صديقي الغالي، رفيقي العزيز، السي عبد القادر أزريع، كم هي مؤلمة لحظة الفراق، خاصة فراق أعزاء مثلك، فما ظننت أنني سأقوم اليوم لأرثيك، وبأي رثاء، هل برثاء الصديق لصديقه أم برثاء الرفيق لرفيقه؟ وفي كلتا الحالين، أحس بالحزن الدفين يسكن سويداء القلب، فأنت الذي ملأت دنيا أصدقائك ورفاقك حضورا دائما، وشغلت لقاءاتهم بحكاياتك وسرودك الشيقة والممتعة، التي لا يشق لك فيها غبار، ووزّعت البشاشة أينما حللت وارتحلت...
صديقي العزيز، صعقني موتك المفاجئ، كما صعق أهلك وأحباءك، فعسرت معه العبارة، وعمت وجداني الخسارة، وحاصرتني لواعج الكمد من كل جانب، فوجدت نفسي تغزوها، تباعا، الصور المنقوشة في أعماق كياني والساكنة في قعر روحي ووجداني، لتنهال علي الصور عبر شريط طويل من الذكريات المشتركة، بالأبيض والأسود، يعرض أمام ناظري غاراتنا الطفولية على الأشجار المثمرة في جنان المستاري، ونصبنا للشبكة لاصطياد طيور الحسون، والتنزه في مروج حقول (لحيان)، والحذر الشديد حتى لا نقع في قبضة (الحبيب) حارس لافياسون، وارتياد سينمات المدينة ومرافقة فريق الحي إلى ملاعب الجريفات وعزيب الدرعي والنخيلة وبوزاما، ومشاهدة سهرة السبت في التلفاز في بيتك العامر إبان نهاية الستينيات من القرن الماضي، والمناقشات الصاخبة والسمر في الليالي الصيفية الطويلة داخل دويرتك بزنقة النهج الواضح.
صديقي الكريم، اليوم أستعيد الصور المحفورة في ألبوم ذاكرتنا المشتركة، صورة المرحومة والدتك، أم زهراء، والدتنا جميعا، تلك التي أرضعتك حنانا دافقا، ومنحتك حبا سخيا لا أعرف لهما مثيلا عند كل أمهات خلانك، إنه "حب لا يتوقف عند الضوء الأحمر"، فأنت وأخوك كنتما، في حياتها، أعز ما يطلب. بيد أن هذا الفيض من الحب الاستثنائي كان يؤذي مشاعرك أمام أترابك، فكنت تثور عليه لتنفطم من "قساوته" لأنك شببت عن الطوق.
وإلى جانب الصورة السابقة، تسترجع ذاكرتي صورة الوالد المرحوم مولاي أحمد السرغيني بماضيه العسكري، وحسن هندامه، وبشاشته وطلاقة وجهه وعقلانيته في تدبير أمور أسرته، وجراءته في قول الحق.
فمن خلال صفات هاتين الشخصيتين وتربيتهما لك، برزت شخصيتك المستقلة، حيث متحت، مقتصدا، من الأم ما يلزم من حنو وحب الآخرين، وتشربت من الأب ما تحتاجه في مسيرتك النضالية الحافلة من إقدام وحزم واستقلال بالرأي وبشاشة أيضا.
ومن أمثلة حنوك على الآخرين ما قدمته لصديقك المرحوم أحمد الدويرمي القادم من البادية والذي لم يكن باستَطاعته متابعة دراسته إلا في مدينتك، فأويته في بيتك واعتبرته أخا لك، ونفس الأمر قمت به مع صديق آخر حينما طرده والده، إثر إضرابات التلاميذ في بداية السبعينيات، فوجد في بيتك أما تعطف عليه وأبا ينفق عليه لعدة شهور.
ومن أمثلة إقدامك وبعد نظرك والإيمان باقتناعاتك واستقلال رأيك، ما تبرزه الفقرات التالية: فمذ طفولتك وفتوتك، كنت زاهدا عن الألعاب والهوايات، التي تشغل أصحابك في الحي، مثل كرة القدم وركوب الدراجة والسباحة، إذ كرست كل طاقاتك إلى الاهتمام والانغمار في قضايا وحدة الوطن وديمقراطيته وتقدمه، ولذلك كنت سبّاقا على خلانك إلى ممارسة السياسة وركوب مخاطرها في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، كما سبقت كل رفاقك في الالتزام بمؤسسة الزواج لما اقترنت برفيقة عمرك أختنا الأديبة ربيعة ريحان، إذ استطعتما معا، بقوة إرادتكما وقوة حبكما وما آمنتما به من مبادئ في التحرر والمساواة والعدل، أن تقدما نموذجا جميلا وأصيلا لزيجة متفردة ومائزة.
رفيقي الغالي، من كل ما تقدم يمكن فهم التزامك النضالي، حين ولجت عالم السياسة، من بابها اليساري الراديكالي، فكنت تعرّف السياسية بأنها صراع الإرادات والطبقات والمصالح قبل أن تكون مبادئ وأخلاقا لتتبوأ المكانة التي تستحقها بالانغمار في كل الواجهات النضالية، التي قدمت فيها ما استطعت من تضحيات على حساب سعادة أسرتك وصحتك لتحقيق الوحدة والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان في بلادك.
فقيدنا الأعز، أمام مصيبة الموت، التي هي الحقيقة الكبرى في الحياة، أدعو لك بالرحمة والمغفرة، وبالصبر الجميل لزوجك أختنا ربيعة ولابنك أنيس ولأخيك عبد اللطيف ولكافة أصهارك وأصدقائك ورفاقك.
والسلام عليك يوم ولدت ويوم غادرتنا إلى دار البقاء...