عبد الهادي قشوشي: عبد القادر أزريع.. مات الرفيق.. بقيت شمائله
الكاتب :
"الغد 24"
عبد الهادي قشوشي
حصل أن تعرفت على الرفيق عبد القادر أزريع، ذات منظمة، ابتداء من أواخر 1985. ومنذئذ توالت اللقاءات وتوطدت العلاقة. مع ذلك، لا أزعم أنني أعرفه أكثر من الرفاق عبد الهادي الزوهري أو عبد الرفيق بورگي أو محمد بولامي.. أو من الرفاق والأصدقاء الذين تعايش معهم الفقيد وعاش وإياهم مختلف تقلّبات الزمن المغربي. معرفة متقطّعة في الزمان والمكان، مع الحفاظ، لمّا كنا نلتقي، تعفّفا وطبعا، على التماسك الضروري والمطلوب بين رفيق مؤسِّس و"فقيه" رمت به فتنة المرحلة من هناك (مراكش) إلى هنا (آسفي)، انتماءً وسكنًا. من هناك إلى هنا، كنتُ محظوظًا أنني تعرّفت على الرفيق نضالًا وعائلةً، واكتشفت، على مكث، الكثير من شمائله، أذكر منها في هذه الشهادة خمسة: الكرم، الصبر، ارتباطه العاطفي بآسفي، الحكي الممتع، والتواضع.
1- الكرم: فالرفيق كان يعطي ليعطي، لا بعوض ولا بسؤال. كان ذلك شأنه في كل الحالات والمواقف. وهو في ذلك كان على شِرْعة مولاي أحمد وامّي زهرة، وعلى منهاج البوتلاتش (... بمعنى الهبة، الهدية، وما تستدعيه من محفل في جو من الأبهة والمباهاة...) لدى بعض الشعوب، التي يصل الكرم في ثقافتها إلى أقصاه.
ففي ثقافة شعوب البوتلاتش "ليست القيمة العليا في ما تملك، وإنما في إبادة ما تملك بتدميره إلى اقصى حد..." (عبد الفتاح كيليطو، التخلي عن الأدب، ص 50). وأظن أن الرفيق عبد القادر أزريع ذهب، في هذا، إلى أبعد حد وأقصاه: صحته! أعطى كل شيء، ونسي أن يَحيى كما يفعل الناس، فخانه جسده في الوقت الذي احتاجه ليسعفه على العيش لنفسه حتى يأتيه اليقين. هكذا كان حتى آخره.
2- الصبر: أتعجب من أين يأتي الرفيق بكل هذا القدرة، التي أسعفته على الوفاء بالتزامات أكثر من عشر مسؤوليات باجتماعاتها وصخبها وصراعات أهلها، وبما كانت تتطلبه من إعداد، ومن تنقّلات بين المدن وداخل المدن. مسؤوليات تحمّلها بصبر ونضالية وتصوّف أحيانا، لا شك أن مقتضياتها لم تكن رحيمة به. كانت، فقط، تستنزفه في الزمان وتهيّء، في غفلة منا ومنه، كل أسباب وداعه المبكّر. لم يشتك يوما من إكراهات هذه المسؤوليات، ومن ضغوطات مختلف التسويات التي تقتضيها المرحلة. صبورا كان، ومتحمّلا، فوق كل ذلك، آلام الفواجع والمباغتات، التي عاشها "البيت الكبير". فمن وفاة إلى وفاة، كان يقف هو و"الخالة أم هانئ" (الصديقة الروائية زوجته السيدة ربيعة ريحان) كأنهما أنهيا كتابة رواية ويستعدان للشروع في أخرى. مرَّا معًا بمحن وآلام تربصات، وصمدا، معا، في وجه كل المباغتات... لكنه، هذه المرة، ترك غيره، رفاقًا وأصدقاءً، يستمرون في حكيه حيا: كان... وكان... ذِكْرًا وتذكُّرًا...
