الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

فجري الهاشمي: رحيل جمال البراوي.. رحلتَ محفوفا بحب الفقراء

 
فجري الهاشمي
 
عِشرة عمر مع الفقيد جمال براوي ابتدأت حين تعرّفت عليه بمقر حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بمدينة آسفي سنة 1976، في فترة عرفت منعرجات سياسية كان فيها الاحتكاك المتواصل بيننا.
 
يصعب الحديث عن كل المحطات في مثل هذه اللحظة الحزينة، وأستطيع أن أقول إن مرافقتي له قرّبت كثيرا من تصوراتنا، ولذلك كنا نوجد دائما في نفس الموقع بل والموقف السياسي.
 
جمال براوي الذي رحل أعطى الكثير، لكنه أرهق نفسه في التفكير المتواصل في مستقبل هذا البلد ومستقبل اليسار.
 
التواضع غير المصطنع والإنصات الذكي من سماته، حين تتحدث إليه ينتبه إليك جيدا، ويختزن كل ما قلته ولا ينساه أبدا.
 
لم يستقر في وظيفة محددة، فمن الخزينة العامة إلى البنك المغربي للتجارة والصناعة (BMCI)، ثم المكتب الوطني للشاي والسكر، وبعدها غادر ليستقر في شركة تبيع الآلات الفلاحية، وكأنه كان يبحث عن نفسه، فجيناته لا ترتاح للوظائف، إلى أن وجد نفسه في ليكونوميست (L'Economiste)، وبعدها الحياة الاقتصادية (La Vie éco)، التي أصبح رئيس تحريرها... ثم سيساهم، إلى جانب ابن أخته بوبكر الجامعي، في تأسيس لوجورنال (Le Journal hebdomadaire)، و(الصحيفة)، وفي ما بعد سوف يتخذ مكانه في أسبوعية لاغازيت (La Gazette du Maroc)، وحين تقاعد تقاعدا بئيسا، عاد إلى إذاعة كمال لحلو (Radio MFM)، وقد كان نجمها بتحليلاته العميقة وبمعرفته الواسعة للشأن السياسي وللشأن العمومي.
 
لا يمكنك أن تعرف متى يجد الرجل الوقت ليقرأ، فاطلاعه كان واسعا ومذهلا، ولا ننسى أن تجربته التروتسكية لعبت دورا في تكوينه، ولم يكن جمال من الصحافيين الذين يهتمون بالهندام والأماكن الراقية، فتلك أمور لم تكن تغريه.
 
في إحدى المناسبات، زرته في شقته، التي كان يكتريها بالمعاريف، فوجدته يتهيأ للذهاب رفقة الصّبورة زوجته إلى موعد مع الأمير مولاي هشام، ومازحته "راك شيك بهاذ الكوسطار"، فقال "أخويا فجري هاذوك الناس تيبغيو هذا اللعيبات".
 
هذا الرجل صديقي التاريخي، كان يعرف الكبار بحكم موقعه وقلمه، لكنه كان مرتبطا بالناس الشعبيين، وكم كانوا يحبونه، لذلك أختم هذه الورقة القصيرة: صديقي رحلت محفوفا بحب الفقراء، وسوف يسألونني عنك، فلترقد بسلام وليرحمك الله...
 
جمال براوي والصحافة الحزبية
 
كتبت السيدة حنان رحاب، بمناسبة وفاة صديق الجميع المرحوم جمال براوي، أنه قبل أن يشتغل في الصحافة المستقلة، اشتغل في الصحافة الحزبية.. هذا المعطى في حاجة إلى التوضيح:
 
أولا: المرحوم جمال براوي درس بكلية الحقوق (شعبة الاقتصاد)، ولم يسبق له أن ولج أي معهد للصحافة.
 
ثانيا، لم يسبق لجمال أن اشتغل في الصحافة الحزبية، فأول بداية له كانت مع (ليكونوميست)، ومنها إلى أسبوعيات أخرى معروفة، وقد ذكرناها في ما كتبنا عنه.
 
