الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

يوسف فاضل كما يكتب النثر

 
 
محمد الهرادي
 
 
يطل من شرفة بيته في الطابق الأول، تنفتح كوة بين كتل الغمام ويسطع ضوء الصباح، يشاهد عصبة كلاب تعبر الطريق.. خمسة كلاب بألوان فاتحة يقودها كلب ضخم ببقع سوداء، يلتفت الضخم من حين لآخر إلى أفراد عصابته ويزمجر بكلام ما.
 
تظهر على الناصية كلبة مشردة أخرى تسير بلا هدف، ينبح الزعيم ويتجه نحوها، يتبعه القطيع.. جرْو صغير خرج من خلف جدار متهدم والتحق بهم، لا شك أنه عضو في العصابة، يدس أنفه في المؤخرات أمامه دون أن يجد معارضة.. تبتعد الكلبة وتلتجئ إلى منحدر الغابة القريبة، ربما فضلت الانسحاب بدل مواجهة العصابة. يتوقف الضخم ويغير اتجاهه صامتا، صمت مقابل صمت، لكنه يزمجر من حين لآخر غاضبا، ذيله لا يتوقف عن الحركة، يقول شيئا ما، لكن لا أحد يعرف ما يقول بالضبط.
 
حين يكون يوسف فاضل أمام الحاسوب ينقر بأصابعه على مربعات الحروف حيث تسكن الكلمات يشبه نسرا أصلع يقيم في أحد أسطح المدينة
 
وإذن، كيف يمكن للواقف على الشرفة أن يفهم ما يقول الضخم من خلال زمجرته ونباحه وحركة ذيله؟ بأية طريقة يستطيع أن يقرأ ما يدور في رأسه، ويروي لنا قصته الكاملة؟
 
هنا تذكر الكلبة هندة، في هذه اللحظة الفاصلة بين الواقع واحتمالات التحوّل تذكرها، وتذكر الطائر الأزرق الذي يحلق بجانب صاحبه في الرواية، وتذكر بالطبع يوسف فاضل. رآه بعين خياله أمام الحاسوب ينقر بأصابعه على مربعات الحروف حيث تسكن الكلمات، يشبه نسرا أصلع يقيم في أحد أسطح المدينة، وهو إلى جانب ذلك يلتقط الحب، يلتقط اللقط المنثور، حبة بعد حبة، وحرفا بعد حرف، نقطة ثم جملة وبعدها نقطة، نقطة بعد نقطة، ولا يشبع.. يجمعها ويؤلف بينها ويمنحها المعنى وينثرها من جديد نحونا، نحن القراء، هو لا يتوقف عن النقر، ونحن نلتقط النثر ولا نشبع...
 
بين الاعتقال والرغبة في الحرية توجد قصة هندة التي لا تختلف قصتها عن باقي الشخصيات التي تعيش جميعها وضعية اعتقال مادي أو رمزي
 
لماذا لا يشبع يوسف الذي يلتقط الحب؟ الجواب بسيط: لأنه يكتب النثر، والنثر بطبيعته لا يشبع، ولا أحد يشبع من التقاط المعاني المنثورة على الطريق، لكن كيف تأتّى للكلبة هندة أن تفكر وتروي حكايتها بالنثر؟ هل فكرت وهي تروي قصتها (شهادتها) أنها ليست مجرد "كلبة فاسقة"، بل واحدة من سكان "مستعمرة العقاب"، وتعيش نفس مصير المعتقلين؟ أم أنها امتداد للسجانين: بنغازي، بابا علي، الكومندار، والسجان الأكبر..؟
 
لنتأمل ما تقوله هندة في مفتتح كل فصل كتبه يوسف بلسانها:
 
1- "لم أفهم يوما تلك العربات الصغيرة التي كانت تتعقبنا في كل ركن من المدينة، هكذا، دون سبب، عربات صغيرة مموهة يقودها حصان بريء لا يدري أي عمل إجرامي يقوم به".
 
2- "أحوم في الغرفة وليس ببالي سوى فكرة الهروب منها، مشوشة البال وليس في ذهني غير رغبة واحدة" (الحرية، وإغاظة الكومندار بإهراق قنينة الويسكي).
 
