عبد القادر الشاوي.. مبدع متعدد بجبّة فنان وشفافية الإنسان
الكاتب :
"الغد 24"
حليمة زين العابدين
كيف الحديث عن رجل يشبه الكتاب الموسوعي، أبوابه كثيرة تقود إلى مداخل لا حصر لها وقد نتيه في شعابها، وقد لا نسمع فيها نفس الكلام الذي قالته لمن طرقها قبلنا، ولن تقول ذات الكلام لمن قاربها بعدنا أو بالموازاة معنا... هذا عن المشبه الكتاب الموسوعي، فكيف الأمر بالنسبة للمشبه به، وفيه يكون وجه الشبه أقوى وأكبر وأعمق؟!
لا، لا ليس ادعاء أو مغالاة ما أخبرتكم به... عبد القادر صديقي على امتداد اثنتي وأربعين سنة، مذ كنا طالبين جامعيين في نفس الشعبة، أنا من خارج السجن وهو من داخله، نتقاسم الكتب والمراجع وكراسات المحاضرات... انتهى زمن السجن وبقينا الأصدقاء الرفاق... خذلتنا السياسة، أو ربما خذلناها، وبقي الإنسان والفكر والإبداع يجمعنا، وصداقة شخنا ولم تشخ...
مبدع متعدد هذا الرجل، روائي، شاعر، باحث وناقد أدب، حكيم، مفكر سياسي، رسام، موسيقي، مترجم إبداع من الإسبانية إلى العربية. مناضل يساري حداثي... إعلامي أصدر مجلتي "على الأقل" و"الموجة"، وجريدة "الميدان".
شاعر تكتبه القصيدة ويكتبها
مادام الشعر عطاء روحيا، لا نِتاجَ تعلُّمٍ، حسب رأي ديكارت، والشعر ضمير عالم أتى وعالم سيأتي، ولأن الشاعر لا يحلم، بل يوقظ أحلامنا...، أبدأ بالشاعر، عبد القادر شاعر. وشاعر ليست صفة مجازية، إنه شاعر تكتبه القصيدة ويكتبها، قصيدة نبض مشاعر تلقائية جياشة، تتصارع فيها الحياة والموت، وتنتصر الحياة فيها دائما... قصائد فيها التسامي وفيها الحب، فيها صفاء الإنسان وفيها تجليات نزوع صوفي، ذاك الذي قال عنه أبو الفتح البُستي:
ولست أمنح هذا الاسم غير فتى//صفا فصوفيَ حتى سمي الصوفي
قصائد كثيرة، منها ما كُتب قبل اعتقاله، ونشر بعضها وهو في الثامنة عشرة من عمره في جريدة "الكفاح الوطني"، ومنها ما كُتب داخل السجن، ومنها ما كتب بعد خروجه من السجن، لكنه، حسب علمي، لم ينشرها في دواوين، ولا أعرف السبب.
يقول في قصيدة عنوانها مراقي السهاد:
أزليٌّ غريب ما أزال
كأني أعرف أن آخر التيه بلادي ولا أعرفني
وكأن هذي البلاد التي داهمتني
في كل ما ترى من غياب.
هذا الإيقاع الشعري، بموسيقاه وصوره وانزياحته، لا تخلو منه أي رواية من رواياته، ليصبح الشعر المهيمن كتعبير وكصيغة أسلوبية في روايته الحديثة الصدور "بستان السيدة"، وهي، إن وسمها بالرواية، ففي ذلك كثير من الانزياح، فالسرد الشعري، أو الشعر المسردن، حسب تعبيرات نقاد السرديات، هو المهيمن في بنية الخطاب لهذه الرواية، وينطبق عليها الوصف التي أعطت حنان الداودي، الشخصية في ذات الرواية، لكتاب تترجمه من العربية للفرنسية، قالت إنه حكاية شعرية، أو قصيدة طويلة... رواية قصيدة، هي كذلك رواية "بستان السيدة"، وقصيدة طويلة من 166 صفحة.