ثالثا، إن جمال براوي كان في الشبيبة الاتحادية إلى حدود سنة 1976، لكنه حين انتقل من كلية الحقوق بالبيضاء إلى كلية الحقوق بالرباط، أصبح تروتسكيا وكان هو الرقم 2 في التيار بعد المرحوم محمد عياد.
 
رابعا، سوف تبدأ قناعات التيار تتغير ابتداء من أواسط الثمانينيات، حين قرر عياد مغادرة الاتحاد المغربي للشغل إلى الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وما تعرض له، نتيجة ذلك، من إقالته من مدير "لاراد"، وإفراغه من سكنه الوظيفي.
 
خامسا، بدأت قناعات جمال تتغير ابتداء من التسعينيات، لكنه لم ينخرط في الاتحاد الاشتراكي إلا في المرحلة قبل المؤتمر التاسع، الذي كان حاضرا لتغطيته إعلاميا، وكنت صحبته.
 
ولذلك. سيكون جميلا أن نحكي ما هو حقيقي في حياة الشخص، وأن نحرص على مصداقية كلامنا، وكما كان يقول المرحوم القاص المتمرد (محمد جبران) في لازمته (ليس من رأى كمن سمع).
 
وما دمنا لم نقل شيئا كثيرا عن جمال براوي، سوف أتحدث عن شجاعة الصحافي حين يتوفر علي وثيقة خطيرة، ويكون عليه أن يُطلع عليها الرأي العام، رغم المخاطر التي قد تتهدده.
 
وهذا ما حصل لجمال حين تمكّن من الحصول على وثيقة سرية كان المرحوم الحسن الثاني أوصى بعدم تسريبها. والوثيقة كانت عبارة عن دراسة أنجزها عدد من الوزراء حول الوضع الاقتصادي في المغرب، وهي وثيقة استبقت تقرير البنك الدولي، الذي استنادا إليه قال الحسن الثاني إن المغرب مهدد بالسكتة القلبية.
 
كان ذلك في سنة 1995، حين اتصل بي جمال، والتقينا قرب قاعة عبد الصمد الكنفاوي، حيث كان سيُنظم استقبالٌ للمرحوم الفقيه البصري. وحين جاء، أخبرني أن لديه وثيقة، code)) مهمة وسرية، وأنه يريدني أن أسلمها إلى المرحوم عبد الرحمان اليوسفي، بعد أن تحدّث إلي باختصار عن مضمونها، قلت له لا يمكنني فِعل ذلك، لأنه عليك أن تنتبه لأمر، فقد يكون للتسريب أهداف أخرى ومنها دفع عبد الرحمان اليوسفي للتراجع وعدم قبول التناوب في تلك الشروط الاقتصادية، فربما يكون ذلك هو الهدف، هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن حصول اليوسفي عليها قد يُفهم منه أن الحزب يتجسس على الدولة، وسوء التفاهم هذا كان من بين أسباب الصراع منذ 1959.
 
كان جمال مقتنعا بأن يقوم بمهمته كصحافي، ولذلك قرر نشر تلخيص للوثيقة في الأسبوعية التي كان رئيس تحريرها (La Vie éco)، وكان تلخيصا في اثنتي عشرة صفحة، لست أدري كيف قام بذلك العمل، خصوصا وأنه كان سيحضر لمؤتمر إعلامي بمصر، فصدر العدد من الأسبوعية وهو خارج المغرب، ووقع استنفار للأجهزة الأمنية، وجاءت "الديستي" إلى مقر الأسبوعية في غيابه.
 
وحين عاد من القاهرة كانوا بانتظاره، وتلك حكاية أخرى، والخلاصة: الصحافة شجاعة ومصداقية، وهي خصال توفّرت في المرحوم جمال براوي...
 
حين خدعني جمال براوي!
 
