أحمد حبشي: صفاء ووفاء.. شقيقتي التي كدّت وكدحت بكل نبل إنساني
الكاتب :
"الغد 24"
أحمد حبشي
زرت اليوم شقيقتي، وانتبهت إلى أننا لم نلتق منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات. كعادتها كان اللقاء بالنسبة لها أهم من عتاب طافح بالمرارة عن طول مدة الغياب، ولا ما قد أقدمه من أعذار حول أسبابه. كان العناق حارا أحسست معه أن حنينا دافقا يملأ روحها ويرفع من وتيرة أنفاسها. الاستقبال كان باذخا يلفه انشراح، لم نقو على إخفاء مشاعر طافحة بكل معاني المودة والاشتياق. جلست وأنا أضمها إلى صدري بينما هي تضع رأسها على كتفي، يصلني وقع أنفاسها ووتيرة نبضها. أخذت إحدى ربيباتها من حين لآخر تسأل نجلاتي، اللواتي كنّ في رفقتي، عن تفاصيل آخر لقاء وما تواعدن عليه، تبادلن الأعذار بكل ما يحيل على تعدد الانشغالات وضيق الوقت، وإكراهات التنقل في مدينة ضاقت بما حملت وتعددت مشاكلها. تعالت الضحكات صاخبةً ولَفّنا حبورٌ دافق.
في قرارة نفسي، كنت أجاري تأنيبا يحاصرني، كيف تمتد مسافة الغياب دون أن يرف لي جفن، أو تهزني الحسرة على ما اقترفته في حق أنبل إنسانة عشت وأياها تحت سقف واحد منذ أن عرفت نور الحياة. فضائلها الجمة لا تحصى بكل المعايير، التي أعدت للقياس. لا شيء كان يلهيها عن خدمة الآخرين. كانت آخر من يستفيد مما تكسبه من عرق جبينها، تكتفي بما تحدده الوالدة وتختاره لها، كنا نحن الذكور الأربعة أولى منها في كل مستحقات الحياة. أربعة إخوة ننام جميعا فيما تسهر هي إلى جانب والدتي حتى يستكملا كل ما نحن في حاجة إليه. تقضي يومها في ورشة النسج التي كانت الوالدة تعتمد مردود إنتاجها، في تسديد بعض المصاريف عند اقتناء ما كان الوالد يعتبره لا ضرورة له أو يتقشف فيه زيادة على اللزوم، فكل ما يزيد عن تجاوز شظف العيش لا يستحق منه أي اهتمام، وهو ما كانت الوالدة ترعاه خصوصا بعد ما تجاوزنا مرحلة الطفولة، وصرنا لا نقبل بما دون ما كان في حوزة أقراننا. ازدادت متاعبها بعد أن توفي زوج أختي البكر، وأصبحت تعيش معنا وأبناؤها الأربعة، ثم أبناء خالي بعد أن صار جارا لنا. حِمْل تضاعف وزره وتعددت مشاكله، وأصبح الأمر أكثر تعقيدا وتدبيره يحتاج إلى الكثير من الحيطة والحذر، حتى لا تتدهور العلاقات ولا يصبح البيت مسرحا لتجاذب أقطاب. فقليلا ما كان هذا الجمع الغفير يحضر لاقتسام وجبة، خصوصا وجبة الغذاء التي تعتبر دون غيرها أساسية. كان المنظر مثيرا والوالدة تحيط بها دزينة من الأواني مختلفة الأشكال والأحجام، تصب فيها نصيب كل واحد من الغائبين عن مائدة الغذاء، والأخت إلى جانبها تذكّرها بأسمائهم حتى لا تغفل اسما أو تستصغر نصيبه من وجبة يكثر فيها المرق ويغيب عنها أحيانا ما كانت الوالدة تحرص على أن توزعه علينا في نهاية الوجبة بقسطاس، حيث نلتزم جميعا بأن لا نمد أيدينا إلى قطعة اللحم المدفونة وسط ركام من الخضر السابح في بحر من المرق. كان الحرص شديدا على تناول أكبر كمية من الخبز. حيث كانت الوالدة تحرص على توفير ما يكفي ويزيد عن الحاجة من الخبز الذي يساهم بقدر كبير في تحقيق الاشباع. كنا أحيانا ننقسم إلى مجموعتين إذا كان الوالد بالبيت، حيث كانت مجموعة الذكور تحظى بالقسط الأكبر من الوجبة في حضرة الوالد.
عودة الوالد إلى البيت تحول أحاديثنا همسا وإشارات حذرة. نظهر الاستقامة والانضباط، خصوصا حين يطيب له أن يحدثنا حول أصول الدين ومعاناة الأنبياء وكيف واجهوا كل المعيقات في نشر الدعوة وتقريب الناس من طاعة الله. وكثيرا ما كان يغالب الدموع وهو يقارن بين المشاق والمحن التي تكبدها الرسل في سعيهم لتجنيب الخلق من غضب الخالق. يعزز كلامه بآيات من القرآن الكريم، لم نكن نقوى على تصحيح تلاوته ونطق كلماتها ولا شرحها بغير معناها. بعد أن أصبحنا على دراية ببعض أصول الدين وفق ما كنا نتلقاه في المدرسة.