والسيدة صاحبة البستان، شاعرة أصدرت ديوانين، تناثرت أسطر وجمل شعرية منهما على طول متن الرواية. حنان الدوادي انتحرت وبقي السارد يبحث بين كلمات رسائلها عن سبب إنهائها لحياتها بتلك الطريقة المفجعة...
لم أكن أود أن أتحدث عن عبد القادر الشاوي الروائي الآن، لكني وجدت "بستان السيدة" في طريقي، فخلخلت خطتي لتقديم هذه الورقة...
الروائي والسجن الموشوم في الذاكرة
لا بأس، فليست الكثافة الشعرية ما جعل هذه الرواية مختلفة متنا حكائيا ومبنى عن سابقاتها، ولا طريقتها الجديدة، إن لم أقل المبتكرة، في التعاطي مع الأحداث وتواليها، بل غياب ذاكرة السجن منها، باستثناء تلك الجملة السردية المتخفية في جلباب السرية، جاءت على لسان حنان الداودي في إحدى رسائلها: "أنا هي تلك الفتاة الصغيرة التي كانت تزور سليم في ذاك المكان المعقد والسهل في آن... هل فهمت". وكأن "بستان السيدة" هروب ذاكرة محفورة الوشم بمعول عوالم سجن، مدَّ ظلالَه على الأربع روايات السابقة عليها.
سهل أن ندخل السجن، وصعب أن يغادرنا السجن. ثلاث عشرة سنة عاشها عبد القادر الشاوي في غياهب المعتقلات، ما بين كهوف سرية تحت أرضية بلا لمعة ضوء، تعذيب وحشي وطعن متوالي الضربات في جوهر الكرامة. بعده حطٌّ الرحال في سجن يختنق من العفونة، عفونة الزمان وعفونة المكان، وتعذيب همجي من صنف آخر. ثم بعد انتظار كفكاوي وإضرابات عن الطعام مميتة، تأتي أدوار محاكمة هتشكوكية توزع الدهر أعواما من حبس على شباب حَلَم فقط، فتنقيل إلى سجون تتقن تدمير ما بقي من شظايا إنسان...
كل هذا لا يمكن أن يعاد تخييله ليفرغ في رواية واحدة مهما كبر حجمها... بل الحقيقة، أن ثقل مأساة السجن تنشر خيامها لحظات كل كتابة يكون الانفعال والمعاناة محرِّكَيْها...
"كان وأخواتها" كتبت في السجن. السارد معتقل والكاتب معتقل والمسرود عنهم معتقلون. وجاءت الرواية انفجار غصة من اندثار حلم بناء مجتمع العدالة الاجتماعية والكرامة وحقوق الإنسان، ومن الواقع، الذي آل إليه حال الرفاق في المعتقل... عمْر ضاع وشباب خلف القضبان يئن تحت مئات الأعوام من السجن، تحولت حياته إلى زعامات تطيح بزعامات، وانشقاقات تخرج من رحم انشقاقات. انتشار جنون الزعامة وجنون الانكسار. وكشفت الرواية، في جرأة كبيرة، أبعاد النقص المحمل به الفعل الماضي "كان"، في تجربة الاعتقال السياسي، وفي زمن كانت هذه التجربة محاطة بهالة من القدسية. وجاء البوح أو الكشف فيها أساليب متنوعة، تشد القارئ من وثاقه، وهو يلهث جريا وراء توالي الواقع والأحداث...
فيلسوف في جبة فنان
بعد سنة من مغادرة الأديب عبد القادر الشاوي للسجن سنة 1989، تصدر له رواية "دليل العنفوان"، نص سردي من غير تحديد لجنسه، سماه بعض النقاد سيرة ذاتية، وسماه البعض الآخر سيرة رواية أو سيرة تخيلية. وأنا أقرأها، كنت وكأني أشاهد فيلما عن حياة واحدة مصورة من زاويتين، زاوية يمسك الكاميرا فيها طفل يتلقط بعفوية ما يمس حياته من وقائع، والزاوية الأخرى يصور منها شاب يهدم ما صور الطفل، يبنيه من جديد ثم يعيد تصويره ليظهر ملء الشاشة زمن الاعتقالات، سبعينيات القرن الماضي...
