كتاب "يوميات الزغبي المنحوس، مذكرات يساري مغربي".. محمد فكري أو الذاكرة المتقدة
الكاتب :
"الغد 24"
علي القرشي
قد نعتبر كتاب محمد فكري "يوميات الزغبي المنحوس، مذكرات يساري مغربي، من أيت وابلي إلى درب مولاي الشريف" تحفة أدبية، تاريخية، وفوق كل ذلك، تحفة إنسانية، فماذا يمثل هذا الكتاب بالنسبة إليَ إنساناً ينتمي إلى الجيل نفسه الذي ينتمي إليه محمد فكري؟
حين قرأت الكتاب، شعرت بأن محمد فكري ينوب عنا، نحن معشر جيله ورفاقه، في تجربة الاعتقال، وفي الاضطلاع بمهمة شاقة وعظيمة، هي مهمة تسجيل هذه التجربة ونقلها إلى من عاشوها رفاقا له، ومن لم يعيشوها كذلك، فالتجربة، بفضل فكري، صارت ملكا للجميع، فجميع من خاضوها واكتووا بلهيبها ينوب عنهم محمد فكري، ويقوم مقامهم في نقلها إلى الأجيال الحالية والقادمة. هذه التجربةُ الفريدةُ، والتي زادتها الكتابة قوة ونصاعة وفرادة، قيض لها كاتب موهوب، وقد ظلت موهبته طي الكتمان وفي حالة كُمون، والكُمون لمدة تناهز نصف قرن من الزمان، وهو العمر النضالي لمحمد فكري، لكن عمره الإنساني يتجاوز ذلك كثيرا، فقد رأى النور في سنوات الأربعينيات من القرن الماضي، في واحة أيت وابلي، ثم انتقل طفلا لأولاد عمران بزعير قرب الزحيليكة، ولكن طبعه التواق إلى الحرية والانطلاق، والذي لازمه منذ نعومة الأظفار، ومايزال حتى الآن، دفعه إلى الهروب الأول من زعير إلى آيت وابلي، بجنوب المغرب، لا تعلقا بالجذور فقط، ولكن، بالأساس، بحثا عن الحرية، وحب الحرية عند محمد فكري منغرس في كيانه ووجدانه، وقد أدرك منذ سنه المبكرة فداحة وجود الاستعمار الفرنسي وسيطرة المعمرين الفرنسيين الذين اغتصبوا أجود الأراضي من مالكيها الأصليين، والذين اضطروا إلى الهجرة قسرا إلى ضواحي المدن الكبرى ليقطنوا بمدن الصفيح.
إن الاستقلال الناقص، الذي ناله المغرب، بعد مفاوضات "إيكس ليبان"، حتّم على القوى الوطنية والتقدمية مواصلة المسيرة التحررية لاستكمال الأبعاد الديمقراطية والاقتصادية والثقافية للاستقلال، وهي الأبعاد التي كانت وماتزال من مساعي القوى التقدمية والشعبية، ولكنها لم تكن قط من مساعي القوى المرتبطة بالاستعمار الفرنسي، والتي كانت مصالحها وماتزال مرتبطة بالقوى الاستعمارية التي خرجت من الباب لتعود من النافذة، وهذه المرة بقبول وطواعية من بعض أهل الدار، وهكذا كان، فالنضال تواصل والتضحيات تترى وتتعاظم، وهذه السيرة ـ المسيرة لمحمد فكري ورفاقه، هي العنوان الأبرز لهذه المرحلة، وقد تكرست في سيرته ونضاله بالهروب من زعير إلى زاوية تمنار، وبعدها إلى مراكش.
شكل الاستقرار للدراسة بتمنار، ثم بمراكش المحطة الأولى الأبرز في مسيرة محمد فكري النضالية، فقد تفتحت مواهبه السياسية والنضالية على الزخم الذي أفرزه حدثان مهمان، يتمثل أولهما في الاستفتاء على الدستور الممنوح لعام 1962، وثانيهما الانتخابات البرلمانية الأولى لعام 1963، وقبل هذا الحدث وذاك كان انفصال التيار التقدمي اليساري عن حزب الاستقلال وتأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. كان التيار الوطني التقدمي يحمل في طياته جرثومة الانقسام بين التيار التقدمي الجذري بقيادة الشهيد المهدي بن بركة ومشروعه المؤسس على الاختيار الثوري وقوامه المجلس التأسيسي وصياغة الدستور المنبثق عن الإرادة الشعبية والتيار النقابي الذي لم يكن مواليا للنظام ولكنه كان مهادنا له.
