مطلب إلغاء عقوبة الإعدام لن يتحقق بوجود حكومة رجعية تناهض حقوق الإنسان في أبعادها الكونية
الكاتب :
أحمد نشاطي
أحمد نشاطي
جريمة اغتصاب وقتل الطفل عدنان في طنجة أثارت الكثير من السخط والغضب، كما جاء في المقال السابق، ورافقها تهييج، قلنا إنه سرعان ما سينتهي، فعمر الهيجان والتهييج دائما قصير جدا قد لا يتعدى أسبوعا واحدا، انتهى اليوم الجمعة 18 سبتمبر 2020...
وها التهييج انطفأ، وعاد المهيَّجون إلى قواعدهم، وانسلّ المهيِّجون ليختفوا في زوايا معتمة، وبقي المدافعون عن إلغاء عقوبة الإعدام وحدهم في الواجهة، هم من يطرح قضية الطفل عدنان في أبعادها المتعددة، ويدعون إلى الانكباب عليها من مختلف الزوايا، من أجل حماية الأطفال من مثل هذه الجرائم البشعة، ومن كافة المخاطر المحدقة بهم، في الشارع وفي المدرسة وداخل الأسرة وفي الفضاءات الإلكترونية، ويمكن، في هذا الصدد، تمثيلا لا حصرا، العودة إلى المبادئ والقيم المُثْلى، التي تأسس عليها البيان المشترك لكل من الائتلاف المغربي من أجل إلغاء عقوبة الإعدام، وشبكة المحاميات والمحامين ضد عقوبة الإعدام، وشبكة البرلمانيات والبرلمانيين ضد عقوبة الاعدام، وشبكة الصحافيات والصحافيين ضد عقوبة الإعدام...
وظهر جليا أن التهييج، ولا نتكلم عن الهيجان أو الهياج، فهذا فعل إرادي انفعالي شعبي طبيعي، وإنما نتحدث عن التهييج بفعل فاعل، ظهر أنه كان موجها لخدمة أجندة تيار متخلف في المجتمع، يُراد إعطاؤه "هدية"، لعلةٍ ما في هذه الظرفية، بإبعاد المغرب عن الانضمام إلى لائحة أغلبية دول العالم، التي ألغت عقوبة الإعدام من ترسانتها القانونية...
التيار إياه له تعبيراته على عدة مستويات، أبرزها الحكومة، التي ابتُلي بها الشعب المغربي، والتي يقودها البيجيدي. لقد جعل منها حكومة محافظة، أبعد ما تكون عن استلهام قيم حقوق الإنسان في أبعادها الكونية، حتى ولو تعلق الأمر بروح ومقتضيات الدستور الجديد، الذي شدّدَ، بعبارات لا لبس فيها، على حماية الحق في الحياة، وعلى حظر المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، فضلا عن الالتزام، الأخلاقي والقانوني، بتنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وفي مقدمتها الدعوة إلى التصديق على البروتوكول الاختياري الثاني الملحق بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية المتعلق بعقوبة الإعدام.
قبل مقدم حكومة البيجيدي الأولى بقيادة بنكيران، كان المغرب يعتبر أقرب بلد "إسلامي" إلى إلغاء عقوبة الإعدام، التي جَمّد العملَ بها قبل 27 سنة.
وكان المغرب أعدم، منذ حصوله على الاستقلال سنة 1956، إلى حدود سنة 1993، تاريخ آخر تطبيق لعقوبة الإعدام، 41 شخصا.
أول حكم بالإعدام اتُّخذ، في غشت 1961، ضد 4 مقاومين، ونُفذ الحكم في 24 يناير 1962، في إطار ما عُرف بقضية "المؤامرة ضد ولي العهد" آنذاك، الملك الراحل الحسن الثاني، ويتعلق الأمر بكل من بنحمو الفاخري، والزناكي، والمولات الدكالي، وتاجا.
وفي يوم 13 يوليوز 1971، على إثر محاولة انقلاب عسكرية فاشلة في القصر الملكي بالصخيرات في عيد ميلاد الملك الراحل الحسن الثاني (10 يوليوز 1971)، جرى إعدام 10 ضباط، بينهم 4 برتبة جنرال، و5 برتبة كولونيل، إضافة إلى الكومندار إبراهيم المانوزي. وكان ذلك عقب محاكمة عسكرية سريعة بعد ثلاثة أيام على المحاولة الانقلابية...
وفي 13 يناير 1973، جرى إعدام 12 ضابطا آخرين، لاتهامهم بالتورط في محاولة انقلاب الطيارين الفاشلة، بالهجوم على الطائرة الملكية، خلال عودة الملك الراحل الحسن الثاني، من زيارة لفرنسا يوم 16 غشت 1972.
