الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم
أم كلثوم وسط فرقة لفن أحيدوس في المغرب

في الذكرى 47 لرحيل أم كلثوم.. شموخ الإبداع الحقيقي مازال يسحر المشرق والمغرب

 
عبد الكريم غيلان
 

تحل، اليوم ثالث فبراير 2022، الذكرى 47 لرحيل سيدة الغناء العربي "أم كلثوم"، التي رحلت عن عالمنا فى مثل هذا اليوم من عام 1975، والتي تعد أيقونة الطرب في الوطن العربي.

هناك عدة معايير تنبني عليها هذه الصفات المستحقة، التي يوليها المختصون وعموم الجمهور لعملاقة الغناء "أم كلثوم"، من هذه المعايير يمكن الاستدلال، مثلا، بأغنية: "ودارت الأيام"، التي تقدم لنا مستوى عاليا من الإبداع الفني الجميل، بدءا من فرادة المقدمة وتشكيلها الموسيقي، والنبذة التي تعطيها عن الأغنية، إلى الأثر الذي تتركه في النفس، فضلا عن الآلات التي تقوم بالعزف، إلا أن المعيار الأول، بالطبع، لأي عمل فني بكل تأكيد هو: الجمالية الفنية... وهذه الرؤية شخصية غير ملزمة بالتأكيد، صدرت عن عاشق لصوت الست أم كلثوم ولمسيرتها الفنية، وكذلك عن مهتم بالساحة الفنية وأبعادها.. منذ تلك الفترة الذهبية لسيدة الطرب العربي بامتياز، حتى الانهيارات الأخيرة التي أصابت هذا الصرح الفني.
 
ودارت الأيام

أغنية "ودارت الايام" هي الأغنية الرابعة والأخيرة في ترتيب الأغاني، التي غنتها أم كلثوم، والتي تعود كلماتها إلى الشاعر الغنائي المبدع مأمون الشناوي (1914-1994)، وباقي الأغاني الثلاث هي: "كل ليلة ويوم"، و"بعيد عنك"، و"حياتي عذاب"...

وإذا كانت هذه الأغاني الثلاث الأخيرة من ألحان الموسيقار بليغ حمدي، فقد ارتأت أم كلثوم أن تسند تلحين أغنية "ودارت الأيام" للفنان والموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، الذي تقول المصنّفات الفنية إنه استغرق وقتا طويلا في تلحين هذه الأغنية، التي خرجت إلى الوجود بفنية عالية مدروسة جدا، كشفت أن اختيار أم كلثوم لمحمد عبد الوهاب في إنجاز لحن هذه الأغنية بالذات، كان أفضل وأجمل وأبهى اختيار، إذ وقع الإجماع على أن كلمات هذه الأغنية هي أنسب ما تكون لألحان محمد عبد الوهاب، حين يأخذ في تعمّق المعنى، وتعميق التعبير الموسيقي الكاشف عنه...

وليأخذ القارئ فكرة جلية عن هؤلاء العظماء في تاريخ الغناء والموسيقى العربيين، من المفيد أن نتعرّف على بعض التفاصيل في إنجاز هذه الأغنية الجميلة "ودارت الأيام"، كما وردت ورُويت عن العملاقين: أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب...
 
عظماء وفن عظيم

من المعروف أن الموسيقار محمد عبد الوهاب يفعل فِعْل السحر الجمالي عندما يضع يديه على أغنية يقتنع بكلماتها وبصوت من يؤديها، إذ تقول الروايات المتواترة لذى النقاد الغنائيين إن عبد الوهاب اندمج مع أغنية "ودارت الأيام"، كتعامل عاشق مع معشوقة، دفعه إلى إجراء تعديل طفيف في الكلمات، إذ قسّم المقدمة الموسيقية إلى ثلاثة أجزاء متناغمة تلعب فيها آلة الغيتار دورا أساسيا. قبل أن ينتقل عبد الوهاب إلى مقطع عجائبي، أحدث فيه تمازجا فنيا جميلا شرقيا وغربيا، وهو ما نجده في مقطع "وصفوا لي الصبر"، الذي لحّنه على إيقاع "الفالس"، مما جعل النقّاد يعتبرون هذا المقطع هو الأكثر روعة من ناحية اللحن، رغم أنه أثار الكثير من الجدل، حين صدور الأغنية، إذ قيل، آنذاك، إن اللحن مقتبسٌ، حتى إن أم كلثوم تخوّفت من غنائه في البداية.