هذا هو الخضم الهائج المائج الذي ترعرعت في أتونه الطاقة النضالية لمحمد فكري وللجيل الذي يكتب عنه ويؤرخ له، ورغم التضحيات الجسام التي قدمها ذلك الجيل والذي قبله، فإن تعقيدات النضال الاجتماعي تختلف نوعيا عن النضال ضد الاستعمار على الرغم من وحدة التضحيات، فقد عجزت القوى الوطنية التقدمية عن تحقيق الأهداف المتوخاة من نضالها وتضحياتها نظرا لانعدام ما سماه أنطونيو غرامشي بالكتلة التاريخية، فالقوى الوطنية لم تتمسك في مفاوضات إيكس ليبان أولا، وفي مفاوضات مدريد مع الاسبان ثانيا، بضرورة الاستقلال التام والناجز، وهو تحرير سبتة ومليلة والجزر الجعفرية وتحرير الصحراء التي كانت واقعة تحت الاحتلال الاسباني.
إن الاستقلال التام والناجز لا يعني تحرير الأرض فقط، بل تحرير الانسان من براثين الاستعمار، ومن هيمنته الاقتصادية والثقافية والسيادية، وهي أهداف لم تتحقق، وكان لزاما على القوى الوطنية التقدمية أن تواصل المسيرة النضالية لاستكمال مسيرة السيادة والاستقلال, في هذا المعترك، لا أقول وجد فكري نفسه، بل انخرط في هذا المعترك عن طواعية واقتناع، ونذر نفسه وحياته له، وهو واع بالعوائق التاريخية؛ السياسية والفكرية والإديولوجية التي حالت دون تحقيق القوى التقدمية والشعبية لأهدافها السامية في الاستقلال التام والناجز وانتخاب المجلس التأسيسي وصياغة الدستور المنبثق عن الإرادة الشعبية. أمام هذه الحواجز والعوائق بدأت التململات الأولى وسط كل من الحزبين التقدميين؛ الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والحزب الشيوعي المغربي، وهي التململات التي أفرزت لاحقا المجموعات اليسارية الراديكالية.
سيرة محمد فكري وأسلوب الكتابة
حين نقرأ هذه السيرة ـ المسيرة، لابدّ أن نفكر في الأهداف التي خطها فكري لنفسه حين أزمع الكتابة، وإذا لم يكن فكري قد سطر هذه الأهداف صراحة، فعلينا أن نستنتجها ونوضحها، ولذلك، ربما، كان طرح السؤال التالي مشروعا: لماذا اختار محمد فكري السيرة والمسيرة الذاتية تحديدا لبيان فعله في الماضي وأثره في الحاضر وتطلعه نحو المستقبل؟ أباختياره السيرة الذاتية يكون حضور الذات طاغيا ومؤثرا؟
إن الإجابة عن هذا السؤال الأخير؛ أي مدى حضور الذات، وليس الحضور كما هو الغياب، فلا يعقل أن تغيب الذات في أي سيرة ذاتية، ولكننا نحن الذين أسميناها سيرة ذاتية، فهو لم يسمها إلا مذكرات أو يوميات، وفي هذه المذكرات أو اليوميات مدار الأحداث فيها تحضر الذات الفكرية (نسبة إلى فكري)، فهو الراوي أو السارد الأساسي، ولكنه ليس الفاعل دوما، فهناك فاعلون في الأحداث، وأحيانا صانعون لها، وجميع هذه الأحداث بمنظور فاعليها وصانعيها مصاغة في قالب سردي ـ سيري، والسؤال: ما هي مقومات هذا الأسلوب؟
يسعفنا العالم اللساني الروسي يوري لوثمان في تحديد نوعين من النمذجة التي تقوم بهما اللغة الإبداعية: ويمكن استبدال الإفراد بالجمع: فتكون هناك لغات طبيعية، وأخرى إبداعية، وكتاب فكري؛ سيرته ومسيرته يدخل ضمن هذا النوع الثاني، ونحن بهذا الاعتبار ندرجه ضمن الأعمال الأدبية الإبداعية. لم يكن صاحب هذا الكتاب معروفا إلا أنه مناضل محترفٌ، ولا يحمل الوصف، هنا، أية دلالة قدحية، فاحتراف النضال مثل احتراف الشهادة سواءٌ بسواءٍ. ولكنه فاجأنا، وأخففُ، حتى لا أعمم، لأقول إنه فاجأني، باعتباره رفيقا شاركته والرفيق لحسن مصطفاوي في سجن عين علي مومن الفلاحي زنزانةٌ واحدةٌ، بهذه الباكورة الإبداعية، بل الوليمة الإبداعية، فقد مكنني في أول لقاء به بعد أكثر من ثلاثين سنة من الخروج من السجن من هذه التحفة الإبداعية، التاريخية، النضالية، الإنسانية.