هي خدعة بيضاء أردت أن أتحدث عنها، فجمال الذي تشاهده في التليفزيون وتسمعه في الإذاعة وتقرأ مقالاته المكتوبة بفرنسية حديثة، كان كما يقول المصريون غاوي فقر، ولا تشعر بالفرق وهو يتوفر على مبلغ مالي كبير أو يكون خالي الوفاض، وقد أشار الصديق عبدالصمد محيي الدين إلى ما سماه بالعلاقة السوريالية لجمال مع المال، في ورقته حول رحيل جمال الذي ارتبط به كثيرا، وقد كنت أجدهما معا مرارا في مقهى (Le Petit Poucet).
 
خدعة جمال التي مازالت عالقة بذهني هي خدعة بيضاء لن يتجرأ أن يقوم بها معك إلا من يعرف أنك تحبه وأنك سوف تتحمله:
 
ذات مساء التقينا في مقهى (Les Arcades)، وكالعادة، فالصحافي الذي يقدّر مهنته ينام على آخر الأخبار ويستيقظ على أولاها، وتلك كانت ميزة من ميزات جمال، وهي الحرص على تتبع آخر التطورات، فالصحافي الذي يفاجئه الناس بالخبر أو يسألونه عن خبر ولا يستطيع إشباع فضولهم، يفقد سمعته كصحافي في عيونهم، هكذا كان حديثنا دائما حين نلتقي، لكنه ذلك المساء، قبل أن يغادر طلب مني أن أرافقه في الغد إلى مدينة آسفي، اعتذرت له قائلا (شوف أصاحبي أنا عندي مائة درهم، وخاصني نديبّاني بيها)، لكنه ألح علي وأصر مدعيا أن (كلشي على حسابي ما تخمّمش)، وهكذا اتفقنا على اللقاء في السادسة صباحا في محطة (الساتيام)، وحين وصلت في الصباح، وجدته بانتظاري وقد حجز تذكرتين، ثم عزمني لشرب القهوة، بعدها انطلقت الحافلة في الموعد المحدد، استرخينا كمن يريد أن يكمل نومه، وحين وصلنا إلى الجديدة، أخرج من جيبه ورقة نقدية من فئة 20 درهما، وتوجه إلي بالقول (خويا فجرى هذا هو راسْمالنا)، لم أستسغ الأمر وقلت له (والمعمول؟)، فقال بهدوء وهو يبتسم (راه آسفي كلها ديالك وصحابك صحاح ما يدوزوكش)...
 
كان جمال ذاهبا إلى آسفي لحضور اجتماع لـ(جمعية حوض آسفي)، التي كانت مقبلة على تجديد رئيسها، وقد أخبرني أنه سيدفع بإدريس بنهيمة، فآسفي من أجل تنميتها تحتاج إلى أطر نزهاء وأكفاء.
 
حين وصلنا إلى آسفي ذهب هو إلى اجتماعه، في حين رحت أنا لتدبّر مسألة إقامتنا، وطبعا كان جمال يعرف ذلك، بسرعة اتصلت بالمناضل الكبير المرحوم الحاج المرابطين، فجاء على وجه السرعة، رفقة المناضل الذي غادرنا مؤخرا المرحوم الأستاذ حسن محب، وتحركت الهواتف، فالتحق بنا مناضلون آخرون، وحين أنهى جمال مهمته، كنا جميعا في مطعم يوجد في الميناء، بعدها انتقلنا إلى أحد الأندية، وطبعا لكم أن تتصوروا تلك الجلسة أنه لقاء بين المركز والمحيط، وهذا الأخير لديه أسئلة كثيرة وعلينا الإجابة عليها ، وفي مثل هذه الأجواء يتفرع النقاش، ويتناول قضايا متنوعة سياسية واقتصادية وتنظيمية.
 
بعد الواحدة ليلا، ذهبنا لننام في منزل الحاج المرابطين، وفي الرابعة صباحا، أيقظنا وتوجهنا نحو المحطة، وفي السابعة والنصف صباحا كنا نتناول (السفنج) في شارع بير إنزران بالمعاريف، بعدها ذهب جمال إلى "لاغازيت"، بينما ذهبت أنا والحاج المرابطين للحضور في وقفة نظمها منتدى الحقيقة والإنصاف أمام المعتقل السري سابقا (الكوربيس)، الذي كان يوجد في مطار أنفا سابقا.
 
