الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

رحيل مثقف قدير ومستنير بسبب الفيروس اللعين.. صفحات قد لا تعرفونها عن الفقيد نور الدين الصايل

 
محمد نجيب كومينة
 
 
برحيل نور الدين الصايل (ليلة الثلاثاء 15 دسمبر 2020)، يفقد المغرب معلمة وطنية أشاعت الأنوار على مدى 60 سنة تقريبا...
 
كان الأستاذ القدير والمثقف المستنير ذي المعرفة الموسوعية المؤطرة بمنظور فلسفي متناسق. وكان الناقد السنيمائي والسيناريست والرجل الذي أعطى للإنتاج السينمائي بالمغرب أفقا جديدا، سواء لدى توليه للمسؤولية في قنوات التلفزة المغربية أو الفرنسية أو في المركز السنيمائي المغربي، وكان قبل ذلك قائد النادي السينمائي بالرباط والجامعة الوطنية للأندية السنيمائية، التي طبعها بثقافته وجديته وعمله الدؤوب في مرحلة ازدهرت فيها الأندية السنيمائية بالمغرب، وشكلت مدرسة حقيقية للمعرفة والتذوق الفني والارتقاء بالوعي والنقاش المنضبط لقواعد الاختلاف والحوار الديمقراطي ولأخذ الكلمة أمام الجمهور.
 
على الصعيد الشخصي، التقيت بأستاذنا نور الدين الصايل لأول مرة بالنادي السنيمائي بالرباط (سينما الملكي، إذ كان هناك أيضا ناد بأكدال) في سبعينيات القرن الماضي، واقتربت منه أكثر في المهرجان الأول للسنيما الإفريقية سنة 1977، الذي كان مبادرا بإطلاقه ورعايته سيرا على نهج صديقه التونسي الطاهر شريعة، الذي كان وراء انطلاق مهرجان قرطاج، لكن علاقتنا تطورت وتوطدت بعد ذلك، حيث ساندني في تنظيم يوم الأرض في إطار مهرجان مسرح الهواة بمراكش سنة 1979، وسلمني النسخة الوحيدة من فيلم "كفر قاسم"، التي تتوفر عليها الجامعة الوطنية للأندية السنيمائية عن طريق محمد اشويكة، وبرمجنا عرض الفيلم بسنيما بلاص في الظروف، التي كانت مشحونة بعد التوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد، والتي كان من ضحاياها الشهيد محمد كرينة بأكادير.
 
كانت القضية الفلسطينية حاضرة باستمرار في الانشغالات اليومية لنور الدين الصايل، الذي لا يعرف الكثيرون أنه ساهم في تأسيس اليسار السبعيني، وبالأخص 23 مارس، وكان على ارتباط وثيق بقياداته الأولى كأحمد حرزني.
 
وجمعتنا بعد ذلك تجربتان...
 
تجربة جريدة أنوال، التي كان يشرف على صفحتها السنيمائية، بعدما أقنعه طالع السعود الأطلسي بذلك، وكنت دائم التنسيق معه في إعدادها وترجمة بعض موادها، مثلما كنت أنسق مع الرائع والكبير الآخر محمد القاسمي في ما يتعلق بصفحة الرسم (القاسمي لم يكن يحب تسمية الفنون التشكيلية)، والموسيقي القدير محمد الرايسي، الذي كان مشرفا على صفحة الموسيقى، والمسرحي الكبير محمد مسكين، الذي كان يعد صفحة المسرح، بعدما تمكنت من إنهاء تردده.
 
والتجربة الأخرى جاءت بعد تكليفه من طرف وزير الإعلام في بداية ثمانينيات القرن الماضي، الدكتور عبد اللطيف الفيلالي، بعد استشارة مع أبرز مثقفي البلد، وقتئذ، بإصلاح التلفزة المغربية، حيث لم يرغب الصايل في أن يكون مديرا، وأصر على التكفل بالبرامج فقط، مما دفع بالوزير إلى تعيين مدير البث وقتئذ السي ناصر مديرا إداريا والأستاذ الرائع محمد السلامي، أستاذ السمعي البصري في المعهد العالي للصحافة والخبير الأممي بعد ذلك، مديرا للأخبار. وكان الأمر يتعلق بأكبر عملية إصلاح وانفتاح للتلفزة المغربية، بعد محاولة أولى للوزير المثقف محمد العربي الخطابي، حيث أوقف الفيلالي بث أنشطة العمال والوزراء والبرقيات الملكية وكل ما لا يتضمن خبرا حقيقيا.
 
