محمد مهيب وحسن بوزيان.. طبيبان يوثّقان تاريخ ميدلت وميبلادن بالكتابة والتصوير الفوتوغرافي
الكاتب :
"الغد 24"
عبد الوالي عبد الرحمن
محمد مهيب وحسن بوزيان طبيبان يمارسان، بالموازاة مع مهنة الطب، هواية توثّق بالكتابة والصورة الفوتوغرافية لتاريخ منطقة ميدلت برمتها. هواية تجعل الكتابة شاهدة على تاريخ المنطقة وعلى بعض الأحداث الهامة التي عرفتها ومرت منها كما هو الشأن بالنسبة للدكتور محمد مهيب. وتجعل الصورة الفوتوغرافية وسيلة تواصلية ناطقة باسم أماكن وأشخاص مروا من مناجم ميبلادن وأحولي أو ما يزالون يقطنون بها، كما قام بذلك الدكتور حسن بوزيان...
هناك أناس يتميزون عن غيرهم باكتسابهم مهارات ومواهب إلى جانب مهنتهم وحرفتهم التي يمارسونها يوميا. ونادرا ما تتفجر هذه الطاقات لتفرض وجودها أو تجد موقعا لها داخل مجتمع لا يعير أي أهمية للكفاءات المحلية، خاصة في المدن الصغرى، التي عانت ما يكفي من التهميش والعزلة، كما هو شأن مدينة ميدلت.
لقد أنبتت هذه المدينة الأطلسية كفاءات وطاقات في عدة مجالات. من هذه الطاقات من غادر بلدته ولم يعد يفكر فيها أو يحن إليها، ومنها من بقي متشبتا ومرتبطا بها ولا يروقه إلا استنشاق هوائها ومساعدة أهاليها ومحتاجيها وزيارة أماكنها التي بقيت وشما في ذاكرته منذ الطفولة. ومن هذه الطاقات أيضا من يفتخر بارتباطه بالمدينة وبواقعها ويتأثر لحالها وحال أناسها سواء بتوظيف جنس الكتابة أو بالتعبير بالصورة الفوتوفرافية. وينطبق هذا الوصف، على سبيل الذكر، على طبيبين صديقين يشتغلان بمدينة ميدلت، هما الدكتور محمد مهيب، الفاعل الجمعوي، والدكتور حسن بوزيان، الطبيب البروليتاري ابن قرية ميبلادن المنجمية.
لقد أثار هاذان الطبيبان انتباهي كثيرا. فمن جهة، كلاهما ينتمي إلى المجال الصحي. الأول يمارس بالقطاع الخاص في عيادته بوسط المدينة، والثاني يشتغل طبيبا بالمستشفى العمومي. ومن جهة ثانية، وهذا هو بيت القصيد، كل منهما يمارس، بالموازاة مع مهنة الطب، هواية توثّق بالكتابة والصورة الفوتوغرافية لتاريخ منطقة ميدلت برمتها. هواية "تواصلية" تجعل الكتابة شاهدة على تاريخ المنطقة وعلى بعض الأحداث الهامة التي عرفتها ومرت منها كما هو الشأن بالنسبة للدكتور مهيب. وتجعل الصورة الفوتوغرافية وسيلة تواصلية ناطقة باسم أماكن وأشخاص مروا من مناجم ميبلادن وأحولي أو ما يزالون يقطنون بها، كما قام بذلك الدكتور بوزيان.
الدكتور محمد مهيب.. شغف الكتابة
الدكتور محمد مهيب كفاءة محلية وطاقة انبعثت من منطقة عرفت ما يكفي من التهميش لمدة زمنية طويلة، منطقة ما تزال متأثرة بماضيها المنسي كباقي المدن المغربية الصغيرة المهمشة.
انطلاقا من هذا الواقع حاول الطبيب مهيب أن يسخّر قلمه ليكتب بلغة فرنسية راقية مؤلفات يصف فيها بعض الأماكن وبعض الشخصيات وصفا دقيقا، وصفا حقيقيا يعبر عن رغبة دفينة ولصيقة بذاته وبمعيشه اليومي، ولا يريد أن يتخلص منها إلا بواسطة الكتابة التي يعتبرها أنجع وسيلة لتأريخ وتوثيق وقائع معينة، وتناول تفاصيل محددة لنمط العيش اليومي العادي لشخصيات محددة.