في الساعة الثانية بعد الزوال، التحقت بجمال بمقهى (السفانكس)، بعد أن أنهى عمله، الذي طبيعته أنه لا ينتهي، فالصحافة ليست مهنة المتاعب فقط، إنها مهنة المصاعب أيضا، فحين تكون على علاقة مباشرة بالناس، ليس لك أن تكتب بعيدا، وذلك يعني أن هناك فرقا بين الصحافي وبين الصحافي المناضل، فهذا الأخير يتحمّل، بالإضافة إلى الوصول إلى المعلومة وتفسيرها، القيام بمهمة التأطير السياسي، وهو ما كان يبرع فيه جمال براوي رحمه الله، أمرٌ تحدث لي عنه صديقي عبد الله مديد (أمس)، وهو بالمناسبة كاتب فرع الاتحاد بالمعاريف الذي اهتم جمال بتأطيره بأسلوب جديد.
 
ملحوظة: تكلّف المرحوم الحاج المرابطين بمصاريف إقامتنا ومصاريف عودتنا، والحاج المرابطين مناضل اعتقل مرتين، الأولى سنة 1964 في قضية شيخ العرب، والثانية سنة 1973 في قضية مولاي بوعزة، وكان مصدر إلهام لجمال، كما أن الحاج كان يفتخر بجمال، لأنه كان في شبيبة الحزب في آسفي...
 
جمال براوي والفكر النقدي
 
تطور الفكر النقدي في الغرب مع فكر الأنوار، وكان التأسيس عبارة عن مسلسل (Processus) ساهم فيه العديد من المفكرين والأدباء ورجال السياسة والقانون، لقد كان بناء عالم جديد يقوم على هدم العالم القديم... لكن النخبة العربية، لم تتمثّل هذه التجربة، لأنها اطلعت عليها في مرحلة الاستعمار، ومن ثم كان رفضها، ولم تعد تلك النخبة إلى جذور تطور الفكر الليبرالي، لقد رفضت الليبرالية وتوجّهت شرقا متأثرة بالثورة الروسية وبعدها الثورة الصينية...
 
كان الشباب في مرحلتنا يحلم بالثورة، وكان منحازا إلى تقديس الثورة الروسية، ولم يكن يسمح بالحديث عن عيوبها التي جسّدتها الستالينية، وكان أغلب الشيوعيين حماة القلعة السوفياتية، وظل الحال لمدة طويلة، ولم تبدأ المراجعات إلا ابتداء من أواسط السبعينيات حين ظهرت الشيوعية الأوروبية، التي أعادت النظر من طرف الأحزاب الشيوعية الغربية في التجربة الستالينية والسوفياتية عموما، وذلك رغم أن العديد من المثقفين انسحبوا في الستينيات من تلك الأحزاب، وكانوا من خيرة المفكرين (هنري لوفيفر وروجي غارودي وإدغار موران وريمون آرون...).
 
جمال براوي اكتسب الفكر النقدي ليس من الفكر الليبرالي الغربي، ولكن من اعتناقه للتروتسكية، وهي نظرية الرجل الذي كان من أقوى منظري الثورة الروسية (ليون تروتسكي)، بل إن تروتسكي كان، باعتراف كل الذين كتبوا عن الثورة الروسية، أكثر ثقافة من لينين، وتشهد على ذلك مؤلفاته القوية (تاريخ الثورة الروسية) و(الثورة الدائمة)، لكن تروتسكي سوف يُصفّى سياسيا (كما حصل للعديد من منظري الثورة الروسية) من طرف ستالين، وكان ذلك سببا في أن يقوم بنقد ومراجعة للثورة الروسية وهو في المنفى، وتمثل ذلك في كتابه (الثورة المغدورة). وباختصار، فقد كانت التروتسكية أول تجربة لفضح طبيعة نظام الحزب الوحيد وطبيعة الدولة البيروقراطية وكيف أجهضت الثورة تلك الدراسات النقدية هي التي كان التروتسكيون مشبعين بها في الوقت الذي تعرضَت التروتسكية لمحاصرة قوية من طرف الأحزاب الشيوعية، التي كانت تتهمها بالخيانة والعمالة.
 