أوضحنا في هذه الفقرة بأننا بصدد كتاب إبداعي، ولعل صديقي العزيز المصطفى جباري في مداخلته أن يوضح لنا طبيعة الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه كتاب محمد فكري والأسس الإبداعية التي ينهص عليها، غير أني أقحم نفسي في هاته المتاهة، فأرى أن فكريا حين أزمع تسجيل هذه السيرة ـ المسيرة، وبتحفيز من رفاقه وأصدقائه طبعا لم يعتمد على مذكرات تمهيدية سابقة، ولكنه اتكأ بالأساس على ذاكرته التي هي بالحتم ذاكرة غنية ووقادة مشحونة بالأحداث والذكريات، ولم تنتظر إلا المناسبة السانحة لتفجر عطاءها. وربما، يطرح، هنا، سؤال: هل الأحداث في السيرة مطابقة لنظيرتها في الواقع أم أن هناك اختلافات تفرضها طبيعة اللغة؟
لا تنقل اللغة الإبداعية الوقائع كما هي، بل تلونها وتضفي عليها ملامح جديدة، ولكنها لا تغيرها من الأصل، وهكذا نرى أن اللغة تختصر الزمن أو تعطله أو قد تلغيه، ولذلك لا نجد تطابقا بين الزمن السردي والزمن الحكائي، فهناك فرق بين المتن الحكائي والمبنى الحكائي كما أسس لذلك الشكلانيون الروس. قد يعمد الكاتب إلى الإطالة والتمديد، كما قد يعمد إلى الحذف أو الاختصار، وهي جميعها تقنيات متبعة في الخطابات السردية، ورغم أن فكريا هاوٍ إلا أنه مسلح بعتاد الكاتب المحترف المتمكن من أصول الصنعة، ويستحق كتابه ليس وقفة، وإنما وقفات متأنية لست أهلا لها.
وقبل الختم، لابدّ أن أشير إلى مسألة مهمة بدت لي، من خلال قراءة كتاب فكري، وهي مسألة الأسلبة، فلا شك أن لفكري رصيدا ثراً من الأدبيات السياسية والفكرية والإيديولوجية، والصراع الذي دار ومايزال يدور له سجلات وخطابات كلامية يمتحُ كل واحد منها بقدر طاقته واستطاعته، وقد نهل منها فكري بدون شك، ولكنه في كتابه هذا: "مذكرات الزغبي المنحوس" استطاع أن ينحت له مجرىً خاصا ومستقلا إلى درجة تقربنا من القول المشهور للكاتب الفرنسي جورج بوفون: "الأسلوب هو الإنسان نفسُه"، ولا يقتصر الأمر على أسلوب الكتابة، بل يشمل أسلوب الحياة المتسم بكثير من الاستواء والتواضع والنزاهة ونكران الذات، وهي خصال تقربُ فكري من زُمرة القديسين الأتقياء.
أما طبيعة لغة فكري وكونها كما يبدو وسطا بين العربية الفصحى المعيار والعامية المغربية، فأمر لا أتطفل عليه، ولعل أخي ورفيقي العزيز محمد فكري أن يطرح على نفسه هذا السؤال: لماذا كتبت نثرا ولم أكتب شعرا، وهو سؤال وجيه عاناه وعالجه صديقي العزيز الأستاذ قاسم مرغاطا في أطروحته للدكتوراه عن "سرود العرب"، فالشعر مقدم تاريخيا على النثر، ولكن النثر مقدم نوعيا عليه، مما يجعل النثر مُقدما درجة على النثر في سلم الرقي والتحضر، وعلى هذا، فالكتابة نثرا أصعبُ وأعقد من الكتابة شعرا، وهذه المسألة نسبية، فكثير من عباقرة الأدب برعوا في الكتابة شعرا ونثرا، وهذا هو شأن شاعرنا الكبير محمود درويش، فهو شاعر وناثر من الطراز الأول، ونثره يضاهي شعرَه قوة وبلاغةُ.