الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم
الرسم مرفق بالمقال المنشور في صحيفة "لوموند"

التحول الحتمي للهيئات السياسية.. هل أتى زمن نعي التنظيمات الحزبية الكلاسيكية؟

 
محمد محيفيظ
 
 
نشرت صحيفة "لوموند"، منذ أيام (عدد 2 أكتوبر 2021)، مقالا يستحق قراءته بعناية واهتمام، حول دلالة التحولات التي تعرفها التنظيمات الحزبية بفرنسا. عنوان المقال "Au temps des partis mutants"، وقد حررته الصحافية Anne Chemin.
 
ومع أن الأمر يتعلق بتشريح لوضع الأحزاب بفرنسا، فأهميته للقارئ المغربي المهتم بالتحولات السياسية عندنا، حاصلة ومؤكدة، أقله من جهة تزويد هذا القارئ بحالة مفيدة للمقارنة.
 
ينطلق المقال من تأكيد معاينة واضحة: لم تعد الأحزاب، كما تشكلت وكما عهدنا دورها ووظائفها وتأثيرها، منذ نهاية القرن التاسع عشر، وخاصة مع عصرها الذهبي في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي، (لم تعد الأحزاب) قادرة على الاستمرار بصورتها المعهودة تلك. الشاهد الأخير على ذلك، انتخابات 2017، التي جعلت الأحزاب الكلاسيكية، يمينا ويسارا، لا تحصل، مجتمعةً، سوى على ربع أصوات الناخبين، بعد أن كانت تسيطر بالمطلق على كل المؤسسات التمثيلية. كما أن بعض استطلاعات الرأي (مثل استطلاع Cevipof السنوي) قد أظهرت المستوى المتدني لمنسوب ثقة الفرنسيين في هذه الأحزاب، إذ وضعتها في أسفل الترتيب.
 
بالمقابل، ظهرت "أحزاب" جديدة، مثل الحركة التي يقودها ماكرون، أو تلك التي يقودها ميلنشون. المقارنة تُظهر اختلافا واضحا في الكثير من المميزات بين الأحزاب الكلاسيكية وهذه التنظيمات الوليدة:
 
ففي الوقت الذي كانت الأحزاب الكلاسيكية تتميز ببنية تنظيمية قارة ومهيكلة بتراتبية واضحة، نجد الأحزاب الجديدة تضيق بهذه الهياكل التنظيمية إلى درجة أن البعض أطلق عليها صفة الأحزاب السائلة أو الغازية. بل هي تنفر حتى من أن تسمى حزبا، وتفضل عوضا عنها "حركة".
 
وإذا كانت الأحزاب الكلاسيكية تُدمج، بشكل واضح وإن كان بتفاوت، مناضليها داخل الحياة السياسية والتنظيمية، فإن هذه الأحزاب الجديدة ترتبط بشخص زعيمها أو مؤسسها، ولذلك تعتمد قيادةً مُقلصةً، مع غياب كلي أو شبه كلي للكوادر الوسطى. وهي تربط الأنصار، الذين لا يُطلب منهم سوى نقرة على الحاسوب ليصبحوا أعضاء في الحزب، بهذا الزعيم، مع استعمال مفرط للوسائط الرقمية عوض اللقاءات الحزبية في المقرات والمؤتمرات...
 
لقد أضحت هذه الأحزاب، بتعبير أحد الدارسين، عبارة عن "رئيس زائد إنترنت".
 
أصبح الانتماء الحزبي، بالتالي، باردا، يفتقد لتلك المسحة الاجتماعية الحميمية التي كانت تميز الانتماء الحزبي، وهو ما يلاحظ أن حركة مثل "السترات الصفر" قد حاولت تأمينه والرجوع إليه.
 
الملاحظ، كذلك، في سياق رصد التحولات، أن الأحزاب هجرت تماما مجال تشكيل المخيال الاجتماعي والسياسي، حين هجرت السجال الإيديولوجي النظري والمذهبي. فنظرا لافتقاد هذه الأحزاب الجديدة لأعضاء أوفياء دائمين، فإنها أضحت تتصرف كمقاولات تتنافس للحصول على حصّتها من سوق الناخبين، فتتبنّى مطالب لترضية هذه الفئة من الناخبين، ثم تتبنى مطالب أخرى لترضية فئة أخرى... وهكذا، دون صياغة رؤية متكاملة أو أفق موحد. قد تكتفي برفع شعارات كبرى مثل الحرية أو المساواة أو السيادة الوطنية من جهة، ورزمة من الالتزامات الإجرائية من جهة أخرى، بدون صهر كل ذلك في صياغة نظرية ومذهبية تضمن التماسك والانسجام بين المستويين.
 
وقد كان من نتائج هجر مجال التناظر الإيديولوجي، تنطّع بعض المتخصصين في السجال (Des polémistes) للقيام بهذه المهمة، كما نلاحظ في حالتي إريك زمورÉric Zemmour وميشيل أونفري Michel Onfray.
 
هل علينا أن نستخلص من كل ما سبق نعيا للتنظيمات الحزبية، والجزم بأنها في طريق الانقراض؟
 
يتحفظ المقال على هذه الخلاصة، إذ يعتبر أنه لحد الآن يستحيل تصور استمرار الديمقراطية التمثيلية دون أحزاب. كما أنه يعتبر أن بعض مميزات الحركات الحزبية الجديدة هي مميزات مؤقتة مرافقة لمرحلة الولادة والتأسيس، وأنها بالضرورة ستعود إلى بعض ما كان يميز الأحزاب الكلاسيكية (مثلا غياب الهيكلة التنظيمية القارة). الخلاصة الأقرب إلى التصور إذن، أن الحقل الحزبي سيعرف إعادة صهر أو تهجين بين التجربة القديمة وهذه التجارب الجديدة.