الانتخابات الرئاسية الأمريكية.. دونالد ترامب العمودي وجون بايدن الأفقي
الكاتب :
"الغد 24"
"الغد 24": تجري، اليوم الثلاثاء 3 نوفمبر 2020، عملية التصويت المباشر من خلال صناديق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، بعد أن أدلى نحو 100 مليون أمريكي بأصواتهم عبر البريد والتصويت عن بعد... في هذا اليوم الحاسم في مسار الانتخابات الأمريكية، أنجز الزميل لحسن العسبي هذه القراءة، ضمن "خاص" صدر اليوم في جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، ونعيد نشره، هنا، للفائدة، ولأهمية هذه القراءة، التي "ترى غير ما يرى كثيرون"، وهي أن حظوظ فوز الجمهوريين أوفر في الفوز بالانتخابات، بناء على عدة عوامل ترصدها هذه القراءة المتميزة...
لحسن العسبي
لا تستقيم مقاييس استطلاعات الرأي ضمن المشهد السياسي والاجتماعي الأمريكي، مع نظيرتها في باقي الديمقراطيات الغربية، مما يلزم المتتبع بوضع مسافة نقدية معها، تفرضها طبيعة الذهنية المتحكمة في السلوك الانتخابي الأمريكي، الذي هو سلوك جد متقلب بالساعات وليس فقط بالأيام والأسابيع.
ذلك أنه، إذا كان التغيير السياسي انتخابيا بالديمقراطيات الغربية الأوروبية، يتم من خلال دورة تهيئ كبيرة، ممتدة في الزمن، يتم الاشتغال عليها بتقنيات تواصلية مركبة على مدى شهور يكون للنخب فيها الدور الحاسم، ويكون تطارح الأفكار وصراع المشاريع التنموية والمجتمعية والثقافية والسلوكية في صلبها. فإن التغيير السياسي الانتخابي في اللعبة الديمقراطية الأمريكية، يتم صنعه عبر تفاصيل صغيرة آنية، مندرجة ضمن منطق للإثارة، ينتصر للفرجة ومنطقها، ويعتمد مبدأ الإغراء. فالتقنيات هنا غير التقنيات هناك، ما يجعل أمر النظر إلى نتائج استطلاعات الرأي يفرض وضع مسافة بين اللعبة السياسية في هذا الفضاء وبينها في الفضاء الآخر.
بالتالي، فإن الاستكانة إلى ما يعممه جزء من النخبة السياسية الأمريكية (خاصة الديمقراطية منها)، من نتائج لاستطلاعات رأي ترشح كفة هذا المرشح دون ذاك، قد يخطئ الملاحظ، المحلل للمعركة الانتخابية الشرسة جدا بكامل الولايات المتحدة الأمريكية. قد تخطئه من حيث إنه لا ينتبه أنها جزء فقط من الآلة الدعائية التنافسية، ضمن منطق للتنافس، قليلا ما ننتبه أنه تنافس بين "الأشخاص" (وطباعهم) وليس بين "مشاريع".
هنا يكبر السؤال الطبيعي الذي يسود كل المجالات التواصلية عبر العالم، من سيفوز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، هل دونالد ترامب أم جون بايدن؟
الحملة الأفقية لبادين والحملة العمودية لترامب
تقنيا، يركز الإعلام الأمريكي (وبالاستتباع في العالم)، كثيرا على شكل الحملة الانتخابية في ولايتين تعتبران مفاتيح في إمالة كفة الفوز لهذا المرشح أو ذاك، هما ولاية فلوريدا وولاية بنسلفانيا. ليس فقط لأنها تقليديا ولايات متأرجحة دوما في نتائج تصويتهما للفيل أو للحمار (شعار الحزبين المتنافسين الكبيرين الجمهوري والديمقراطي)، بل لأنها أيضا الولايات التي تسجل تأرجحا كبيرا دائما في نسب المشاركة الانتخابية بكامل الولايات المتحدة الأمريكية، وأنه كلما ارتفعت نسب المشاركة فيها كانت حظوظ الجمهوريين أكبر، وكلما تقلصت تلك النسبة كانت حظوظ الديمقراطيين أوفر (في ولاية بنسلفانيا خاصة بميشيغن أصبح هناك تأثير أكبر للناخبين العرب، خاصة من أصول فلسطينية وعراقية وسورية).
بالتالي، فإن تركيز المرشحين والحزبين لحملتهما الانتخابية عليهما في آخر أيام وساعات الحملة الانتخابية، آت من طبيعتهما الخاصة، سلوكيا، ضمن معركة التصويت الانتخابي. وطموح الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب، كامن في أن لا يكرر خطأ الانتخابات السابقة، من حيث إنه لم يركز كثيرا في حملته الانتخابية سنة 2016، على ولاية بنسلفانيا، وهو يطمح اليوم أن يحسم فوزه فيها، سواء على مستوى الناخبين الصغار أو الناخبين الكبار.
