من الأمور التي انضافت إلى ثقافتي العامة واستيعابي، بعد مدة طويلة من الإحساس بها وعيشها، ما يصطلح عليه علماء النفس بالترسخ ancrage، حيث تترسخ في الذهن مجموعة من الأحكام مرتبطة بالإحساس الأول أو الارتسام الأول الذي تشكل لدينا في العلاقة بالأشياء والقرارات، وهو عملية نفسية بالغة التعقيد، تساهم في تكوين آرائنا حول الأوضاع والأماكن والأشياء.
مناسبة هاته المقدمة الطللية، أنه حين غوصي في علاقة صِبايَ بالكيف، أكتشف العجب، فمنذ الطفولة وجدت أن مِخيالي يربط بشكل لصيق تدخين الكيف بطقوس الفرَّان التقليدي المغربي (الفرن الشعبي)، فرائحة الكيف وللوهلة الأولى، ولحدود اللحظة، تُحِيلُني على طقوس صاحب الفرن (الحفايري)، وهو يُفرغ عجين الوصلات (الطبق الخشبي)، بطريقة ماهرة وبسرعة فائقة، كأنه لاعب محترف من زمن سيرك موسكو.. ويتم إفراغ الوصلات، باستيطان أقراص العجين مكانها في بيت النار، إنها جهنم مشتعلة بمنطقٍ حلالٍ، فيها بأس شديد ومنافع للناس، هي جهنم التي غذت ملايين المغاربة..
عند إغلاق بيت النار، فقد انتهت المرحلة الأولى، أما ما بعدها فهو وقت مستقطع، تبدأ فيه طقوس الكيف.. لوح خشبي، عفوا ليس لوح الخبز، بل لوح متين من الخشب لتقطيع نبتة القنب الهندي وأوراق التبغ الطبيعي (طابا)، يحول "الحفايري" (صاحب الفرن) هذا المزيج إلى جزيئات صغيرة، بنفس المهارة والحرفية والسكين يتلاعب بين يديه بشكل بارع يضاهي أمهر طباخي العالم وهم يقطعون الخضر والفواكه.. لم نخرج عن السياق.. فنحن في نفس عالم النباتات.. فقط لم تُتَح الفرصة لصاحب الفرن أن يتبوأ منصات "الماستر-شاف".
أثناء إعداد الوصفة السحرية، يتوقف الساحر الماهر، هنيهات، ليملأ غليونه (السبسي)، بعد أن يحشو رأسه الأسود (الشقف) بالكيف الذي يخرجه من كيس جلدي صغير (المطوي) بعناية بالغة، كأنه يتلمس حبيبات تِبْرٍ نفيسة.. يشعل رأس الغليون (الشقف) بعود الثقاب، وليس بأية قداحة عصرية..، فالطقس الطبيعي يقتضي عود الثقاب (لوقيد) الحامل للشعار الوطني الخالد المخلد "إنكم باستعمالكم للمواد المغربية تساهمون في اقتصاد البلد"، والكل "بيو". وأتذكر بذلك مرويات العلامة الناصري في كتاب الاستقصاء، حول غزو "تاباغا" (التبغ الأجنبي) للأسواق المغربية، وكذا مواجهة المغاربة في حقبة سابقة لغزو التبغ كمنتوج استعماري للمغرب، بتشجيع تدخين الكيف كمنتوج محلي مغربي وكنوع من المقاومة المدنية..
كان ذاك الطفل، الذي كنته، يجلس القرفصاء مبهورا بهذا الطقس السحري الغرائبي، دفءُ الفران، الصحبة الدافئة لأهل القرية البسطاء، ودفءُ رائحة الكيف وهي تداعب رئتَيَّ بانتشاء لا مثيل له.. ويبدأ الغليون في الدوران بين الكبار من يد إلى يد، فملكية الكيف جماعية.. إن المنتوج ووسائل الإنتاج الكيفية مشاعة في مملكة الفران.. ارتخاء.. احترام لأقصى الحدود للحضور.. مهنية وحرفية مبهرة في إعداد الخبز وتسلمه بدقة متناسقة.. رغم تعدد "الوصلات" واختلاف أصحابها والألوان المزركشة والمتباينة لمناديل الخبز حسب كل أسرة.. إنه العالم العجائبي لتدخين الكيف، الذي لم يكن يحتاج لتطبيع وسط الأسر المغربية، لأنه كان أصلا طبيعيا.. ومصاحبا لكؤوس الشاي المعتقة (الدكة).
لم تنته علاقتي بالكيف، بمرحلة الطفولة، بل لا أخفي أنه كان جزءًا من المراحل الأولى لشبابي، حين كنا نختفي بجنبات الفران، لإعادة نفس الطقس الغرائبي، الذي يفتح عوالم متخيلة في غاية البهاء والانتشاء، وهو محكي من السيرة الذاتية لجزء مهم من المغاربة، يُدخلونه أحيانا إلى قبو الطابو، لكن الكيف واقعيا، هو جزء من النسيج المجتمعي الاعتيادي.. هي ليست دعوة مفتوحة لدخول عوالمه.. لكنه مقارنةً بمخاطر السيجارة والمخدرات الصلبة والبيضاء، والحقن والحبوب المهلوسة، هو منتوج طبيعيي نباتي أخف ضررا.. هو من باب المقارنات كم قلت..
وأنا أتابع مستجدات تقنين القنب الهندي، يستفيق في دواخلي ترسخُ رائحة الكيف في مخيال ذلك الطفل الذي تلذذ نشوة رائحة "السبسي" وسط نسيج المجتمع المغربي، حيث كان الفران جزءا مهما من ذاكرتي الحكواتية.