كنت أحس أنه يخصني والأخت بحدب لافت، يختارني لمرافقته للسوق ولأداء الصلاة بأحد المساجد، كان معجبا بالفقيه الذي يؤمّ الصلاة، وبما يقدمه من دروس في الوعظ والإرشاد ما بين العشاءين، يجالسه جمع غفير من المصلين. لم نكن نغادر المسجد بعد صلاة العشاء دون أن يأخذني الوالد لنقبل يدي الفقيه. استعدت كل هذه اللحظات في الكثير من تفاصيلها، وأنا أستحضر ما قدمته الأخت لنا من خدمات، وما كان يميزها من خصال في صيانة الود وربط الأواصر. لا أحد منا يشبهها في عطائها الدافق وامتثالها المتواصل، كانت سندا لوالدتي وعونا لكل أفراد الأسرة. لم تلج المدرسة ولا ولجت كتابا، فالأعراف كانت تحث على إعداد الفتيات ليكن ربات بيوت. لم يُكتب لها أن تستقر في بيت الزوجية إلا بعد أن تجاوز سنها الأربعين. فشل زواجها الأول الذي كان من تدبير الوالدة وإحدى الجارات، التي اختارتها عروسا لأخيها الأرمل بعدما ماتت زوجته وتركت وراءها طفلا في حاجة للعناية. لم تدم فرحتها أكثر من شهور معدودة قبل أن تعود إلى البيت خاسئة متذمرة. تم طلاقها كليلة زفافها في صمت كما كان يرغب العريس. لا أحد علم بتفاصيل الطلاق ودواعيه. استقبلت بصمت وفي صمت انتهت علاقة ولم تستوف عامها الأول. استعادت نشاطها بالبيت قبل أن تلتحق بأحد المعامل لنسج الزرابي التقليدية بأجر أسبوعي محدود.
توفي الوالد بعد أن عشنا فترة عصيبة تخللها سوء تفاهم كبير بينه وبين الوالدة، ساند أغلبنا الوالدة، فكان رد فعله أن قاطع جميع أفراد العائلة إلا أنا واختي الفاضلة، من حيث تظاهرنا بالحياد في صراع كان أصعب علينا من أن نتموقع فيه، أصبح الوالد شديد التوتّر، يشك في كل ما يقدم له كطعام، انعزل في إحدى الغرف لا يغادرها إلا لتجديد الوضوء. اكتسبت ثقته بعد أن جادلته بكل جرأة واحترام، دافعت عن الوالدة وحافظت له على كرامته، فكان أن صرت أكثر قربا منه في الاستجابة لطلباته وفي تحضير متطلباته، يناديني باستمرار حتى وهو يعلم أنني أشتغل بعيدا عن البيت ولا أعود إلا في نهاية الأسبوع. كانت الأخت تنوب عني، تمده بكل ما يحتاجه، تقابله للحظات في غرفته بعد عودتها من معمل النسيج حيث تقضي يومها كاملا.
ظل الوالد على هذا الحال إلى أن وافته المنية مساء ذات يوم أحد، بعد أن ظل يردد اسمي وقد أصابه وَهَن كما أخبرت لحظة وصولي، حيث أسرعت لمقابلته والوقوف على ما هو في حاجة إليه. حين دخلت الغرفة واقتربت منه، كان ممدّدا في فراشه، وظهره مسنود على الحائط، ناديته مرات قبل أن أرفع يده لأتأكد أنه فارق الحياة. كتمت صرختي وهرعت لإخبار الوالدة بوفاته. أكدت علينا الوالدة أن نلزم الصمت حتى تغيّر ملابسه وتتخلص من كل ما تعلق بها من قاذورات، وتغير رائحة المكان. انتظرنا أكثر من ساعة ثم أعلنا يصخب وفاة الوالد وتعالى نواحنا. الْتفّ حولنا الجيران في حركية طافحة بالمؤازرة وكل مشاعر المودة، حددوا في ما بينهم ما يجب القيام به، وزعوا الأدوار بما يخفف عنا أعباء مراسيم الدفن وكل واجبات استقبال المعزين. كان لكل ذلك وقع بليغ في توطيد أواصرنا، استعدنا صفاء أيامنا وما تركه الوالد من عميق الآثار. ظلت الأخت بعد وفاة الوالد المعيل الأول لأعضاء أسرة يزيد عدد أفرادها عن العشرة، إذ لم يلبث أن توقف راتبي على إثر اختطافي والزجّ بي في السجن بتهمة المس بأمن الدول الداخلي والانتماء لمنظمة سياسية محظورة تسعى لقلب النظام السياسي وتغيير معالم الدولة القائمة، وأصبحت الأخت المعيل الوحيد، إلا ما كان يجود به خالي، الذي ظل سندا للوالدة في كل الأحوال...