يروي محمد عبد الوهاب، في إحدى مقابلاته، أنه بدأ يدندن الأغنية أمام أم كلثوم في منزلها، وحين وصل إلى "عيني على العاشقين"، انتفضت سيدة الطرب العربي غاضبة...

لقد رفضت أم كلثوم أن تغني المقطع وطلبت من محمد عبد الوهاب تعديله، ولما كان هذا الأخير حريصا على عدم التعديل أساسا، طالبها أن تحكّم طرفا آخر بينهما... ويحكي محمد عبد الوهاب أنه بناء على الاقتراح، اجتمع مع أم كلثوم وأعضاء الفرقة الموسيقية وأدّى الأغنية أمامهم، فما كان من أغلب الموسيقيين إلا التصويت لصالح الموسيقار، الأمر الذي دفع أم كلثوم إلى التشبت برأيها أكثر... ولتلطيف الأجواء، اقترح محمد عبد الوهاب اقتراحا في غاية الطرافة، إذ قال لام كلثوم "إيه رأيك تغني الأغنية، ولما توصلي الحِتّة دي، أخرج أنا للجمهور وأغنيها وأرجع"، وأخيرا اقتنعت أم كلثوم بالمقطع... فكانت أغنية "ودارت الأيام"، التي خرجت إلى الوجود عبارة عن مزيج فني جميل من إبداع وتعاون ثلاثة عمالقة: الشاعر الفنان مأمون الشناوي، والملحن العبقري المتمرس المايسترو محمد عبد الوهاب، والأداء الرائع والبهي لسيدة الغناء العربي بامتياز أم كلثوم، لقد خلق هذا الثالوث حالة من بهاء الوجد والذوبان في الكلمة واللحن والصوت...

تعمّدنا إدراج هذه الواقعة، لنقدّم للقارئ نموذجا راقيا في الإبداع والعطاء والتعاون بين عمالقة الفن العربي، إنه نموذج مضيء حري بأن يُحتذى ويستمر ويتطوّر في الفن العربي، وفي باقي مجالات الإبداع والفنون والفكر...
 
الفن هذا السحر العجيب

هذا النموذج يقدّم لنا، أيضا، تجربة غنية يكون فيها الفن أداة استقطاب، قد تصل إلى إطفاء الحرائق والخلافات المشتعلة في المجتمع، بما فيه المجتمع الفكري والثقافي والفني، لنسنحضر تلك المعارك الفكرية والثقافية الكبرى، التي كانت تندلع بين عمالقة المرحلة، ولعلّ أبرز مثال على ذلك تلك المعركة الحامية الوطيس التي اندلعت بين طه حسين وعباس محمود العقاد، لكن بمجرّد دخولهما إلى محراب سيدة الطرب أم كلثوم، تعود الأسلحة إلى غمدها، وتُعلن الهدنة والسلام والوئام، بصيغة حضارية، إذ يستمر المختلفون في تناقضاتهم، لكن دون "رعونة" ولا "إسفاف" ولا "استفزاز"، بل كانت الخلافات تتخذ، في حضرة عملاقة الغناء العربي، معنىً متحضّرا يجمع المختلفين على كلمة سواء: البهاء والصفاء في ملكوت الغناء وكأنها أصوات آتية من السماء... لقد تجمّع في أم كلثوم ما تفرّق في غيرها، فعميد الأدب العربي طه حسين يقول إن "أم كلثوم بصوتها النادر، في امتيازه، سواء في الجمال أو في سلامة نطق اللغة العربية، ساهمت، عندما غنت القصيدة، في إثبات جمال اللغة وطواعية موسيقاها حتى في أصعب الكلمات لموسيقى الغناء، وكان لصوتها فضل في انتشار الشعر العربي على ألسنة العامة والخاصة"، فيما قال عباس محمود العقاد إن "مزية أم كلثوم بعد كل ما سمعته من أغانيها هي أنها المطربة الموهوبة التي أثبتت أن الغناء هو فن عقول وقلوب، وليس فن حناجر وأفواه فحسب. فهي تفهم ما تغنيه، وتشعر بما تؤديه وتعطي من عندها نصيبًا وافيًا إلى جانب نصيب المؤلف والملحن فيقول السامع بحق: آه"، وقال توفيق الحكيم إن "أم كلثوم تؤدي كل قصيدة وكل أغنية وكل لحن الأداء الكامل. إنها صفة الفنان الأصيل"، ووصفها نجيب محفوظ بأنها "نعمة الدنيا"، في حين قال عنها مصطفى أمين: "لم تُهاجَم فنانة في مصر كما هوجمت أم كلثوم، نُشرت عنها القصص والأكاذيب وأُطلقت الشائعات، ولكن كل الطوب والأحجار التي ألقيت عليها لم تهدم الهرم، بل زادته ضخامة"، أما يوسف السباعي فقال إنها "فنانة الشعب التي أعطت فأجزلت العطاء، وقدمت فبذلت بسخاء، ومن خلال صوتها أذابت روحها، ووهبتها لخير وطنها، عاشت عدة أعمار فنية، كانت فيها همزة الوصل بين أجيال وأجيال. إنها نسيج نادر لا يجود به الدهر إلا بعد أجيال وأجيال، وسيبقى فن أم كلثوم تراثًا خالدًا تتغنى به الدنيا، وسيظل مشعلًا هاديًا يضيء طريق الفن العربي".