وفي 25 يونيو 1973، قدم للمحكمة العسكرية بالقنيطرة، 149 معتقلا من الحركة الاتحادية، على إثر أحداث 3 مارس في مولاي بوعزة، قرب خنيفرة، بتهمة تهديد أمن الدولة، وصدر حكم الإعدام في حق 15 منهم، جرى تنفيذه يومين بعد عيد الأضحى، وأبرزهم عمر دهكون، وأجدايني، ومحمد بن الحسين المسمى هوشي مينه.
وفي 27 غشت 1974، نُفذ حكم الإعدام في حق مجموعة أخرى على رأسها إدريس الملياني، والمهتدي، وجناح، والحجيوي...
وفي قضايا الحق العام، أُعدم شخصان عام 1982، أدينا في قضية اعتبرت الأولى من نوعها في تاريخ الإجرام بالمغرب، تتعلق باختطاف أطفال وقتلهم بعد طلب الفدية بمبالغ مالية من ذويهم...
وكان عميد الشرطة في الدارالبيضاء، محمد ثابت، آخر من نُفذ فيه حكم الإعدام في المغرب، عام 1993، بعد إدانته في قضية أخلاقية شملت احتجاز أكثر من 500 امرأة ومن 20 قاصرة واغتصابهن بأشكال عنيفة وتصوير مشاهد الاعتداءات الجنسية بالفديو.
وباستقراء لهذه الصيرورة، يتبين أن الدولة لم تعمد إلى تنفيذ أحكام الإعدام إلا في "حالات قصوى"، وهي تتعلق أساسا بقضايا سياسية حساسة، في خضم الصراع العنيف على السلطة، خلال عقود الاحتقان السياسي، على خلفية الاختلافات بشأن طريقة بناء الدولة الحديثة، وتدبير الشأن العام، بعد معركة الاستقلال، التي قادتها المؤسسة الملكية والحركة الوطنية.
كما جرى أيضا تطبيق أحكام إعدام في قضايا إجرام من الحق العام، أمنية وأخلاقية، اعتُبرت سابقة من نوعها، وسعت الدولة، من خلالها، إلى "إعطاء الدرس" تفاديا لتكرار "الظاهرة" واتساعها.
وهنا أيضا يمكن الحديث عن عامل سياسي وراء التنفيذ من زاوية "حرص الدولة على إبراز الصرامة"، حتى لا يصبح الفعل الجرمي، الموجب للإعدام، بالنسبة للدولة، سابقة مشجعة على ارتكاب أعمال إجرامية مماثلة.
بيد أنه لم يثبت عالميا، وفي أي زمن من الأزمان، أن لعقوبة الإعدام تأثيرا رادعا في منع الجريمة في المجتمعات، وإلا لما عانت الدولة العظمى (أمريكا) من جرائم القتل والعنف بشكل مضاعف في ولاياتها، التي تطبق عقوبة الإعدام...
فعقوبة الإعدام تبقى، في كل الحالات، جريمة ردا على جريمة، تعكس نزعة بشرية في الانتقام، وهذا قد يكون من صميم سلوك الأفراد، وليس الدول، ففي حالة الدول يصبح الأمر أدهى وأمر، إذ يجري القتل باسم القانون.
قد يرتكب المجرم جريمته بدوافع انتقامية، أو تحت تأثير مخدر ما، أو لدافع آخر مثل السرقة أو الاغتصاب أو غيرهما، لكن السلطات، حين تنفّذ الإعدام، تجد نفسها، بالفعل والقوة، أسيرة لهذه النوازع الفردية، والنتيجة تبقى واحدة، وهي إزهاق روح بشرية، مع فارق فادح عن المجرم القاتل، أن الدولة تمارس جريمة القتل باسم القانون، أخذا بالاعتبار أن الدعوة إلى إلغاء العقوبة ليس الغرض منها الشفقة أو الرحمة كما يسوّق البعض، وليس الدفاع عن المجرم أو المطالبة بالإفلات من العقاب، ولكنها مطالبة بتنقية قوانيننا المحلية من نصوص اجتهادية تتجاهل أن القانون إنما يوضع لصون الحياة وليس لإهدارها...
لا نريد لمغربنا أن يبقى ضمن البلدان "القاتلة"، التي ترتكب "الجريمة المقيتة"، جريمة إلغاء حياة بشرية. نريد مغربا متقدما، خاليا من عقوبة الإعدام، وعندنا من الأطر الحقوقية والقانونية والقضائية ما يكفي من الكفاءات لسن عقوبات زجرية بديلة، والتفكير في أصل الجرائم المعنية، لإيجاد إجراءات ناجعة تحد من إعادة إنتاج تلك الجرائم.
