يقال: "عالم بلا أطفال عالم متوحش"، لأن الطفولة مصدرُ أُنْسٍ ومُؤَثِّثٌ جميل لحياتنا الكالحة، نلمس ذلك داخل أسرنا، وفي مدارسنا، وفي كل زقاق وحي، فحيثما تجد الطفولة فاطمئن، فأنت في حضرة الملائكة، وعندما تتعثر مساعيك في العثور على أطفال، فاهجر المكان دون تردد، فربما يكون ذلك المكان موطنا راسخا للأرواح الشيطانية الشريرة التي لن تنجو من طائف لعنتها الأبدية.
في واقعنا المغربي، الذي تتخبطه النكبات على شاكلة باقي بلدان الوطن العربي الجريح التي لخص ممدوح عدوان نكبتها قائلا: "لم تعد بلداننا جميلة، ولم تعد علاقاتنا حميمة، ولم تعد قرانا موجودة، لم يبق أمامنا إلا صحراء من الإسمنت والدمار الذي سببه اقتتال الإخوة الأعداء، ونحن نركض في ذلك الهجير باحثين عن ظل أغنية أو قطرة شعر، أو نسمة طفولة"... في هذا الواقع، صَدَّرْنَا حروبنا إلى الطفولة، وحوّلناها إلى ضحية بشكل بئيس ومقزز لم نكن نتوقع فيه أننا سنجعل منها جرحا مفتوحا، وأننا سنتعاقد مع صدمات الاهتزاز على وَقْعِ الاعتداءات الهمجية المتكررة عليها، لم يخطر على بالنا يوما أننا سنودع إنسانيتنا إلى مثواها الأخير، وننصرف إلى حال سبيلنا دون أن نحتفظ ولو بجزء قليل من بقاياها، لم يكن أكثرنا تشاؤما يتوقع تعاقدنا مع الهمجية، وإقامتنا حلفا مدنسا معها، وأن تمتد بنا الدناءة إلى ارتكاب جرائم نكراء في حق ملائكة لا ذنب لهم سوى أن القدر رماهم في رقعة قد لا نبالغ إن وصفناها بالجحيم.
سنظل نتساءل، ونشعل السؤال من السؤال عن مصدر هذه النكسة الأخلاقية التي مُنِينَا بها، وعن سر هذه الوحشية التي سَكَنَتْنَا وسَكَنَّاهَا، وتعايشنا وإياها بشكل غريب، ولن نصل إلا إلى قطف مزيد من الحيرة والتساؤل، ولو أتينا على كل أسماء الاستفهام، وحَرْفَيْهِ، لأن المصاب أكبر من أن تحتويه اللغة بكل أساليبها وتراكيبها، بل هو السؤال المعلق الذي ستمارس علامة استفهامه تَجبُّرها علينا، ولن تقبل بالانزياح والانسحاب، وستبقى، بالمقابل، شاهدة على تقهقرنا واندحارنا الأخلاقي.
ربما وصلنا إلى نقطة اللاعودة بعدما تحولنا إلى ذئاب يفترس بعضنا بعضا، وتمتد أنيابنا لتجهز على طفولة جريحة، ولم يعد يحجزنا حاجز عن اقتراف جرائم الاعتداء عليها بدم بارد، دون أن يَنِدَّ لنا جبين، أو يعترض سبيلنا ضميرٌ صار مُبَلَّدًا معطلا، وفَقَدَ وظيفة الوخز والتأنيب، واكتفى بدور المتفرج السلبي على وحشينا الراسخة.
في انتظار صحوة مستبعدة، أقول لطفولة بلدي: عمي صباحا، وسنتركك بعد الصباح وحيدة تواجهين قدرك المشؤوم، قبل أن يأتي ليل بهيم، ربما سيعمر طويلا، ولن تجدي فيه، لينزاح ويتوارى، مناشداتنا له: "ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي...".