الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

صلاح الوديع: كلمات على جبهة الراحل آيت الجيد

 
صلاح الوديع
 
في انحناءة رأسه على كتفه العاري احتجاجٌ مكتوم، وفي استدارة وجهه صوب الوسادة تذكُّرٌ لماض قريب. لقد رآها تهوي. تلك الصخرة الفاجرة. رآها تهوي صوبه قبل أن تصيب جمجمته. تلك الصخرة المجرمة من تلك اليد المجرمة.
 
تكادُ تنز من بين شفتيه المنفرجتين كلماتٌ أخيرة، تلك الوصايا التي تبقى معلقة فوق جباه الناجين إلى الأبد. الكلمات التي تنز رويدا مثل قطرات دم ساخن من وريد الوداع، فتلخص حياة بأكملها. هذا الولدُ الراحلُ قبل أوانه لا ينسى. شاربه الرقيق خفيفٌ وعنيد. يريد أن يقول ها أنذا حتى قبل أن يحين أواني.
 
هذا الولد النحيف لم يكن يخاف سيف جلاديه. كان يرفض طأطأة الرأس لغير ضميره الحي. كان يعيد الدجالين إلى جحورهم. كان يعيد إرسالهم من حيث أتوا. كما يُعاد بريد شارد من حيث تسلل. كما يُرجع بريدٌ مقحم لم يطلبه أحد.
 
لم يكن جسمه النحيف يستطيع ضم روحه التواقة. لا شك أنك كنت تجده في كل منعطف. باسما. مطمئنا. مقبلا على يد يصافحها أو صدر يضمه أو مجلس يقول فيه كلام القلب.
 
لذلك كان آيت الجيد يقلق راحتهم. لا شيء يقلق النكوصيين المتاجرين بالدين أكثر من فكر متحرر. كان ضحيتهم النموذجية: شاب من الشعب. هذه كل نياشينه. لم يكن يمشي.
 
كان يرفرف. لم يكن يتكلم. كان يعزف. لم يكن يشير. كان يرسم. ذكي. جسور. مناضل. مرح. ومتفوق على أقرانه. يقول الحقيقة وقد صدقها. ويناوئ البهتان وقد كشف صفاقته.
 
لكأني بخصلات شعره الأشعث شاهدة على لحظاته الأخيرة. لكأني بوريد عنقه العاري يصرخ في وجه القتلة. حين رأى آيت الجيد الصخرة قبل أن تصطدم بجمجمته، أدرك أن رحيله قد أزف. لم يتأسف على شبابه الغض كثيرا قبل أن يسلم الروح. كان يعرف أن المجرم مهما تلفع بالحوقلات والبسملات، مجرم. كان يعرف أن أخطر المجرمين من يُلبسون جرمهم للقضاء بعد القدر.
 
على كتفة الأيمن شامة صغيرة. كان يخبئها لفتاته. كي تقبّلها وترعاها. لن ترعاها فتاته بعد اليوم. لكنه لن ييأس. سيبعث إليها برسائل الحب التي لم يكتبها بعد وقصائد الشوق التي لم يتخيلها بعد وعبارات الهيام الغض التي نسي أن يتعلمها هاهنا في عالم الأحياء.
 
سيرتاح قليلا قبل أن يركن إلى نفسه ليخط للحبيبة رسائل العاشقين، ويكتب كلمات المودة للناجين، وينحت في صخرة الضمير الجمعي وصية لكتابة الحقيقة والمضي نحو الآتي إلى أبد الآبدين…
 
لرفاقه الذين يجاورون الأربعين من عمرهم اليوم أمانة الشهادة. أيا يكن القاتل، وأيا تكن الدوافع.
 
أما الجبناء الذين أجهزوا عليه بصخرة عصفت بحياته، فقد أوكلهم لما بيننا من ضمير. وها هو آيت الجيد يقتص منهم واحدا واحدا وعلى شفتيه طيف ابتسامة، كأي مجرمِين يفتضح أمرُهم بين الناس الطيبين.
 
يوجد بين الملفات الموروثة عن هيئة الإنصاف والمصالحة ملف يحمل اسم آيت الجيد. لا زال ينتظر الإنصاف.
 
أما أنا فأضمك إلى صدري أيها الشاب المطلق. أيها الشاب الأبدي.
 
لك السكينة في قبرك المنفي في الفيافي رغما عن إرادة أحبابك، ولنا ذكراك.
 
13 نونبر 2013