3- الارتباط العاطفي بآسفي: يسجل للمرحوم ارتباطه الوثيق بمدينته لغة وسكنا وعلائق. ومؤسف ما فعلت به هذه المدينة، التي أحبها أكثر من غيرها، شهورا قليلة قبل وفاته لمّا أتاها -وصديق له ابن نفس المدينة- بما يمكن أن تسفيد به ومنه في تحسين بعض أحوالها وأحوال أهلها، فلقي منها جحودا وتآمرا "غير" مفهومين. وكان الرفيق في موقف شبيها بموقف المعز بن نوالي في رواية "رفيف الفصول" لمحمد المعزوز، لما عاد من الغربة بحثا عن مدينة وجدة، التي ترك، وجدة الناس الطيبين، فوجد وجدة أخرى، وجدة "زازة" العاهرة بنت المخبر بولعيون، وابنها خيطانو، الذي لا يُعرف له نسب، وجدة خيطانو والغالية. تحولٌ، أو مسخٌ، أصاب المدن ومن نعرف وما نعرف، مدن أصبحت في عداد الخردوات والمتلاشيات. هكذا أصبح حال المدن التي أحببنا. تحمّل الرفيق جحود مدينته في صمت. واستمر، مع ذلك، في حبه لها حتى مات رحمه الله.
4-الحكي: من كل الرفاق الذين عرفت، لا أحد يتفوق عليه في هذا الأمر. كان حكّاء ماهرا في كل حالاته وأحواله. لم يكن يحكي عن الأشخاص. الحكي عن الأشخاص كان بالنسبة إليه من المحرّمات. كان يحكي عن الوقائع والأحداث والمواقف. يعيد بناء سياق هذه الواقعة أو ذلك الموقف، بمنهحية متماسكة التدرجات، بإيقاع يشد إليه المستمع في إمتاع ومؤانسة يحسن تدبرهما لغةً وحركاتٍ. وفي كل محكياته، كان الرفيق نبيلا وذا مروءة، يسمي الأشياء بأسمائها، ولم يسع يوما إلى تشتيت معنى الحقيقة، ذلك التشتيت، الذي كان يسمي مثلا عدم التفكير "استقامة"، أو كان يسمي الإخلال بالواجب نضالا، وهلم إفسادا للغة وقلْبا للمفاهيم...
5- التواضع: صفة رافقته إلى أن مات. فلا المسؤوليات التي تحمّلها، ولا المواقع التي حازها نضالا واستحقاقا، غيّرت طبيعته وعلاقاته مع رفاقه وأصدقائه، وأثّرت على الوفاء بالتزاماته الرفاقية والإنسانية تجاههم، سؤالا وزيارة، بهذه المناسبة أو تلك. وأشهد أنه طيلة المدة، التي عرفته فيها، لم يحصل أن تحدّث عن نفسه أو عما قام به تلميذا، أو طالبا، أو نقابيا وسياسيا. كان يرى ذلك واجبا وليس موضوع منّة أو مفخرة ومباهاة كما هو الحال عند غيره من المحدثين. كان، رحمه الله، يحسن الإصغاء في احترام تام لما هو معهود في هكذا مواقف. وحسب المأثور من القول، فإن "من يعرف أن يصغي يستطيع وحده أن يجعل من كلامه عمل اتصال. فالإصغاء هو العمل الأول للاحترام والتسامح الذي يجعل النقاش الديمقراطي ممكنا".
ثم... وأنت هناك أيها الرفيق، بين البين، تنتظر محاطا بالأصفياء: ها هنا العظيم تحفة (أحمد طليمات) والنبيل السي محمد بن المقدم، وهناك "الجنرال" الرمز (عبد الواحد بلكبير)، وعلى يسارك عبد السلام المؤذن والحسين كوار مع الآخرين... رحم الله الجميع، وألهم ذويهم الصبر الجميل. وعزائي الحار للصديقة ربيعة ريحان، ولأنيس وعبد اللطيف، ولكل من آل البيت الكبير...