وسوف يتطور تيارا تروتسكيا ثقافيا في فرنسا تزعمه مفكرون كبار مثل (إرنست مانديل وغيره)، كما عرف التيار بتواجد قوي في أمريكا اللاتينية، ويعتبر رئيس البرازيل حاليا لويس إيناسيو لولا دا سيلفا من زعماء التيار التروتسكي، الذين غيّروا مواقفهم وقبلوا الدخول في التجربة الديمقراطية (لقد كان للمرحومين محمد عياد وجمال براوي علاقة بلولا، وأتذكر أنه زارهما في سنة 1982، في الرباط، وكان جمال حينها يشتغل في بنك BMCI)).
 
ما يلفت النظر هو أن تكوين التروتسكيين كان قويا، فالتروتسكية نظرية نقدية للأنظمة الشمولية، وهي نظرية تفكيكية، ولذلك فاعتناق جمال براوي للتروتسكية وتشبّعه بها هو العامل الذي نمَّى لديه الفكر النقدي (من يطلع على مداخلته حول الأمازيغية سوف يكتشف الفكر النقدي لدى جمال).
 
على سبيل الختم: سنة 1989، كنتُ أقيم في المعاريف في منزل أختي (المناضلة المعروفة)، وكان جمال يسكن في نفس الحي، يفصل بيني وبينه شارع بير إنزران، وكان حينها يشتغل في المكتب الوطني للشاي، وكنا نلتقي يوميا، ويوم الأحد نذهب إلى الملعب (بجوجنا راجاويين). وفي إحدى المرات، طلب مني أن أشاهد معه في منزله مسلسلا جميلا كان بعنوان (Guerre secrète en pays neutre)، قضينا أمسية طويلة في متابعة أحداث المسلسل، وكان يتحدث عن الصراع بين الكاجيبي والغيستابو في سويسرا، بعد أن تأكدت المخابرات النازية أن معلومات خطيرة حول ما تخطط له ألمانيا كانت تصل إلى روسيا من شبكة للكاجيبي في سويسرا، وبذلك كثرت هزائم الجيش الألماني.
 
حين انتهينا، سلمني جمال كتاب بعنوان ("Sous le pseudonyme "Dora)، وهذا الكتاب ألفه رادو ساندور (Rado Sandor)، وهو الاسم الحقيقي فيما (دورا) هو الاسم الحركي، وهو من كلّفته الكاجيبي بتأسيس شبكة للتجسس على ألمانيا، انطلاقا من سويسرا. ورادو كان مناضلا شيوعيا هنغاريا، وتزوّج بمناضلة شيوعية ألمانية، كانت بمثابة روزا لوكسمبورغ، وقد نجح رادو في مهمته، ومكّن روسيا من معلومات تسببت في هزيمة الألمان، لكنه بعد الحرب استدعاه ستالين وزجّ به في سجن سيبيريا حتى لا يُعرف الدور الذي قام به، وقد ظل هناك مدة طويلة، وحين خرج، وجد زوجته قد توفيت، واطلع على العديد من الكتابات حول الدور الذي لعبته شبكة الكاجيبي في سويسرا في هزيمة الألمان، لكن رادو أكد، في مقدمة كتابه، أن الشعب الروسي بصموده هو من هزم الألمان، وذلك يعني تواضع المناضل الشيوعي، ورغم ما تعرض له على يد ستالين، فقد ظل مناضلا.
 
فهمت من الكتاب، حين قرأته، من أين أتى تواضع جمال، وكيف ظلت التروتسكية في أعماقه، ومتشبعا بمنهجها النقدي في ثقافته، وكيف كان ستالين رجلا دمويا، والنموذج هو ما تعرض له رادو، الذي كان يلقب بـ(دورا)...
 