بين الاعتقال والرغبة في الحرية توجد قصة هندة. لا تختلف قصة هندة عن باقي الشخصيات التي تعيش جميعها وضعية اعتقال مادي أو رمزي. لا يوجد شيء في التفاصيل التي يقدمها النثر غير الرغبة في الانتصار على الأسر مقابل الرغبة المضادة للسجان الأكبر، الذي يغتصب الحب ويمارس سياسة الموت البطيء على ضحاياه بطريقة سادية.
 
هندة، بهذا المعنى، ليست مجرد "كلبة" عادية، أو هي مجرد حيوان ينحاز لمعسكر دون آخر كما هو حال الكلب اليوناني المناضل لوكانيكوس، ذلك الحيوان الأشقر، الذي ساند المتظاهرين ضد قوى الشرطة اليونانية الظالمة بالنباح المتواصل وإبعاد القنابل المسيلة للدموع والعض، الشيء الذي استحق عليه ذلك الكرافيتي الجميل في أحد شوارع أثينا بعد وفاته، وكتب فيه إلى جانب صورته: كل الكلاب ستدخل الجنة.
 
لا يوجد في التفاصيل التي يقدمها النثر غير الرغبة في الانتصار على الأسر مقابل الرغبة المضادة للسجان الأكبر الذي يغتصب الحب ويمارس سياسة الموت البطيء على ضحاياه بطريقة سادية
 
هندة.. على العكس، بوعيها، ورؤيتها للأشياء، بنظرتها الخاصة وبنزعتها التحليلية لما يجري حولها تبدو أكثر إنسانية، إنها مستأنسة، كلبة إنسية، في هويتها وكينونتها ولغتها ووعيها.. ولا يخصها سوى الجسد الآدمي، ولكنها بالطبع لا تحتاج إليه (ماذا ستفعل به إذا كانت تمتلك اللغة؟)، ولا يحتاج إليها بالضرورة كي تقدم لنا شهادتها عبر النثر، النثر الذي كتبه يوسف فاضل.
 
النثر لا تتحدد هويته فقط باللغة، أو بالكلمات والتراكيب، يحتاج إضافة إلى ذلك وغيره، وبالضرورة، إلى الطريقة التي نصنع بها، أو نرتب بها، أو نعجن ونخبز بها هذه اللغة وهاته الكلمات لتنتج لنا أسلوبا، بل أسلوبا يسمو بقيمة النثر، لدرجة أن هذا النثر يصير عند صقله نثرا بلا شوائب، نثرا خالصا، نثر النثر.. نثرا يمكنك تذوقه والتلذذ به دون حاجة إلى استعمال عطرية الشعر، أو نكهات الداما التي تذوب بسرعة لتمنحنا المحسنات والتشبيهات وأشكالا مختلفة من الحشو الهجين.
 
نثر يوسف فاضل يخرج من مدرسة الحياة وليس من بطون الكتب، وهو مثل مطرقة الحداد، يطرق به على اللغة الساخنة بين يديه كي تطاوعه وتلين، وكي يتجنب أيضا إخفاقات النثر وصعوباته، وذلك قبل أن تكتب وتبرد وتصير صلبة من جديد، لكن صلابتها هذه المرة رقيقة حادة رقة حد السيف (دون أن ننسى أن أكثر أنواع النثر جفافا يحتوي على قدر معين من الشاعرية). أفتح [الآن] الرواية بشكل عشوائي وأقرأ ما يلي: "أعادها الكومندار إلى مكانها وضرب كأسه بكأسها وضحكت وانتهى الأمر"، مجرد جملة من بين آلاف الجمل تذكرنا بتلك الرسوم الأولى التي تحكي وتعلن عن بدايات النثر، تقول الكتابة القديمة بالرسم: "أرفع الرمح، أرمي الرمح، يموت الغزال"، حركة وفعل وردة فعل ونتيجة.. الفعل والوسيلة والغاية، والواو في عبارة يوسف السابقة تنوب أحيانا عن الفاصلة، لكن نادرا ما يحدث ذلك، فهو يكتب جملا عارية بلا زوائد، تقدم لنا الشروح والأفعال والوقائع وما يحوّم في الذهن. وإدراك الأشياء لا يتم عن طريق أفعال الحواس (رأى، سمع، نظر، لاحظ..)، بل عن طريق عمل الذاكرة وتفكيك الأفكار. الكلمات المصدرية وكلمات التشبيه والوصف والإضافة نادرة، باردة، محدودة الاستعمال.. جمل قصيرة ووقفات أشبه بوقفات الكتابة الشعرية. ولكنها ليست كذلك لأننا في صميم النثر، ولا يوجد ميل في هذا النثر لأدوات الوصل وظروف الزمان والمكان والذي والتي.. حرص شديد على عدم السقوط (أو الصعود) في إغراءات لغة الشعر التي تقفز على الوسائل بحثا عن الغاية. الغاية هنا هي اللغة، الغاية في الشعر هي الكلمات الحبلى بالأسرار والتأويلات، أما في النثر فهي وسيلة لتوصيل المعنى. وأخيرا، لو كان بإمكان يوسف أن يقتصد في اللغة وينظف بعض كلماته من "ال" التعريفية لأزالها بدون تردد، لكنه لا يستطيع بحكم الضرورة النحوية.
 