ورغم كل الخصومات الفنية العابرة، التي شهدتها المرحلة، نجد الموسيقار محمد عبد الوهاب يصف أم كلثوم بـ"صاحبة الصوت الذي لا يعرف المستحيل"، فيما قال عبد الحليم حافظ إن "أم كلثوم.. معجزة لم ولن تتكرر"...
 
أم كلثوم والمغرب علاقة راسخة وجميلة

ولا يمكن، في المغرب، أن نخلّد ذكرى "كوكب الشرق"، دون الإشارة إلى تلك العلاقة الخاصة والجميلة بين أم كلثوم والمغرب، رغم أنها زارته مرة واحدة فقط، لكنها كانت زيارة تاريخية في سجّلات هذه الفنانة العملاقة، التي تُجمع أخبارها على أن أم كلثوم انبهرت بالجماهير المغربية المتذوقة للطرب والمتفاعلة معه بشكل غير مسبوق، كما اعجبت بفن العمارة خصوصا في مدينتي فاس ومكناس، فضلا عن زيارة خاصة لتطوان...
 
وقبل زيارتها للمغرب، يجدر التذكير بأن أول لقاء رسمي بين مسؤول مغربي وأم كلثوم كان بمناسبة احتفالات مصر بالجلاء في 18 يونيو 1956، حيث مثّل المغرب في هذه الاحتفالات ولي العهد الأمير مولاي الحسن آنذاك، وبالنسبة للملك محمد الخامس، فقد قام، قبيل وفاته بأشهر قليلة، بزيارة لدول الشرق العربي، وفي مصر استقبل أم كلثوم، في مقر إقامته في قصر القبة بالقاهرة، يوم 9 يناير 1960، وكان معروفا عن الملك الراحل محمد الخامس أنه كان من كبار عشاق "كوكب الشرق"، وسيلتقيها، مرة أخرى يوم 14 يناير 1960، في حفلة في دار الأوبرا المصرية، تكريما للملك محمد الخامس، وحضرها الرئيس عبد الناصر وكبار رجال الدولة المصرية، وأحيتها أم كلثوم، وأثناء فترة الاستراحة، توجّهت أم كلثوم إلى حيث يجلس الرئيس عبد الناصر والملك محمد الخامس، وحيتهما، فبادرها الملك بالقول إن المغاربة سيسعدون حين تأتي للغناء في المغرب، فكانت تلك أول دعوة رسمية لأم كلثوم لزيارة المغرب...