جمال براوي والتحول السياسي
 
سنة 1992، كانت مفصلية في وعي النخبة السياسية الجديدة، بدأت حينها تتبلور ثقافة سياسية جديدة اعتقدت بضرورة تحديث المغرب والخروج من سنوات الرصاص، وهو النقاش الذي كنت منشغلا به أنا وجمال، وقبل ذلك مع المناضل حميد باجو.
 
سوف أرتّب تطور الأحداث حتى يفهمنا من يتابعوننا.
 
أولا، سقط جدار برلين بما يعني من نهاية القطبية القديمة، وانتصار العالم الحر، وبوضوح نجاح الليبرالية ممثلة في اقتصاد السوق.
 
ثانيا، خطاب المرحوم الحسن الثاني الذي أدرك مغزى هذا التحول وعبّر عن ذلك بوضوح حين قرر الانفتاح السياسي سنة 1994.
 
ثالثا، اختيار بيل كلنتون سياسة جديدة تدافع عن حقوق الإنسان ودور المجتمع المدني.
 
هذه المعطيات دفعتنا إلى التفكير في ما سيكون عليه المغرب مستقبلا، فالأكيد أن العوامل الخارجية، بالنسبة لبلد لا يتوفر على إمكانيات، لها تأثيرها. ذلك ما جعلنا نفكر في الطريق السليم لإنجاح الديمقراطية التي كانت متعثرة بفعل عوامل عديدة.
 
أول ما فكرنا فيه أنا وجمال هو خلق منبر يدافع عن التحديث، وقد اشتغل المرحوم جمال على هذا الموضوع وساهم في تأسيس (جمعية بدائل)، التي ضمّت خيرة الأطر، ومن بينها أذكر عبد العالي بنعمور والاقتصادي المرحوم إدريس بنعلي.
 
وسأذكر هنا أمرا مهما، وهو أن عبد العالي بنعمور كان قد أصدر كتابا مهما آنذاك (Le Maroc interpellé)، وكان كتابا يؤسس لمرحلة جديدة، وهي مرحلة تتجاوز أطروحات الدولة المخزنية القديمة.
 
سنة 1992، عرفت أيضا مجيء المرحوم عبد الرحمان اليوسفي على رأس الاتحاد الاشتراكي خلفا للزعيم التاريخي عبد الرحيم بوعبيد. اليوسفي رجل مرن ووطني غيور، ولذلك كان قد قرر التصويت على دستور 1992، ونعرف المؤامرات، التي حيكت لتعطيل مسعاه.
 
كنا ندرك، أنا وجمال، صعوبة انخراط النخبة، التي كانت تقليدية، وتتحكم فيها صراعات الماضي، وكان كتاب بنعمور قد تحدث عن دور سوء الفهم (Les Malentendus) بين الدولة والمعارضة، في تعطيل التطور السياسي للمغرب.
 
حين اصبح جمال براوي رئيس تحرير لأسبوعية (La Vie éco) تولّى مهمة النضال من اجل تحديث السياسة في المغرب.
 
لقد كان شابا انخرط في ميدان يحتكره العتاة، الذين شكلوا، خلال عقود، اليد اليمنى للدولة في الإعلام، أذكر منهم القيدوم عبدالله الستوكي، وكذلك الصحافي المتميز المرحوم سعيد الصديقي...
 
جمال براوي الشاب استطاع أن يحتل مكانه معهم، بل وفاجأهم، فلا مصلحة له سوى مصلحة تقدم الوطن، وقد عشت معهم، وكانوا يحترمونه، لأنه لم تكن له حساباتهم، بل حسابات الوطن، وكيف يتقدم الوطن خارج الصراع عن السلطة والتخندق بسببها، وأتذكر كيف غيّر الستوكي والصديقي مواقفهما من تجربة التناوب، والتحقا بركب الوطن أولا..
 
سيطول الحديث، لكنني سألخص: كان صديقي حميد باجو قد كتب كتابا بعنوان (بيان من أجل الحداثة)، على غرار ما كتبه المفكر السوري برهان غليون (بيان من أجل الديمقراطية).
 
