اليسار والمتعة لدى ميكائيل فوسيل.. في معنى أن تكون يساريا وأن تتمتّع في الوقت نفسه
الكاتب :
"الغد 24"
محمد محيفيظ
انتهيت مؤخرا من قراءة كتاب "الحيّ الأحمر: اليسار والمتعة (أو اللذة)" (Quartier rouge: Le plaisir et la gauche)، الذي صدر في فبراير 2022، لمؤلفه الفيلسوف والكاتب والصحافي الفرنسي ميكائيل فوسيل.
ونظرا لجدة موضوع الكتاب وطرافته، إذ لم يسبق لي أن صادفت عملا يناقش هذا الموضوع من قبل، ارتأيت التنويه به هنا.
موضوع الكتاب هو التفكير، من زاوية فلسفية وسياسية، في علاقة اليسار بالمتعة.
طبعا، أول سؤال يتبادر إلى الذهن، وقد طرحته أنا نفسي حين سمعت بصدور الكتاب، هو: وهل فرغنا من كل المشكلات التي يتخبط فيها اليسار، لننشغل بعلاقته بالمتعة؟
الاطلاع على مضامين الكتاب يكشف، وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع أطروحاته، وبعضها يمكن التحفظ عليه، كما ألمح إلى ذلك الزعيم اليساري الراديكالي جان لوك ميلنشون في الحوار، الذي جرى بينه وبين المؤلف على صفحات مجلة Philosophie magazine (عدد مارس 2022)، قلت تكشف مضامين الكتاب عن جدية الإشكال وتعقده.
علاقة اليسار بالمتعة علاقة مفارقة: من جهة، يميل اليسار إلى التوجس من كل استسلام أمام لذات هذا العالم الظالم، وقد يرى فيها تصالحا أو تواطُؤًا مع لذات تافهة تخدر الفعل الثوري وتجهضه (خذ مثلا موقفَ الكثير من اليساريين من الشغف المستمتع بكرة القدم مثلا، أو عندنا موقفَ بعض اليساريين من مهرجان موازين منذ بداياته الأولى)، وهو ما يؤدي إلى ما أسماه والتر بنيامين بـ"كآبة اليسار".
لكن اليسار، من جهة ثانية، هو احتجاج على كآبة مجتمع الاستغلال ووعد بالفرح، ودعوة للحرية والجمال (هذا فرق فيصلي بين اليسار والجماعات النكوصية عندنا مثلا).
يشير مؤلف الكتاب، الفيلسوف ميكائيل فوسل، إلى أن انتباهه لهذه المسألة واهتمامه بها، انقدح بعد ملاحظته لأشكال النضال الفرحة أو الخالقة للمتعة في مدارات الطرق السيارة، التي أبدعتها حركة السترات الصفراء، ثم الحدة السياسية والاجتماعية التي اكتستها متع صغيرة، كالتنزه والجلوس في ساحات المقاهي والحانات، ولقاء الأصدقاء، مع تنزيل قيود الطوارئ الصحية مؤخرا.
لتفكيك عناصر الإشكالية، يوظف فوسيل معرفته بتاريخ الفلسفة ليكشف عن الرهانات النظرية والعملية الثاوية خلف أي موقف من اللذة أو المتعة (مناظرة روسو/ فولتير، أو مناظرة دولوز/ فوكو مثلا)، كما يوظف المعطيات التاريخية التي تكشف ملابسات مواقف مختلف الأطراف السياسية من المسألة، سواء في اليمين أو في اليسار، بدءا من التقاطب الذي عرفته الثورة الفرنسية بين جناح "متجهم" (روبسبيير) وجناح لذوي أو هيدونوزي (دانتون، الجيرنديون)، مرورا بعناصر من برنامج كومونة باريس، وصولا إلى حركة ماي 1968 وغيرها...
هذا التركيب النظري الغني هو الذي يعطي للكتاب أهميته في نظري...