وفي حفلة بدار الأوبرا ليلة 13-14 مارس 1965، حضرها الملك الحسن الثاني، الذي كان يزور القاهرة، سيوشّح الملك ثلاثيا فنيا مبدعا: العملاقة أم كلثوم والموسيقار محمد محمد عبد الوهاب والشاعر أحمد رامي، بوسام الكفاءة الفكرية، وهو أرفع وسام يمنح في المغرب في مجال الآداب والفنون...

أما زيارة أم كلثوم للمغرب في الفترة من 29 فبراير إلى 20 مارس 1968، فقد كانت زيارة حافلة، جاءت في سياق نكسة 6 يونيو 1967، وإعلان أم كلثوم الشهير أنها ستجوب العالم كله وتغني دعما للمجهود الحربي حتى تزول آثار العدوان...

خلال تلك الزيارة، وصفت كوكب الشرق الجمهور المغربي بالجمهور العظيم، الذي تجري الموسيقى في دمه، وقالت إن المغاربة كانوا يطلبون أغنية "رباعيات الخيام"، وكذلك "هو صحيح الهوى غلاب"، وتحدثت أم كلثوم عن أناقة المرأة المغربية، وأبدت إعجابها بالزي التقليدي المغربي القفطان، الذي حرصت على ارتدائه في حفلتها، وكانت فرحة الجمهور المغربي بإطلالة أم كلثوم بالقفطان المغربي كبيرة جدا، إذ اهتز المسرح بالتصفيق والزغاريد، وشكّلت تفاصيل الزيارة، وقتها، حديث الإعلام الدولي ومختلف الإذاعات العربية...

سيرة حياة

ولدت فاطمة إبراهيم السيد البلتاجي في 31 ديسمبر 1898 في قرية طماي الزهايرة بمحافظة الدقهلية، وبرزت موهبتها منذ الصغر، وكانت عضوة في فرقة والدها، وشيئا فشيئا لمعت موهبتها وأصبحت مصدر دخل أسرتها، لاسيما بعدما رآها الشيخ أبو العلا محمد الذي تحمس لها ونصح والدها بالسفر إلى القاهرة.

توجهت أم كلثوم بالفعل إلى القاهرة برفقة والدها عام 1922، وغنت على خشبة مسرح رمسيس، وحديقة الأزبكية، وصدرت لها أول أسطوانة بعنوان "وحقك أنت المنى والطلب"، وحققت نجاحا كبيرا، وبمرور الأيام أصبحت هي المطربة المفضلة في البيوت العربية...
عوامل كثيرة ساعدت على توهج كوكب الشرق، منها وجود شاعر مهم في حياتها اسمه أحمد رامي، الذي قدم لها كلمات رائعة أحبها الناس، وساهمت في نجومية وانتشار أم كلثوم.
 
ومن العوامل التي رسخت نجومية كوكب الشرق أيضا إنشاء الإذاعة المصرية عام 1934، وكانت هي أول من قام بالغناء فيها، كما قدمت للسينما 6 أفلام هي: "وداد"، و"نشيد الأمل"، و"دنانير"، و"سلامة"، و"عايدة"، و"فاطمة".
 
وتعاونت أم كلثوم مع عدد كبير من الشعراء والملحنين خلال مسيرتها الفنية مثل: بليغ حمدي، ومحمد عبدالوهاب، وزكريا أحمد، ورياض القصبجي، ومأمون الشناوي، والهادي آدم...

في 17 نوفمبر 1972، قدمت أم كلثوم آخر أغنياتها "ليلة حب"، بعدها تدهورت حالتها الصحية، وتزاحمت الجماهير من أجل التبرع لها بالدم، وتصدرت أنباء مرضها نشرات الأخبار، وفي 3 فبراير 1975، توقف قلب أم كلثوم عن الخفقان، وتوقّف صوتها الشجي عن الغناء والكلام والابتسام، ورحل جسدها عن الحياة، وبقي صوتها يملأ الدنيا بهجة ومتعة وسحرا وأملا وحبا.
 
أم كلثوم تحيي الملك محمد الخامس وفي الوسط الرئيس جمال عبد الناصر
الملك الحسن الثاني يتوسط أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب
أم كلثوم تغني بالقفطان المغربي
 
 
________________________________
إطار بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وكاتب رأي