الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم
الراحل عبد الوهاب بلفقيه

عز الدين بونيت يكتب عن وفاة عبد الوهاب بلفقيه: موت غير محقق

 
عز الدين بونيت
 
 
رحم الله الراحل عبد الوهاب بلفقيه. وتعازينا الحارة لأسرته ومعارفه وأصدقائه.
 
لا رغبة لدي في ترديد الخلاصات المبرمة حول انحطاط السياسة وانحراف السياسيين، وغيرها من الأفكار المسكوكة. أريد فقط أن أقف عند الوجه الإنساني الدرامي لما جرى. فالسياسي هو أيضا بشر تحركه الطموحات والأهواء والأطماع، والتطلعات النبيلة والأقل نبلا. يفرح، ويغضب ويتألم ويضعف، وينتقم... ومن المفيد أن نتذكر، بين حين وآخر، مناطق الظل هذه في حياة السياسي.
عبد الوهاب بلفقيه كان سياسيا ماهرا في التعامل مع مواطنيه، يعرف كيف يحوز ود ومساندة كثيرين منهم، لا يرون فيه إلا مظاهر الطيبوبة والتواضع وكونه خدوما وتلقائيا، في تعامله. ولذلك ظل يحوز ثقتهم في الانتخابات، ويحصل على المقعد الانتدابي. ولأنه سياسي، فهناك خصوم منافسون، بل وأعداء لا يرون فيه إلا وجها تغطيه المساوئ من كل نوع. وهذا أمر معتاد ومتوقع في حقل السياسة، لا داعي لنتصنع إدانته.
 
لا أعرف الراحل معرفة شخصية. ولكنني أعرفه معرفة عابرة، فرأيته بشوشا غير متشنج، بسيطا في اختزاله للمواقف والتحاليل والقرارات. يذكرني ببعض أصدقائي السياسيين الذين يشبههم في كثير من الخصائص السياسية والإنسانية.
 
حزنت كثيرا لمقتله، حزنت لأنني كنت ألمس تدفق طموحه وحماسه، وانخراطه في تنشيط الحركية السياسية في محيطه المباشر وفي جهته. ومثل هذه الشخصيات تكون مفيدة جدا في مواقعها، لأنها تسهم بقسط وافر في تنشيط الحياة العامة واستقطاب الاهتمامات ودرء الملل السياسي الذي يسببه غياب مثل تلك الكاريزمات المحلية.
 
ومما ضاعف من حزني استحضاري لتلك الطريقة المنحطة التي وقعت بها إهانته وإهانة فريقه من المنتخبين، من طرف قيادة الحزب، الذي ترشح تحت رمزه، نتيجة التسويات المعقودة مركزيا. لقد شعر بلفقيه بكونه استُعمل مثل بيدق صغير في آلة من الحسابات السياسية، التي تخدم مصالح القيادة المركزية، ولا تعير اهتماما لتطلعات وطموحات القيادات المحلية. لقد شعر، هو ومن معه، بأن قيادة الحزب استخدمتهم بانتهازية مبالغ فيها. وعبّر الرجل في إحدى آخر تدويناته عن ألم الطعنة التي أحس بها، معلنا يأسه من السياسة. وهذا هو ما انعكس بوضوح أثناء انعقاد أشغال دورة انتخاب مكتب الجهة، التي قاطعها الفريق، خاصة وأنها انعقدت في ظل حادث إصابة بلفقيه بإطلاق النار الذي أودى، بعد ذلك، بحياته.
 
ومما زاد من شعوري بالحزن أن الفرق الحزبية الأخرى المكونة لمجلس الجهة، لم تأبه لهذا الحادث، ولو بحركة رمزية، تعبر عن قليل من الأصالة الإنسانية، واستمرت في عملية تشكيل المكتب دون أن يسائلها هذا الحادث، ولو من باب التضامن والتريث والمطالبة بإلقاء الضوء أولا على ظروف الحادث. لقد خيمت على أشغال ذلك المجلس بلادة في الحس الإنساني والمسؤولية الأخلاقية ما بعدها بلادة.
 