في هذه الظروف، طلب مني الأستاذ نور الدين الصايل الالتحاق به لمساعدته، فاستجبت. وبدأت الاشتغال معه، وكان أول تكليف هو تأطير برنامج "شواهد من الماضي"، الذي كان يعده الصديق المرحوم الرفاعي، لإخراجه من طابعه الإذاعي واستغلال الوثائق البصرية التوثيقية والتاريخية لتحويله إلى برنامج تلفزي، وهو ما كان بسرعة بفضل وثائق تم الحصول عليها من خارج المؤسسة وتركيبها الجيد من طرف العبقرية فتيحة بياضي وإعداد ديكور جديد بمساعدة الجغرافي محمد عياد، الأستاذ بكلية الآداب بالرباط وقتئذ، كما كنت أساعده في أشياء أخرى.
 
ومنذ التحاقي به، بدأت الحروب من طرف المافيا التي كانت تستهدف الأستاذ الصايل أكثر مما تستهدفني، وكانت ترغب في استعمالي ورقة للضغط عليه، بحيث قام المسؤول الإداري المحجوب ومعه مساعده بنيس بكل ما يمكنهم القيام به لعرقلة التحاقي إداريا، وكانت الشرطة في الباب تختلق المشاكل لعرقلة دخولي، وجعل المرحوم يتدخل كل مرة، وكان الشرطي وكاتب الكلمات سباطة يعتذر لي في كل مرة، لأن الأمر يتجاوزه، وقد حاولت المافيا في الأخير إيجاد مقلب عندما اتصل وزير الأوقاف وقتئذ المكي الناصري للمطالبة بوقف بث مسرحية المقامات للفنان الكبير الطيب الصديقي، التي اعتبرها "لمسخ" حسب ما قاله لي، وذلك في وقت كان الأستاذ الصايل غائبا، مراهنين على اصطدامي برجل له وزن في الدولة، لكنني اعتذرت له بأنني لست صاحب قرار، وبعد بضعة دقائق من توقف الاتصال، أوقفت المراقبة (نوضال) بث المسرحية بعد تلقيها لأوامر من جهة غير معروفة.
 
بعدها أخبرت الأستاذ الصايل أنني سأغادر، وأخبرته كذلك بما علمته بوسائلي الخاصة بأنهم يرغبون في ممارسة الضغط عليه وشغله عن مهمته باستعمال وضعيتي المعلقة، وأنا مدين للمرحوم سعد الله، رئيس قسم بوزارة الإعلام وقتئذ الذي أخبرني بما يحاك، لكنه رفض وقرر خوض المعركة بإصراره المعروف كيفما كانت النتيجة، لكنني كنت من جهتي حريصا على أن يستمر في إصلاح كبير أعده وبدأ التحضير لتنفيذه، لذلك قررت أن أحميه مني ومن نفسي، ومن حسن الحظ أنني وجدت في اليوم الموالي أن الشرطة قد تلقت أمرا بمنعي نهائيا من الدخول، فعدت من حيث أتيت دون أن أخبره بذلك في الحين.
 
نور الدين الصايل استعان بعد ذلك بمخرجين موظفين بالمؤسسة، المرحوم محمد الركاب وعبد القادر لقطع، بالإضافة إلى المرحوم ملين كاداري، كما تمكن من جلب مثقفين كمحمد دهان ومصطفى المسناوي ويوسف فاضل الذين ساهموا في إعداد برامج جديدة، لكن المافيا المرتبطة بالبوليس ظلت تترصده إلى أن وجدت الفرصة عندما تحدث المرحوم المهدي بنعبود في برنامج، وكان يحكي التاريخ، عن تردد بعض الطلبة المغاربة في تنظيم استقبال لمحمد الخامس لدى حلوله بفرنسا قادما من المنفى بمدغشقر إلى أن تتبين نوايا الفرنسيين، حيث جاءت الـ"دي إس تي"، وأخضعت الصايل للاستنطاق والاستفزاز. وكانت نهاية مشروع إصلاحي لم يتكرر بعد ذلك في دار البريهي، التي خضعت بعد ذلك مباشرة للداخلية، وصارت ملحقتها التي عمقت فيها جذور ثقافتها المستمرة إلى اليوم.
 
ما أريد أن أشير إليه هو أنني وجدت في الصايل ليس فقط المثقف الكبير وصاحب الرؤية البعيدة ورجل التدبير، بل وأيضا الرجل الشجاع القادر على هزم المتخلفين برفعته وشخصيته القوية وقدرته على الإقناع دون خوف على موقع أو امتياز.
 
تعازي لأسرته، وعلى رأسهم ابنه المحامي نجيب، الذي كانت صورته طفلا تزين مكتب الفقيد، إلى جانب بعض رسومه...