وهذا المنحى، هو ما كان يسير فيه المغرب، منذ آخر تنفيذ لعقوبة الإعدام، وهو الإعدام الواحد والأربعون، إذ بفضل تنامي الوعي الحقوقي داخل الدولة وفي المجتمع المدني، دخلت تلك الحالات الإحدى والأربعون إلى "متحف التاريخ"، وأحجم المغرب عن تنفيذ أي أحكام بالإعدام، مهما بلغ حجم خطورة الجُرم المرتكب، إذ لم ينفذ الإعدام في "سفاح تارودانت"، الذي أدين باغتصاب عدد من الأطفال وقتلهم سنة 2005، كما لم ينفذ أي من أحكام الإعدام الصادرة في قضية اعتداءات 16 ماي 2003 الإرهابية في الدارالبيضاء.
وتطورت هذه الصيرورة الحقوقية بعدة مواقف إيجابية، ليس هنا مجال التفصيل فيها، جعلت المغرب على باب إلغاء عقوبة الإعدام... ولهذا السبب، انحسر التفاؤل، الذي كان يملأ نفوس السي عبد الرحيم الجامعي ورفاقه في الائتلاف المغربي لمناهضة عقوبة الإعدام، والسي محمد السكتاوي ورفاقه في "أمنستي" المغرب، الذي أعرب عن الاستغراب لموقف المغرب الرسمي المتحفظ إزاء مطلب إلغاء عقوبة الإعدام، إذ وصفه السكتاوي بأنه "موقف غير منطقي وغير طبيعي، مطبوع بالازدواجية"...
تبخر التفاؤل، وبات العديد من الديمقراطيين المغاربة يصطدمون بالمنعرج، الذي دخل فيه المغرب، في عهد حكومة البيجيدي، بخصوص مطلب إلغاء هذه العقوبة، وهو ما أسماه الحقوقيون "الازدواجية"، ويسميه البسيكولوجيون "الانفصام"، ويسميه الفقهاء "النفاق"...
المغرب، اليوم، مع حكومة رجعية بقيادة إخوانية، بنسختيها مع عبد الإله بنكيران ومع سعد الدين العثماني، شرع يبتعد عن المطمح الحقوقي بإلغاء العقوبة المقيتة، مثلما شرع يبتعد عن اعتماد العديد من الحقوق الإنسانية، ليبدأ في الاندحار تدرجا إلى مراتب البلدان، التي لا تُحترم فيها حقوق الإنسان في أبعادها الكونية...
هذا هو المآل، الذي أدخلتنا فيه حكومة بنكيران السابقة، والذي تُواصِلُ حكومةُ العثماني حشرنا فيه، وأبرز مثال على هذا المنحى نجده في شخص المصطفى الرميد، فوجوده، في حد ذاته، على رأس وزارة حقوق الإنسان، هو عنوان عريض على المرحلة وانهياراتها الحقوقية، التي تجسدها المواقف المتخلفة، التي بات يعبّر عنها الوزير إياه باسم الحكومة المغربية في جنيف...
الإخوان المسلمون، في المغرب أو تونس أو قطر أو تركيا، يتصدرون مناهضة التيار الحقوقي الإنساني العالمي الداعي إلى إلغاء عقوبة الإعدام، لأنهم يعتبرون الإلغاء خروجا عن الشريعة، بل منهم من يحكم على المنتمين لهذا التيار بالكفر... لأنهم يتحركون من منطلقهم الثاوي فيهم، وهو تطبيق الشريعة الإسلامية، كخطوة أولى في طريق بناء دولة الخلافة... ولذلك، لا يمكن أن يكون هناك ولو بذرة أمل إلغاء العقوبة مع حكومة يكون فيها البيجيدي، الأمل الوحيد هو إسقاط ودحر البيجيدي، وبطريقة ديمقراطية...
والخلاصة: عقوبة الإعدام تستند، في عمقها، على مبدأ الانتقام، وظلت تُنفذ منذ عصور سحيقة، وأبرز تأطير قانوني لها، نجده في القوانين، التي سنها الملك البابلي حمورابي، في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، في ما عرف بمبدأ "Lex talionis"، أو قانون الانتقام، أو الثأر، على قاعدة "العين بالعين والسن بالسن ومن بنى بيتا وهدم على أصحابه يُقتل..."، وهي القاعدة نفسها، التي أقرتها الشريعة، وزادت عليها "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" (سورة البقرة 178)...
بيد أن "حقوق الإنسان هي من حق المذنب والبريء على السواء، الأفضل والأسوأ بيننا. ولهذا السبب يجب إلغاء عقوبة الإعدام في العالم"، مثلما قالت ماري روبنسون، المفوضة السامية الأسبق لحقوق الإنسان، وأكدت "إنني أكنّ تعاطفا مع عائلات ضحايا القتل وغيره من الجرائم الأخرى، ولكنني لا أقبل أن يكون الموت مسوّغا للموت"، أو كما قال غاندي "العين بالعين.. والبشرية تصبح بأسرها عمياء"...