الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

دعوات المقاطعة.. و"تَوهّمُ القفزة العجيبة"

 
محمد محيفيظ
 
لم أقتنع يوما بدعوات المقاطعة.. حتى في عز أيام سرقة صناديق الاقتراع بعد قطع التيار الكهربائي...
 
لا نعرف ولا تجربة واحدة، لأي شعب من الشعوب (وأؤكد ولا تجربة واحدة) تقول لنا إن المشاركة في المعارك الانتخابية، حين تتاح، لا تصح إلا بعد أن تتوفر كل مقومات النظام الديمقراطي في صيغته المثلى...
 
هذا سبب أول.. لنقل إنه تاريخاني..
 
دعوات المقاطعة لم تستهوني أيضا لسبب ثانٍ.. منهجي هذه المرة..
 
كنت كلما تأملت الحجج الجدية، التي يقدمها الداعون إليها، وجدتها تصدر منهجيا -حتى وإن لم تع ذلك- عما يمكن أن نسميه "توهم القفزة العجيبة"..
 
إنه التوهم الذي يؤمن بأنه سننتقل يوما من حالتنا الحاضرة البئيسة هذه (من منظور المأمول ديمقراطيا)، دفعة واحدة، إلى مرحلة مستقبلية ننعم فيها بديمقراطية مكتملة.. هكذا بقفزة... نبيت في حال ثم نصبح في حال!
 
في انتظار ذلك، لا نغمس أيدينا في وحل الحاضر، نحافظ على طهرانيتنا وعذريتنا حتى اليوم الموعود...
 
هذه نظرة تجهل، أو تتجاهل دروس التاريخ الإنساني الحديث، ذلك أن الديمقراطية، بخلاف مطالب أخرى كالحرية أو الكرامة، لا تُختزل في مجرد مطلب... بل هي -بالنسبة للشعوب- تربية وممارسة، وكأي تربية وتمرّن فهي تفيد من نجاحاتها وفشلاتها.. هي تمرين تراكمي يرتقي به الشعب عن طريق ممارسته، يتعلم من خلاله، بل بكيفية جدلية، يتعلم حتى من انحرافاته... ينخدع، يتعثر... ثم يستخلص الدرس وينهض (لذلك لم تتحقق الديمقراطية الحديثة دفعة واحدة، بل هي حتى الآن، في الدول التي تعتبر ديمقراطية ما زالت تسائل نفسها وتصحح ذاتها كل مرة).
 
ولأن الخبرة الديمقراطية مسار طويل ومتعرج، فإنه يتساوق مع التحولات المجتمعية والتربوية المطلوبة ويتحصن بها (مستوى التعليم، الديمغرافية المدينية وبروز الفرد، تحرر المرأة، وضع الأسرة، وضع الاقتصاد...).
 
الشعوب التي تراكم خبرة، بهذا المعنى، تتقدم على المستوى التاريخي، حتى وإن عاينا، في هذه اللحظة أو تلك، تعثرا أو انكفاءً أو مظاهر مرضية مقيتة..
 
بالمقابل، فإن الشعوب التي لم تراكم هذه الخبرة، لأسباب مختلفة، تضيّع كل الفرص التي قد تسنح لها...
 
قد ترفع مطالب الحرية والكرامة.. وتبدي شجاعة بطولية في سبيلها، وقد تنجح في تدمير النظام الذي يجثم على صدرها، ثم تجد نفسها -بعد أن يتحقق لها ذلك- عاجزة على ربح معركة البناء الديمقراطي... لأنها تواجه مهمات البناء الديمقراطي عزلاء (قارن نجاح التحول الديمقراطي في أوروبا الشرقية بما جرى في المنطقة العربية منذ 2011)..
 
أليس هذا هو الدرس الكبير لما يسمى بالربيع العربي؟!