لقد كان الدكتور مهيب على صواب حينما وجّه طاقته ومكنونه نحو الكتابة. أليست الكتابة أفضل ما اخترعه الإنسان في عصر ما قبل التاريخ على يد السومريين في حدود 3200 ق.م؟ أليست الكتابة أعظم إنجاز بشري لتوثيق الحضارات والتعريف بها وربط الماضي بالحاضر؟ وهذا النوع من الكتابة، أي توثيق الأحداث ووصف الأماكن والشخصيات هو الذي ميّز الدكتور مهيب عن غيره ممن كتبوا عن المنطقة.
يجعلك الكاتب تسافر معه في عالمه لرشاقة التعبير وبساطة الأسلوب ومهارة الوصف والتنويع في التعبير وجمالية التصوير. فلما تقرأ ما كتبه في مجموع مؤلفاته، تلاحظ أنه يقدم وصفا دقيقا، أولا لشخصيات يعرفها عن قرب، تأثر بأسلوبها البسيط في الحياة كما تفاعل وتجاوب معها، وثانيا لبعض الأماكن من محيطه الجغرافي، التي عانت بما فيه الكفاية من التهميش والنسيان، وما يزال متأثرا بها كثيرا، وثالثا لبعض الوقائع التاريخية للمقاومة ضد المستعمر الفرنسي، التي يرى ضرورة الحكي عنها والاحتفاء بها. فهو يرسم، في كتاب "ميدلت: شذرات تاريخية" طبعة 1999، بعين الطبيب "الأنثروبولوجي" وقائع حول أصول وأماكن وجود القبائل الأمازيغية بالمنطقة، وهي قبائل متنوعة ومتعددة، وقد تعمّد عدم الخوض بعمق في أصولها القديمة ومتى استوطنت المنطقة، كما يعطي نظرة موجزة ومركزة عن الأنشطة المتداولة والمؤسسات الموجودة بالمنطقة منذ السنوات الأولى من القرن الماضي. (لا نقدم هنا قراءة في مضمون هذا الكتاب).
إنه يحكي ويعبر عن واقعه ومحيطه المجتمعي بأسلوب وصفي يشرح فيه أعطاب ذلك الواقع ويشخصها ويشرحها تشريحا دقيقا كما يفعل تماما مع كل الذين يقصدون عيادته للعلاج، أولا التشريح للتمكن من الوباء، وثانيا وصف الدواء للقضاء عليه.
هكذا هي إذن الكتابة عند مهيب، الذي أتى للتأليف والكتابة من الطب، ووظّف الكتابة بدوافع هموم وهواجس تسكنه وتؤرقه ولا يرى مجالا للتعايش معها سوى بالكتابة عنها والبوح بها وتقاسمها مع الآخرين. وكأن الكتابة وسيلة من وسائل النهوض بالكاتب روحيا ونفسيا.
تتمثل إذن متعة الكتابة عند الدكتور مهيب في اقتباس شخصيات من واقع معيشي يعرفها جيدا -رواية "حدهم" وكتاب "عالم عيشة باسو"- مما يضفي عليها متعة خاصة. فلما تكتب الحكاية بمتعة ولذة فهي تُقرأ أيضا، كما قال رولان بارت، بمتعة وبلذة، وتحذو القارئ رغبة قوية في الارتباط بمحتواها وبنصها، كما يحذوه شغف في إتمامها وإعادة قراءتها عدة مرات.
فليس من يكتب بدم القلب كمن يكتب بالحبر. إنه الوصف الذي ينطبق على كتابات ومؤلفات الظاهرة - الدكتور محمد مهيب، الطبيب المهني المحترف، والكاتب المتمكن من أدوات الكتابة، والفاعل الجمعوي المعطاء، والمثقف العضوي المتواضع...
الدكتور حسن بوزيان.. الماضي بالعين العاشقة
أما الكفاءة المحلية الثانية التي دخلت عالم التاريخ بالصورة الفوتوغرافية فتتمثل في شخص الدكتور حسن بوزيان، من مواليد قرية ميبلادن في ستينيات القرن الماضي. وهو في نفس الوقت زميل الدراسة وتربطني به صداقة عميقة وأتقاسم معه الكثير من ذكريات الطفولة ومن حب قريتنا ومسقط رأسنا ميبلادن المنجمية.
الدكتور بوزيان يمارس الطب العام بمستشفى ميدلت. واختار إلى جانب مهنته الشريفة هاته والإنسانية ممارسة هوايته المفضلة: التصوير الفوتوغرافي. اختار هو الآخر هواية التصوير بحرية، وقناعة، وحب، وإرادة. وأصبحت الصورة وليدة لاختيار إرادته وحريته مما جعلها صورة موفقة وناطقة.