رغم كل ذلك، فإن المعركة الحقيقية قائمة في مجالات أخرى في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، تجعل المرء يكاد يجزم أن حظوظ الرئيس ترامب للفوز أكبر من منافسه جون باين. وأن مجالات تحقق ذلك، قائمة في الكتل الانتخابية التي يستند عليها كل مرشح، حيث نجد أن المرشح الديمقراطي بايدن يشتغل (مثل توجه حزبه تقليديا) على النخب أكثر، على كافة المستويات، سواء المالية أو الإعلامية أو الفنية أو الجامعية. بينما يشتغل المرشح الجمهوري ترامب، على الشرائح الاجتماعية بمنطق اللوبيات، حيث نجده يغازل (كل بخطابه وتقنيات التواصل معه) شرائح السود وشرائح الأمريكو لاتينيين وشرائح النساء، وفئة الأمهات وربات البيوت، وشرائح كبار السن، ثم شرائح الشباب. ما يجعل المرء يكاد يجزم أن بايدن يقوم بحملة أفقية، بينما ترامب يقوم بحملة عمودية.
المعركة الثاوية للفوز
هذا يدفعنا، إلى القول، تأسيسا على طبيعة الذهنية المتحكمة في السلوك الانتخابي للمواطن الأمريكي، أن فرص فوز دونالد ترامب أكبر من منافسه جون بايدن. والأمر ليس فقط، مرتبطا بالمآلات التي أخدتها المواجهات التلفزيونية الثلاث بينهما (واحدة منها كانت عن بعد)، بل الأمر من وجهة نظري، سابق على ذلك. صحيح أن ترامب خرج منتصرا قليلا في تلك المواجهات التلفزية، التي أحسن فيها استثمار ما يتقنه من أشكال تواصل لها تأثير نافذ على الفرد الأمريكي دون غيره من باقي العالمين (فهو رجل تواصل بامتياز منذ سنوات). خاصة حسن استثماره لتداعيات إصابته بفيروس كوفيد 19، ومعركته الشخصية لمواجهته، حيث نجح في أن يرسخ صورة القائد الذي لا يستكين للمرض، بل نجح في رسم صورة المحارب (السوبرمان) التي تشكل مرتكزا مركزيا في الوعي السلوكي والذهني الأمريكي، الذي صنع قيميا منذ أكثر من 150 سنة.
هكذا، فإن نقط فوز دونالد ترامب، كائنة في مستويات أخرى، أكثر عمقا، وأشد حسما ضمن المشهد السياسي والانتخابي الأمريكي، ذي طبيعة النظام الانتخابي المعقد والمركب (يحسم الفوز فيه الناخبون الكبار بمختلف الولايات). لأن ما سيميل الكفة لصالح ترامب كامن في الحضور الطاغي لنموذج شخصية المرشح، حيث إن طبيعة الصراع الانتخابي هناك تجعل التنافس فرديا بين شخصيتين وليس بين مشروعين. أي إنه صراع بين نموذجين لرجلين، وأيهما أكثر بطولة وصلابة وإقداما كقائد. وليس اعتباطا أن دونالد ترامب قد عاد في حملته الحالية (عكس حملة سنة 2016)، إلى خطاب قومي أمريكي، يحيل على تهديد يطال الهوية الأمريكية، التي بنيت طيلة القرن العشرين على مواجهة خطر الفكر الاشتراكي، وعلى القيم اللليبرالية للحرية في المبادرة كما بلورتها البروتستانتية المسيحية، المنتصرة لحرية السوق وللربح (العدو اليوم هي الصين).
علينا هنا الانتباه، كيف أن ترامب (عكس بايدن) يدافع في حملته الجديدة هذه المرة على معنى خاص لـ"الأسرة"، يتأسس على المرجعية المحافظة للتيار الإنجيلي، مما يجعل أن ثلثي النساء سيصوتن له، وأن جزء مهما من السود سيصوت له، وأن جزء من الشباب سيصوت له، وأن غالبية الناخبين البيض سيصوتون له. وأن الأهم من كل ذلك، ستلعب تلك الآلية الدينية الدور الحاسم في تغليب الكفة لصالحه (وهي المتحكمة في النساء والشباب والسود والبيض)، من خلال الدور المحوري منذ 20 سنة الذي يلعبه هذا التيار الإنجيلي (المحافظ والمتشدد) داخل النسيج المجتمعي الأمريكي (كمرجع لكل التيار الإنجيلي بأمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا).
