في اليوم العالمي للمسرح.. الركح في مخيالي الطفولي.. الحَلقة: مَجَرَّةُ "الجَاوي"
الكاتب :
"الغد 24"
منعم وحتي
إن للدائرة سحرا بديعا ليس فقط عند علماء الرياضيات، بل أيضا عند التشكيليين والمهندسين والصوفيين والشعراء والراقصين، ولها موقع مركزي حتى في موروثنا الثقافي، حيث تحلو وتستطيب حواريات السرد وتبادل الأحاديث ونحن متحلقون حول نار الاستدفاء أو مائدة دائرية الشكل عادة للأكل، أو دائرة لعبة الورق و"الضاما"، وحتى في ألعابنا الطفولية، تنتصب الدائرة سيدة المكان والزمان، ورائدة لهو الصبى، بل يمتد سحرها حتى فضاءات الجامعة، حيث السجالات الفكرية والتنظيرات العميقة كانت تتم من داخل دوائر النقاش والطلبة متحلقون على خطيب مُفَوَّهٍ يمتلك في الغالبية جاذبية خاصة عند المتلقين، فهو تراث شفاهي غني جدا.
من كل الدوائر السحرية، كانت إحداها الأكثر امتلاكا لكينونة صباي، كان ذاك الطفل الذي كنته أسيرَ عشقِ فضاء الحلقة الشعبية، ذاك المسرح البديع الذي كسّر جدرانه ليحلّق بعيدا عن كبس الأنفاس في العُلب المغلقة، مسرح الشارع بامتياز، لا تذاكر تقطع، لا برتوكول للدخول ولا الخروج، لا إنارة ولا شخوص ثابتين، إلى درجة أنك يمكن أن تجد نفسك، فجأة وبدون مقدمات ممثلا أو مخرجا لِتَعْبُرَ من هامش الجمهور إلى فضاء الخشبة، عفوا فلا خشبة هناك، فهو مسرح أفقي يتساوى فيه المنشط بالمتلقي، فلا مفاضلة إلا في مهارة "الحلايقي"، وهو المنشط الأساسي لدواليب الفرجة والساحر، الفيلسوف، الجاذب، الراقص، المغني، الحكواتي، القاص، الروائي، الناسك، الشاعر، المؤرخ...، والذي يمتلك مغناطيس جذب قلوب الناس وجذب القطع والاوراق النقدية.
"الجاوي"، هكذا كنا نسميه، مازلت أذكر تقاسيم وجهه ولونه الداكن كسمرة الأرض، لا أسنان أمامية هناك، يضع جرابه بحركة ماهرة وسط الحلقة، ينزع جلبابه بطريقة مضحكة...، آخذ مكاني بشكل ليس اعتباطيا بالطبع، فلا يمكن أن تكون الشمس مقابلة لوجهي الصغير، فلن أسمح أن يتحول تركيزي عن متابعة تفاصيل التفاصيل، تحت أي ظرف مناخي كان، ولو كانت الأعاصير، كما لا يمكن بالطبع ان أكون في مرمى بصر "الجاوي"، خشية أن أتحوّل إلى موضوع هزلي، فأنا أجلس الآن القرفصاء وقد أصبحت خارج الزمان وحتى المكان المحيط بنا، إننا نسافر فعلا إلى مَجَرَّةِ "الجاوي"، بطل أزليتنا الذي نتحلق حول حكاياه الأسطورية، نساء وشيوخا وصبية، وعلى ذكر النساء، فرغم استغراق "الجاوي" في حكاياته المضحكة وسردياته الهزلية وقفشاته الكوميدية، والتي تكون أحيانا حتى في توصيف لباس أحد المتحلقين من الجمهور، يحدث أن ينعرج "الجاوي" إلى مقطع بإيحاءات جنسية تثير فضول رواد الحلقة ويزداد تركيزنا اتِّقَاداً، والأكيد أن بعض النسوة تُشِحْنَ بوجوههن جانبا، إظهاراً لبعض الحِشمة، لكن الأكيد أيضا أنهن لا يُغَادِرْنَ الحلقة، فهناك تعاقد مبدئي بين كل الحضور، أن الجمع ينفض بانتهاء الحكي.
لا أتنبه لمضي الساعات الطوال وأنا في نفس وضع القرفصاء، ولا أخفيكم سرا أن المقاطع التي كانت تنفرنا في دينامية أطوار الحلقة، حين يستطيع "الجاوي"، بمهارة متناهية واحتيال ذكي أن يقطع حبل السرد في مقطع مفصلي جدا، ليضع المتحلقين في وضع مُحرِجٍ جدا، ويساوم استمرار الحكي بجمع القطع النقدية والورقية بالطبع، وكلما اقترب من السقف المعلوم طلب الاستزادة للوصول لسقف أعلى، تُضْطَرُّ في الأخير لمد يدك إلى جيبك طواعية لتمده بآخر قطعة نقدية بجيبك الصغير، ليستمر الحكي، فلمفعول السرد الجمالي أثر السحر والامتلاك.
توشك الشمس على المغيب، يستودعنا "الجاوي" السلام إلى لقاء آخر، يلبس جلبابه، وينتعل حذاءه، يحصي "ثروة" يومه ويضعها بجرابه السحري، فيتمنى ذاك الصبي وهو لا يزال في وضع القرفصاء لو أن الشمس أمهلتنا هُنيهَات حتى نكمل الحكاية الأخيرة عن الجنية التي تزوجت فلاحا أعرج...