كما دأبنا على ذلك من قبل، نتابع التفاعل مع الخطاب الملكي في الذكرى 69 لثورة الملك والشعب، والتجاوب مع النقاش العمومي الدائر حول "مغاربة العالم"، للحديث عن شريحة اجتماعية من هؤلاء المهاجرين المغاربة (المنفيين) بفرنسا القاطنين بالتجمعات السكنية الجماعية/ أحياء سكنية يقيم بها العمال المهاجرون.. يتقاسمونها مع مهاجرين من جنسيات مختلفة..
لهذه الأحياء السكنية (Les Foyers de Travailleurs Migrants en France) خصوصية سكنية فرنسية-فرنسية، ليست كباقي المساكن الأخرى، ولا توجد مثيلاتها في باقي دول المهجر، ويرجع تاريخها لأيام فرنسا الكولونيالية.
نعم، فهي تؤلف تجمعا سكنيا متعدد الجنسيات من خمس أو ست طوابق أو أكثر.. توجد في كل طابق غرف منفردة صغيرة جدا (لا تتعدى مساحتها 4.50 م2)، ومراحيض صغيرة، وأحواض استحمام مشتركة، بالإضافة إلى قاعة متوسطة الحجم للطبخ، يوجد بها مخزن صغير، لكل قاطن بالحي، لترتيب وتخزين أغراض واحتياجات المطبخ من أواني وأطعمة وغير ذلك..
وتعتبر هذه الأحياء العمالية الذكورية 100% (التي أصبحت ملجأ للشيوخ Les chibanis) جزءًا من تاريخ وذاكرة العمال المهاجرين في فرنسا منذ عام 1945، حين وصلوا بمفردهم إلى فرنسا، بعد الحرب العالمية الثانية، لتعويض النقص في القوى العاملة الذي واجهته الدولة الفرنسية أثناء "الثلاثين المجيدة" (1946-1975) Les Trente Glorieuses..
خلال هذه المرحلة، شجعت فرنسا الهجرة الأجنبية والهجرات الكولونيالية التي كانت تخضع لمؤثرات سياسية واقتصادية داخلية وخارجية، ومن بينها الهجرة المغربية المكثفة في مرحلة أولى، ابتداء من عام 1960، حين كانت فرنسا، هي الأخرى، تمر بعدد معين من الأحداث السياسية التي حصلت منذ عام 1958 (فشل انقلاب 13 ماي العسكري وعودة الجنرال ديغول للسلطة، والنزاع الجزائري الذي كان قد أوشك على نهايته في بداية ستينيات القرن الماضي)...
ومع نمو الهجرة بسبب الحاجة الكبيرة إلى الأيدي العاملة، واجهت فرنسا أزمة سكن حادة، امتدت بشكل خاص إلى الفئات الأكثر حرمانًا مثل العمال المهاجرين الذين غالبًا ما كانوا يعيشون ظروفا بئيسة في الأحياء الفقيرة والبراريك والأقبية وردهات الفنادق ومدن الصفيح التي رأت النور على أطراف المدن الكبرى كباريس وغيرها (مثال ضاحية نانتير).
في سنة 1956، قررت الدولة الفرنسية تولي مسؤولية قضية إسكان العمال المهاجرين عبر خلق الشركة الوطنية لبناء المساكن للعمال SONACOTRA وتسمى اليوم "أدوما" ADOMA، ومع توافد العمال الأفارقة في هجرات متتالية، أُنشئت أحياء سكنية جديدة مثل "أفطام" AFTAM أو "سوندياتا" SOUNDIATA خاصة بهؤلاء، كما ظهرت أحياء جديدة أخرى في مدينة ليون وفي مدن أخرى، يديرها بصرامة ضباط متقاعدون أو مدراء من الشرطة الذين كانت لديهم وظيفة عسكرية (السرير يجب أن يكون في غاية الترتيب وقواعد صارمة حسب القانون الداخلي).
هذه الفضاءات، ظلت لأكثر من عقدين من الزمن مغلقة، تعكس الفوارق الاجتماعية القائمة بين العمّال المهاجرين وأبناء البلد، وتوحي بعدم الاستقرار والخطر وانعدام الأمن، وتعكس عقلية التمييز والاهمال، إلى أن اندلعت إضرابات الغضب منذ 1970، للمطالبة بأحياء سكنية إنسانية وأكثر أماناً وانفتاحا على المحيط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. وهو ما فرض على الدولة، ابتداء من 1995 الشروع في إحداث إصلاحات بهذه الأحياء وتحويلها إلى إقامات اجتماعية وبناء أحياء سكنية جديدة Des Résidences sociales.
ونحن نعتز بمضمون الخطاب الملكي الأخير، وما خلفه من صدى لدى الجميع، نغتنم هذه المناسبة لتسليط الضوء (من جديد) على هؤلاء المغاربة المهاجرين، الذين أجبروا على السكن في هذه الأحياء مؤقتا، لتصير غرفهم إقامة دائمة إلى حدود اليوم.. فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر ويقاوم الغربة، والعزلة، والهشاشة، وسوء التغذية، والحرمان العاطفي، والوضع الصحي والمادي والاجتماعي والنفسي الصعب، وفقدان الاستقلالية، بعد أن خاب أملهم في استئجار شقة لاستقدام عائلاتهم وأبنائهم الذين بقوا في البلاد، أو العودة لمسقط رؤوسهم..
إنها أسطورة حقيقية من المعاناة، أبطالها ليسوا سوى مغاربة اختروا أو أرغموا على الاغتراب والغياب المزدوج (لأسباب اجتماعية واقتصادية)، بحثا عن مستقبل أفضل، في الوقت الذي كان الجميع يعتقد أن هؤلاء سيعودون في نهاية المطاف إلى بلدهم الأم محملين بالنقود والهدايا، لذا حرموا من الإدماج، وظلوا على هامش بلد الهجرة والبلد الأصلي. هؤلاء لم يستطيعوا أن يصبحوا فرنسيين (لاعتبارات تاريخية واجتماعية وثقافية) ولا يشعرون أنهم مغاربة أيضا بسبب غيابهم الطويل عن مسقط رؤوسهم وعائلاتهم، مثلهم مثل العديد من المهاجرين من أصول مختلفة.
إنهم "منفيون" جدد..! لم توجه لهم أي تهمة باﺭﺘﻜﺎﺏ جريمة جنحية أو جنائية، ﻭﻟﻡ يحاكموا يوما ما.. ذنبهم الوحيد أنهم حصلوا على بطاقة الإقامة، ولم تكن لديهم النية ولا المقومات للبقاء في فرنسا، فنسجوا علاقة من التبعية الاقتصادية للبلد المضيف وللبلد الأصلي. فعندما يكون لديهم إمكانيات تسمح بإرسال النقود لأفراد العائلة، فهم لا يبخلون بِما أتاهم عرق جبينهم. ورغم حياتهم الصعبة، فهم ما زالوا يعتقدون أنهم مفيدون لعائلاتهم ولوطنهم. فهم اختاروا البقاء قسرا لعدة أسباب منها: عدم التمتع بتقاعد مريح يسمح لهم بالعيش في بلادهم قرب العائلة، مسؤولية إعالة الأسرة، الاستفادة من النظام الصحي، ألفة الأصدقاء. "المنفيون" الجدد.. أعمارهم تجاوزت 70 عاما.. يعيشون اليوم تحت هاجس خوف الموت بينما هم أحياء يرزقون..!
_______________________________
أستاذ التعليم العالي بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس
أستاذ باحث في سوسيولوجيا الهجرات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية