من تأثير لهؤلاء الأبرياء في عمر الزهور... هذه الصورة سيطارد طيفها كل من كان سببا، بشكل من الأشكال، طوال حياته، وسيعذب الضمير لمن كان له ضمير، وهل لهؤلاء ضمير أصلا؟!
الفقيد عبد الوهاب بلفقيه لم أكن أعرفه شخصيا، ولو أنه تجمعني به قرابة القبيلة، وقد كنت أختلف تماما مع طريقة ممارسته للسياسة، ولو أنه كان سابقا منتميا لحزب كان لي مدرسة في النضال حين لم يكن يتجاوز عمري الرابعة عشرة... تلك أيام خلت لما كان الحزب بأيدي رجال كبار من طينة المرحوم عبد الرحيم بوعبيد والشهيد عمر بنجلون...
غادرت طبعا الحزب في الثمانينيات، فاشكر ربك، أيها الفقيد عبد الوهاب بلفقيه، أنك غادرت دنيا الأحياء الأموات، قبل أن ترى هذا المشهد السياسي البئيس، أبطاله يتلاعبون بانتظارات الشعب المغلوب على أمره لا لشيء إلا ليجلسوا على كرسي العمودية دون احترام لإرادة الشعب. لماذا يعتبرون أنفسهم أوصياء علينا وعلى هذا الشعب الطيب؟ لماذا لا يحترمونه حين يصوت يمينا أو يسارا أو وسطا أو حتى عندما لا يصوت. هل نظمت الاستحقاقات لأجل إصلاحات هيكلية جوهرية، لفائدة الشعب ومن أجل مغرب الغد، أم لتكون مطية للمتسلقين للوزارات والجهات والبلديات والقرويات؟ لقد انتقلنا يا سيدي من زعماء سياسيين يقفون في وجه الظلم والحيف إلى كائنات انتخابية، تلهث وراء المواقع والمنافع والمصالح... ألم يكن سهلا عليك أن تحدو حدوهم؟ لِمَ لَمْ تفعل؟ لماذا ظللت مناضلا نقيا يتجول بكل المدن المغربية مرفوع الرأس؟ هل لأنك أقل ذكاء منهم أم لأن أخلاقك أكبر من مكرهم؟!
اختلفت في السياسة مع كثيرين وما زلت أختلف إلى حد بعيد، ولكن لم أكن أتصور يوما أن يدفع طمع الكراسي وحب المال وحب السلطة حد الجنون إلى الوصول إلى هذا المستوى المتدني! لا يهمّ، الآن، ولست معنيا بترجيح فرضية الاغتيال أو الانتحار، ما يهم، وهو الأساسي، أن روحا أزهقت بالرصاص، وتلك هي القضية!
غالبا ما يقع اللوم على السياسة، فقط لو نتأمّل ما ذنب السياسة؟! هي مصطلح بريء في معناه ومبناه، لكن العاملين فيه شوّهوه، وأصلا لا ينبغي وصفهم برجال السياسة أو القادة، وهم عاجزون عن قيادة حملة انتخابية نظيفة شريفة لها أبعاد إنسانية وبرامج تنموية إصلاحية، هُم طاعون يتفشى في المجتمع، وزاد السياسة وسخا، وأدخل الأمور في بعضها، لذا أصبحت السياسة ملعونة، وكلّ من اختار الخوض فيها بنيّة حسنة سيلفه الاتهام ويدخل سجن الظنون...
طبعا فكري وفؤادي يتجه صوب هؤلاء الأبرياء، صوب هاذين الطفلين، لما رأيتهما في هذا الوضع وفي هذه الصورة، التي ستصاحب كل من كان سببا في هذه الفاجعة كما صاحب الموت في الرواية الروسية "طيف ألكسندر ولف" لجايتو جازدانوف، والمتعلقة بالموت وعدم قدرة الإنسان أن يهرب منه.. الرواية تحكي حزمة من الأفكار تتعلق بحرية الإرادة وبالمصير، بالبشر في لحظات ضعفهم، وبتلك الحتمية بين القاتل والقتيل، وبحوارات تدفعنا لكي نسأل من القاتل ومن الضحية؟ وهل من إمكانية في تبادل الأدوار في هذه الحياة؟
أنتما الطفلان اليافعان في عمر الزهور، أنتما البريئان بصفحات ناصعة البياض لم تلطّخها رائحة السياسة، التي أزكمت رائحة فسادها وفاسديها الأنوف، رائحة نتنة وعاقبتها عفنة وقذرة: حيث استغلال ونهب وفساد وتغيير البدلات، إما اضطرارا أو حسب المناسبات،
وحيث كل سياسي منبوذ إلى حين نفيه أو موته قتلا!
كل متمنياتي لهاذين الطفلين البريئين أن يتجاوزا هذه المحنة بما يليق في مثل هذه الظروف الحزينة، فالحمل ثقيل لأن الفاجعة قاسية جدا... كل إنسان يدرك معنى الإنسانية لابد أن يتضامن مع هاذين الطفلين البريئين، ولأنني أنا أيضا لدي أبناء وأقدر جيدا محبتي في قلوبهم وتعلقي بهم وأستحضر في كل وقت وحين مستقبلهم وأمنهم...