هذا النثر المصفى الذي يواكب ضربات القلب ويتك. تك. تك. تك.. مثل ساعة لها قلب نابض، يخلق إيقاعا داخليا، ليس منعزلا أو منفصلا عن موضوعه، وما يميزه ليس الموضوع النبيل، ولكن بالطريقة التي يحبل بها الزمن بتفاصيل الموضوع وبأحداثه ووقائعه.
 
نثر يوسف فاضل يخرج من مدرسة الحياة وليس من بطون الكتب وهو مثل مطرقة الحداد يطرق به على اللغة الساخنة بين يديه كي تطاوعه وتلين
 
وإذن، في هذه الحديقة النثرية ينمو سرد الكلبة هندة، التي قدمت لنا فصلا فريدا ومثيرا عن السجان الأكبر، الذي أهدى محمد الركاب تابوتا أنيقا بعد موته، بنظرتها من الأسفل تغير الزاوية التي "ينظر" منها الآخرون إلى التاريخ وواقع الحال. تغير العدسة والفلتر والإكسسوار والإضاءة والفضاء وتفاصيل لغة الحكي ومعانيه، وتمنحنا نثرا بمواصفات لا نجدها في تجارب آخرين استعملوا الحيوان كهوية وليس كقناع، لا بد أنها كلبة ذكية، مناضلة بمعنى ما.
 
فكر في كل ذلك وغيره، واكتشف أن الكلاب الخمسة، الذين يتبعهم جرو صغير سادس اختفوا من مشهد الشرفة. لم يتركوا خلفهم أي معنى يمكن اصطياده بالنثر. هكذا قال.. اقترب من أص نبات موضوع على حافة الجدار الفاصل، تأمل النبتة ورأى شكلها الشبيه بشجيرة. تربة وساق وغصينات متفرعة وأخرى أصغر منها تعلو صاعدة من أسفل قامتها، وكلما علت النبتة تولدت منها زهرة من بين البراعم المحمية بأوراق خضراء، ورأى غصينا تعلوه زهرة بيضاء وقال هذه هندة. فكر أن هذه الشجيرة أشبه برواية كتبها يوسف، وأن كل غصين منها هو واحد أو واحدة من شخصياته، يبدون متفرقين بأصواتهم وهيآتهم وحكاياتهم، لكنهم يلتقون في الفروع والأغصان، وتتمدد شرايينهم نحو الجذع ونحو الجذور، التي منها يتغذى موضوع الرواية. ثم فكر أيضا أن يوسف فاضل هو الذي خلق الشجيرة ونمّاها بقدرته وذكائه وموهبته رغم أنه ليس إلاها، أهو نصف إلاه؟ وفكر أيضا أن أجمل معنى للحرية يجده يوسف ككاتب وفنان هو حين يكتب، حين يختلي لينشئ العوالم في خلوة السطح. يوسف الذي تعرف هندة، بلا شك، أنه حين ينعزل وحيدا ليكتب، فلكي يتمسك بحريته. وربما حين لا يكتب لا يجد حريته ولا يتذوق متعتها في هذا المعتقل الكبير الذي لا يطاق، المعتقل الذي نعيش فيه جميعا.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(نص كلمة ألقيت خلال جلسة تكريم يوسف فاضل، المنظمة من طرف جماعة ديونيزوس بأحد مطاعم الدارالبيضاء أواخر عام 2017).