لقد أطلق مقتل المرحوم بلفقيه، وهو حادث غير مألوف في ماجريات حياتنا الانتخابية، العنان لعدد من الافتراضات حول ملابساته. وزاد من تغذية الشكوك في أسباب الحادث وفي طابعه السياسي، الكسل واللامبالاة، بل والاستهانة التي تعامل بها الإعلام العمومي مع الحادث، حيث ظل لابدا في مكانه لا يحرك ساكنا، ولم يشر إلى الحادث من قريب ولا بعيد، كما لو أنه لم يحدث. وهذا النوع من السلوك غير المهني وغير المسؤول هو الذي يسهم في تغذية الشكوك ويتيح للأخبار الزائفة وتصفية الحسابات والاصطياد في الماء العكر وتغذية النعرات القبلية، مرتعا مفتوحا. الشخص الذي قتل لم يكن شخصا عاديا لكي نتجاهل حادث إصابته بالرصاص، ونعتبره حادثا صغيرا أو هامشيا. لقد كان أحد أبرز المرشحين لرئاسة الجهة التي مات فيها مصابا. وقد أصيب عشية انتخاب رئيس ومكتب الجهة. فالرهانات السياسية متداخلة مع الحادث ولا مجال لتجاهله، في نشرات نزعم أننا نخصصها بالكامل لمتابعة انتخابات مكاتب الجماعات الترابية.
 
لقد كان تعامل الإعلام العمومي مع الحادث وصمة عار في جبينه، لأنه تعامل مع الموضوع، كما لو كان انتخاب أحد المرشحين أهم بكثير من مقتل المرشح الذي كان منافسا له، في نظر من يزعمون أنهم يقدمون تغطيات للمشهد السياسي الجهوي والمحلي.
 
لكل هذه الأسباب، حق للمشككين أن يشككوا في محتوى بلاغ النيابة العامة، خاصة وأنه هو الآخر صيغ برطانة لا تقل فجاجة عن بقية عناصر هذا المشهد الحزين، رطانة لا تراعي سياق الحادث الذي تبلغ عنه، فتستعمل مفردات وتعابير تتعامل مع الضحية كما لو كان خصما للقانون. المتوفى كان قيد حياته يسمى عبد الوهاب، وما زال إلى اليوم، وسيظل رغم أنف النيابة العامة يسمى عبد الوهاب. وكلمة الهالك، حتى ولو كانت مجرد وصف قانوني، إلا أنها في المتعارف عليه بين العامة تستعمل أساسا في حق من لا نريد الاعتراف له بجدارته برحمة الله التي نرجوها في العادة لكل متوفى.
 
استعمال الرطانة القانونية في بلاغ موجه إلى العامة وليس إلى أهل القانون حصرا، استعمال في غير محله ولا سياقه، وهو مما قد يزيد من صب الزيت على نيران التشكيك وأقاويلها.
 
هل ينبغي أن نصدق النيابة العامة ونجاريها في ما مالت إليه من استنتاجات وافتراضات أولية حول احتمال أن يكون الحادث ناتجا عن دافع الانتحار؟
 
شخصيا ليس لدي ما يدعوني إلى رفض فرضية النيابة العامة، خاصة وأنها هي نفسها تعتبر هذه الفرضية غير محسومة وتضطلع بمزيد من التحقيق في الوقائع. وليس هناك سبب لأكذب فحوى ما أفادت به النيابة العامة، من أن الحادث وقع في بيت المتوفى، وأن الوقاية المدنية نقلته من هناك إلى المستشفى العسكري، حيث أجريت له عملية جراحية لم تفلح في إنقاذ حياته. لا أميل إلى تكذيب هذه المعطيات لأن أسرة الفقيد نفسها لم تكذبها، وهي المؤهلة أكثر منا جميعا لمعرفة ظروف وتفاصيل ما جرى. كما أن معطى وقوع الحادثة في داخل بيت المتوفى ثابت بشهادة عناصر الوقاية المدنية، التي نقلت الضحية إلى المستشفى من هناك. ولاشك أن الجيران والمارة شهود على هذا المعطى. ولا أتوقع أن تغامر النيابة بتزييف هذا المعطى لتغيير معالم ومجرى التحقيق، كما يزعم غلاة المتشككين. فمثل هذه المعطيات، التي ورد ذكرها في بلاغ النيابة العامة، يصعب التعتيم عليها وبها، لأن ذلك يحتاج إلى تواطؤ كل من الأسرة والوقاية المدنية والأطباء العسكريين، والجيران والمارة الذين لا أحد يجهل درجة فضولهم المعتاد. هذا هو الأمر المستبعد جدا وليس ما ورد في البلاغ.
 
في انتظار استكمال التحقيقات وكشف كل خيوط هذه القضية، أتمنى صادقا أن يتحلى كل اعضاء مجلس الجهة بقليل من النبل، ويبادروا إلى تدارك البلادة التي عبروا عنها بتغافلهم عن مقتل زميلهم، واستمرارهم في استحقاقهم الانتخابي. اتمنى أن يقيموا حفلا تأبينيا يليق بالراحل، يذكر أفضاله وحسناته، ويتغاضى عن أخطائه ومساوئه، ويحفظ ذكراه، وسترجع ماء وجوههم...