كان صديقي حميد باجو قد طلب مني كتابة مقدمة الكتاب، وحين سلّمته لجمال براوي كتب افتتاحية في (La Vie éco) سنة 1996، للتعريف بالكتاب، وقد قال لي، في أحد الأيام، إن ذلك الكتاب قُرئ على مستوى عال...
 
الخلاصة: منذ بداية التسعينيات، تولد لدينا تصور جديد يهدف إلى تحديث المغرب، وهو أمر اشتغل عليه صديقي المرحوم جمال براوي بكفاءة ونكران ذات، ولم يكن في يوم من الأيام يسعى إلى مصلحة شخصية، ولأولئك الذين لم يعجبهم بوضوحه في كافة القضايا، فالرجل يسكن في شقة أجبره صديقه المناضل المعروف من حزب التقدم والاشتراكية محمد سؤال على شرائها منه. الرجل كان راضيا بفقره لأنه أحب الفقراء والله وليّه.
 
Sans rancune (عنوان مقال لجمال براوي)
 
عديدون لن يستوعبوا لِمَ كتبت هذه الأيام كثيرا عن جمال براوي.
 
كنت برفقة جمال في مقهى (بن ماما) ويدعى (L'USM) ليسييم (Union Sportive Marocaine)، وهو نادي قديم يوجد قرب ملعب (Stade Filipe)، هكذا كان يسمّى، والأصل أنه فريق لعب فيه بنمبارك المسمى بالجوهرة السوداء.
 
ما علينا، كنا أنا وجمال، وكان معنا المرحوم الممثل حسن الصقلي، الذي كان حبيبا للمغني عبد الهادي بلخياط، إلى درجة أنني أتذكّر أنه، في إحدى حفلاته، غنّى له وباسمه وبحضوره.
 
حسن الصقلي كان ممثلا رائعا. وفي سنة 1983، وكنت قد عدت إلى الدارالبيضاء، تعرّفت عليه برفقة عبد الهادي بلخياط، في مقهاه الذي يوجد في شارع علال بنعبدالله ويسمى (ralley) وهذا الشارع كان يسمى قديما (Rue de l'Horloge)، وفي هذا الشارع كان هناك مقر لحزبنا التاريخي ا(الاتحاد الوطني للقوات الشعبية)، وهناك اعتُقل مناضلو الاتحاد وحوكموا في ما سمي بمؤامرة 1963، التي حُكم فيها الفقيه البصري وعمر بن جلون ومومن الديوري بالإعدام.
 
كان ذلك استطرادا. لنعد الى موضوعنا في تلك الجلسة مع جمال والصقلي، رن هاتف جمال وتلقى خبرا مفاجئا، وفي ما بعد سوف يقول جمال إن المتصل كان حسن أوريد، وكان آنذاك هو الناطق الرسمي باسم القصر.
 
والخبر يقول إن الملك محمد السادس استقبل إدريس البصري في القصر الملكي بمراكش وأعفاه من مهامه مستعملا عبارة (Vous êtes limogé).
بعد تلقّيه الخبر، نهض جمال وقال لي سوف أذهب إلى الجريدة (خاصّني نكتب).
 
وفي ما بعد اطّلعت على مقاله بعنوان (Sans rancune)، وهو موقف شجاع... ربما كان ذلك المقال عتابا للدولة، فالرجل خدم المخزن بكل قوته.
 
مرت أيام ونحن نتحدث أنا وجمال عن هذا الموضوع، قلت له تفسيري في محاولة للفهم:
 
أعتقد أن المخزن قد يعطيك صلاحيات قوية، لكن بشرط أن تظل خاضعا لحساباته، وحين تتغول وتصبح لك حساباتك الخاصة، مشيتي فيها!
وبه الختام والسلام على روح صديقي الشجاع...
 
_______________________
إشارة: المقال عبارة عن تجميع لثلاث تدوينات كتبها تباعا على صفحته بالفايسبوك فجري الهاشمي صديق الفقيد جمال براوي (المحرر)