لقد استطاع أن يتفوق إلى حد كبير في التعامل مع الضوء ومع الظل في صوره الفوتوغرافية بطريقة رائعة تعبر عن حسه وذوقه الرفيع في رؤية بعض الجوانب التي تجعل الصورة ناطقة ومعبرة. ويتبن من خلال صوره إلى أي مدى يرتبط الطبيب- المصور الفوتوغرافي بواقعه المجتمعي المنجمي، وإلى أي مدى يحن إلى ماضي المناجم بميبلادن التي عانت ساكنتها هي وأحولي الشيء الكثير منذ سنة الإغلاق التعسفي للمناجم وتشريد عمالها وبروليتاريتها.
صور الدكتور بوزيان تعبر عن معاناته النفسية والعاطفية تجاه واقع منجمي فيه تربى وترعرع وكبر. إنها تعبير عن الحنين إلى الماضي وإحياء الذكريات، إحياء شخصيات فقدها إلى الأبد، إحياء أماكن تغيرت وفقدت خصوصيتها. هي تخليد إلى الأبد لفترات زمنية أثرت عليه تأثيرا قويا.
إن الصورة الفوتوغرافية عند بوزيان الطبيب-المصور تعتبر حدثا مرجعيا. فكلما أمعنت النظر والتأمل في هذه الصور يحضرني واقع مر وإحساس غريب. وأتذكر أنا أيضا، بكل حسرة وأسى، كل تلك الأماكن التي التقطتها عدسته كاللوزو، ولاكوشوريكس، وبيرو عرب، وقاعة السينما وأفلام الصداقة وروستم، والمسبح، والمستشفى، والجرادي، والمقبرة التي احتضنت الكثير من أجساد الطبقة البروليتارية، وأماكن أخرى كثيرة.
إنه عمق الأمكنة التي تسكنه والتي أثرت كثيرا فيه. كما تذكرنا صوره أيضا بتلك الشخصيات التي عاشت بيننا وهي كثيرة، أغلبها قضى نحبه. منها العامل البروليتاري، ومنها السائق، والتاجر، والمعلم، والفلاح والطالب، ومنها أيضا أبناء بعض الباطرونا الذين ازدادوا وترعرعوا بالمناجم.
وبهذا تكون الصورة الفوتوغرافية عند الطبيب-المصور وسيلة من وسائط أدب المناجم إلى جانب الكتابة. إنها تعبير وحكاية واقع مر ومؤلم يتخبط فيه سكان المناجم. هي تعبير تصويري ناطق. فحين تنظر إلى الصورة يتكون لديك انطباع بأنها جامدة وغير متحركة. لكن بمجرد إعادة النظر فيها تتفاعل معها وكأنها صورة طبيعية تحمل الروح وتبوح لك بشيء ما. شيء مختزل في الذهن والذاكرة لقدرتها على اختراق الحواس الداخلية وقوتها بالتالي على إعادة تخزينها في الذاكرة حتى لا تنسى مع مر الزمن.
وهكذا، يقدم لنا المصور الهاوي صورا فوتوغرافية تصبح بسرعة حاضرة في ذهننا، على الأقل، بالنسبة لنا نحن أبناء مناجم لاسيران بميبلادن وأحولي. إنها في نهاية المطاف نتاج فعل ما يرى، وما يرى لا يخطئ كما يخطئ الخيال. ففي كثير من اللحظات تقدم لنا الصور التي يلتقطها حقيقة لم نكن ننتبه إليها. حقيقة ما لا يرى "رؤية العين وإنما يرى عين الرؤية" كما يقول فيلسوف المتصوفة محي الدين بن عربي رحمه الله.
الدكتور بوزيان، الذي يتأبط آلته الفوتوغرافية التي لا تفارقه أينما تواجد وكأنها أوكسجين بقائه في الحياة، هذا الطبيب الملتزم، والمناضل، والخدوم، تمكّنم من أن يوظف في الصورة خيالا لا يراه إلا هو، خيالا لا يراه سواه. إنه عشق الصورة بالعين العاشقة.
صور أماكن لقرية ميبلادن بعدسة الدكتور حسن بوزيان
♦♦♦
يبقى الطبيبان عاشقين متميزين يحبان، حتى النخاع، الكتابة بقلم الدم بالنسبة للدكتور محمد مهيب، والتصوير الفوتوغرافي بعين الرؤية عند الدكتور حسن بوزيان. وهما بالمناسبة طبيبان لهما مكانة خاصة داخل المجتمع، الكل يحبهما ويحترمهما لعملهما النبيل ولمواقفهما الإنسانية وطيبوبة معاملاتهما مع مختلف شرائح المجتمع بمنطقة ميدلت...