دور التيار الإنجيلي المحافظ والمتشدد سيكون حاسما لعودة ترامب مثلما فعل مع فوز بولسونارو بالبرازيل
مهم هنا، الإشارة إلى أن دور التيار الإنجيلي المتنامي بقوة بالولايات المتحدة الأمريكية، ليس وليد اليوم، بل إن أصوله تعود إلى ما بعد نهاية الحرب الأهلية الأمريكية سنة 1861 ميلادية. بعد أن هاجرت مجموعات بروتستانتية في البداية من السويد وهولندا وسويسرا وإنجلترا وبلاد الغال إلى الشمال الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية، واستوطنت في البداية مدن بوسطن وشيكاغو، قبل أن تتوسع أكثر صوب الجنوب (خاصة فلوريدا)، ثم في بداية القرن العشرين صوب ولاية كاليفورنيا. ومن هناك غزت بتواتر كامل القارة الأمريكية الجنوبية، عبر موجات متوالية. حيث انتشر بقوة بالولايات المتحدة ما بعد أزمة 1929 المالية والاقتصادية الخانقة، التيار الخمسيني (الذي هو مذهب كنسي مسيحي)، انتهج توجها اعتبره إصلاحيا ضمن الكنيسة الكاثوليكية بخلفية بروتستانتية في البداية، أنتج ما يمكن وصفه ب "طوائف" المشيخيين واللوثريين والأنغليكان والمعموديين والمنهاجيين وهكذا. الذين أنضجوا ما يمكن وصفه بتيار الكنائس الخمسينية الإنجيلية، التي اهتمت بالاستثمار في ثلاث واجهات كبرى، هي مجالات التجارة (خاصة التجارة الصغرى والمتوسطة في البداية، ثم الأبناك بعد ذلك)، ثم في مجالات العقار، ثم في المجال الفني (خاصة الغناء، وبالتحديد الغوزبل بشقيه الأسود والأبيض، ثم منذ 20 سنة في مجال السينما والسلسلات التلفزيونية). قبل أن ينتقل إلى المجال السياسي الانتخابي، على الطريقة الأمريكية، حيث استهداف فوز أتباعه من ولاة الشرطة ومن السيناتورات ومن القضاة،، وهكذا.
رجل الظل الحاسم مايك بينس
لقد أصبح التيار الإنجيلي الأصولي المسيحي قويا جدا بالولايات المتحدة الأمريكية، اليوم. وخطورته كامنة في أنه يشتغل في الظل، ولا يتسابق للبروز في مقدمة المشهد العام. وهو الذي سيحسم المعركة لصالح ترامب، مثلما حسمها بالبرازيل لصالح بولسونارو منذ سنتين. دون إغفال أن هذا التيار الديني المتشدد والأصولي، المتحكم في الموسيقى والسينما والتلفزيون والتجارة والأبناك، من أشد المدافعين عن دولة إسرائيل، واتفاقية السلام مع الإمارات والاتفاقية المماثلة مع البحرين، ثم تلك المنتظرة والمعلن عنها مع السودان، ورقة مؤثرة ضمن حملة ترامب عند هذا التيار الديني الجارف هناك أكثر من اللوبي الإسرائيلي نفسه.
حظوظ فوز الجمهوريين أوفر بفضل شخصية ظل مثل نائب الرئيس مايك بينس
لهذا كله، وأشياء أخرى مرتبطة بالحصيلة الاقتصادية والمالية الهامة خلال الأربع سنوات الأخيرة، التي حقق من خلالها ترامب وفريقه نتائج غير مسبوقة على مستوى تقليص نسب البطالة، وإعادة شريان الحياة لقطاعات إنتاجية كبيرة (مثل قطاع السيارات)، هي التي تجعل كفة المرشح الجمهوري غالبة، رغم كل ما قد يقال إعلاميا عن أخطائه التدبيرية لمواجهة جائحة كورونا.
الذهنية الأمريكية مختلفة عن كل العالم، ولا يقاس عليها في اللعبة الانتخابية مثل الذي يحدث في باقي الديمقراطيات هنا وهناك. مع الإشارة إلى معطى جد مهم، هو أن تمة شخصية جمهورية أمريكية لها دور محوري في كل هذا المسار الانتخابي الأمريكي، بالخلفية التي حاولنا بناء تحليل حولها، هي شخصية نائب الرئيس الأمريكي مايك بينس. فالرجل مهندس حقيقي لكامل خطة الرئيس ترامب اليوم. لكنه بقي دوما في الظل، على ذات منهجية وتقنية عمل التيار الإنجيلي، التي تفضل الاشتغال في العمق وليس تحت فرقعات الأضواء. وقليلا ما انتبه إلى أن خرجات نائب الرئيس الأمريكي، خلال كل الحملة الانتخابية قد كانت قليلة جدا، ومحسوبة بدقة. والرجل ليس نكرة ضمن البنية السياسية للجمهوريين الجدد بالولايات المتحدة الأمريكية، فهو قادم من التيار المحافظ دينيا واقتصاديا. كونه برز أول ما برز سنة 1995، كمقدم برامج إذاعية وتلفزية دينية محافظة يوم الأحد، وأنه يعلن رسميا في موقعه التواصلي الخاص، أنه من أنصار تيار مجموعة "حركة الشاي" الجمهورية (المنتصرة لتوجه محافظ سياسيا واقتصاديا ودينيا)، وأنه يصنف نفسه أولا "مسيحيا" ثم ثانيا "محافظا" وأنه ثالثا "جمهوري".