وفي هذه الرواية، أو السيرة التخيلية، ينكشف سر ذاك البعد الصوفي في قصائده وفي بنية خطاب رواياته. فالسارد، في "دليل العنفوان"، بدأ مراهقته مترددا على حلقات الذِّكْر والأمداح النبوية، كما تعرف على مرشدين دينيين ينشرون تعاليم الدين الإسلامي السمحة، المحبة والخير والسلام. ويبقى السؤال، هل التسامي الصوفي في كتابات عبد القادر الشاوي وليد خيال أو نتاج ترسبات قراءة، أم هو تجربة عاشها، فرسمت وجدانه مراهقا، قبل أن يتحول في شبابه إلى ثوري يساري؟
سنة 1994، ومثل "دليل العنفوان" في شكل بنية الخطاب أو حبكة النص، جاءت رواية "باب تازة" بميثاق كتابة واضح، يسعى إلى تشييد الفواصل بين المتخيل والواقع، ينطلق فيها السارد من عوالم سبقت معرفتُها، باب تازة المدينة الجبلية، في منطقة كتامة، تعاني الفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعي والانغلاق الجغرافي، يعيد تخييلها. وفي "باب تازة"، محمد المكوتي وابنه الخارج لتوه من السجن بعد اثنتي عشرة سنة قضاها في السجون والمعتقلات. ومن باب تازة إلى مدينة تطوان واندلاع أحداث سنة 1984... مظاهرات واعتقالات وسجون، وهكذا تنفلت الذاكرة المثقلة بسجنها من رقابة السارد.
سنة 1999، صدرت رواية "الساحة الشرفية"، زوبعة أو كالزوبعة تقول للجميع إن زمن المراجعة قد دنا، تُراجِع الماضي. تنتقد أيام الدرب والخيانات، التي قال بها الجميع مثلما قالوا بالصمود. نقد للأفكار يشبه الخروج عن ملة الجماعة، التي لم تكن بعدها إلا الردة... حديث عن بعض الزعامات المضجرة. إشارة إلى كثير من التفاهات... لا تسرد البطولات التي يرويها الآخرون عن الماضي. تعيد بناءها، تركَّب الشخصيات بطريقة سينوغرافيا متلاحمة، واعية بخبايا الذات الإنسانية، بحوافزها الوجودية والاجتماعية والوجدانية والثقافية، وبإبداعية مثيرة ومشوقة...
عبد القادر الشاوي، هذا الفيلسوف في جبة فنان... طرائقه في إعادة كتابة العالم، عالمه، والعوالم المحيطة به لا محدودة التنوع.
مسارات إنسانية وقضايا يعيد تخييلها سردا فنيا في روايات، أو تأتيه فيض انزياحات ومجاز تتوالد منه قصائد شعرية، وأحيانا يراها خياله ألوانا وخطوطا، يتفجر سكونها عباراتِ وكلاما في لوحات تشكيلية.
إنه رسام أيضا، أنتج العديد من اللوحات الفنية... وموسيقي، حين يعانق عوده أو قيثارته، يتدفق صوته رخيما، بمواويل ناس الغيوان والشيخ إمام ومارسيل خليفة، أو يصدع سجيا بآهات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وغيرهما...
ويبقى الأجمل من كل هذا عبد القادر الإنسان، نبل وسخاء نفسي، وروح مهووسة بالعناد، لا يستسلم للهزائم، لا يذعن للمرض... ينشر الفرح حيثما حطت روحه المرحة الرحال...
_________________
(نص الكلمة، التي ألقتها الكاتبة والروائية حليمة زين العابدين، في حق الكاتب الكبير المتعدد، عبد القادر الشاوي، ضمن فعاليات المعرض الجهوي للكتاب، الذي كانت احتضنته مدينة الناضور، في دسمبر 2018، وكان ضمن فقراته تكريم الكاتب عبد القادر الشاوي، إضافة إلى الكاتب محمد أقضاض...)