الغد 24 خبر الغد تقرأه اليوم

رئيس حكومة ينظر خلفه بغضب

 
محمد الهرادي
 
 
لا أحد منا يهتم بمعرفة اسمه أو انتمائه السياسي، إنه في نظر الوسط العريض الصامت مجرد نكرة في سجل القادة والزعماء المؤسسين، لم يفتح طريقا ولم يبن عمرانا، لا يهش ولا ينش، مناصروه يشبّهونه بالنهر الهادئ الذي تنعكس عليه أنوار الوسطية، بينما معارضوه السليطو اللسان يعتبرونه واحدا من فقهاء الظلام، يلعب بالبيض في عرين الضباع، يرتعد من الخوف حين يفكر في القسوة التي تلوح في الأفق، كائن رمادي ملولب الذهن لم يتبلور معدنه الكربوني، لزج وصامت مثل حلزون مسلول، ولكل هذه الأسباب هو في منزلة الكائن المتخيل، المنتسب إلى عالم الاحتمال.
 
معارضوه السليطو اللسان يعتبرونه واحدا من فقهاء الظلام يلعب بالبيض في عرين الضباع كائن رمادي ملولب الذهن لم يتبلور معدنه الكربوني
 
لذلك، ومنذ أيام، وحين ناولته موظفة كتابته الخاصة ملف الوزراء الجدد الذين ركبوا قطار الحكومة، وفي آخر محطة للوقوف قبل الصعود، نظرت إليه بجرأة وهي تبتسم، قالت له بأدب: "صباح الخير أستاذ". كشّر رئيس الحكومة عن أنيابه كعلامة تأنيب على قول كلمة "أستاذ" حافية، كان مزاجه سيئا ذلك الصباح، تجاهلها وعاد إلى أوراقه وهو يفكر في التوتر الحزبي الذي جعله يحك جلده، وفي معنى كلمة "الهيبة" التي راودت أحلامه أمس وخطرت بباله اللحظة، وفي أشياء أخرى خاصة، ربما لها علاقة بجده الذي ربط مصيره بأحمد الهيبة، ومجّده ذلك الجد وكرّسه رغم انقشاع الغيوم وتبدل الأحوال في العهد العزيزي. وربما لا.
 
يصبح رئيس الحكومة (المتخيل) عنيدا حرونا وصعب المراس وتغيب الابتسامة العريضة عن وجهه الملتحي كلما خاطبه أحد ما مستعملا كلمة "أستاذ"، وهي الكلمة المبتذلة التي أصبحت تطلق على كل الناس، من البقال والدركي، وصولا إلى مقدم الحومة ورئيس الحكومة. ربما يفضل مناداته بكلمات من قبيل "السيد الرئيس"، "معالي رئيس الحكومة"، "الدكتور"، "حضرة المحترم"، أو "السي الفقيه" على الأقل، ولأنه كتوم ومتوجس على الدوام، وعاجز أيضا عن تحديد هوية مشاعره تجاه الناس والأشياء، فقد انكمش ولاذ بالصمت وهو يقرأ نص مرسوم التعيينات، التي لم يخطر قسم منها بباله، واكتفى فقط بإطلاق تنهيدة من أنفه. كان وقتها يشيع الموظفة بنظرة فاحصة إلى ظهرها المتواضع فيما هي تتلكأ أثناء الخروج، ولم يتردد هذه المرة، قال لها بلهجة آمرة: اغلقي الباب وراءك، لم يضف كلمة "من فضلك"، ولذلك بدت هذه العبارة التي لا تحتوي على أي قدر من اللياقة كأنما هي مرادفة لشيء آخر يجول بحرية في نفسه الرمادية، وهو الانتقام، كان الأمر بإغلاق الباب يعني شيئا آخر: أخرجي لعنة الله عليك. وحين ترددت هذه العبارة في ذهنه شعر بعدها بارتياح.
 
إنه في نظر الوسط العريض الصامت مجرد نكرة في سجل القادة لم يفتح طريقا ولم يبن عمرانا ولا يهش ولا ينش
 
لا أحد يدري ما الذي يجول في عقل رئيس الحكومة، الذي يقف وحيدا في ملتقى الطرق، العالم من حوله يتحرك في كل اتجاه ويمضي إلى حال سبيله، بينما هو واقف بقلب بارد لا يتحرك لتنظيم السير. لا يمكن اكتشاف طريقة تفكيره أو معرفة مستويات استيعابه للمعلومات من حوله. لديه، كما يتصور الناقمون، آفة الشخص العادي الذي لا يمتلك أي طموح، إنهم بالتأكيد يتصورون أنه لا يعرف مقداره وقيمته في آلة الدولة الدوارة، ولذلك يرونه يتصرف مثل موظف خائف من رئيسه، خدوم لمعايير القرب التي تهتم بالشكليات وتقديس الأوامر، لا يحق له التفكير باستقلالية كما يتصور عن خطأ ولا يرغب مطلقا في إزعاج أحد. مجرد ملبّ لرغبات الآخرين الذين يتقرب إليهم بتواضعه الزائف. يعلم تماما أنه لا يمتلك ذكاء ومكر الوزير أحمد بن موسى "با حماد"، ولا نباهة وحدس العسكري القديم الهبيل البكاي، هذا الرجل الذي جعل من إعاقته قيمة مضافة في لحظة الانتقال، تقريبا بنفس الطريقة التي استثمر بها روزفلت إعاقته الجسدية والنفسية ليتحدى العجز. لكن رئيس الحكومة المفترض ينفي وجود أية إعاقات لديه.
 
********
 
- من أين قدمت يا عزيزنا رئيس الحكومة؟
- أنا من هنا. وجدت نفسي هنا بالصدفة. لم آت من مكان. ربما أكون قد قدمت من سوس، وربما أنتمي إلى جهة مجهولة.
- إلى أين أنت ذاهب يا عزيزنا رئيس الحكومة؟
- لا أدري. ركبت القطار منذ شهور. توقف القطار بنا هذه الأيام وصرنا أربعين. لا ندري جميعا إلى أين نسير؟
 
ثمة فروق عديدة بين ما يتمناه رئيس الحكومة وبين الأمر الواقع الذي لا يرتفع، ثمة فرق بين الماضي وبين الحاضر الذي كان منذ لحظة جزءا من المستقبل. ولو نظر رئيس الحكومة إلى المستقبل لن يجد إلا البياض، لا يوجد هدف في جيبه ولا يعرف إلى أين يسير، لذلك هو مضطر للنظر إلى الوراء. لكن ماذا يجد في هذا "الوراء"؟
 
تغيب الابتسامة العريضة عن وجهه الملتحي كلما خاطبه أحد بكلمة "أستاذ" التي أصبحت تطلق على كل الناس من البقال إلى مقدم الحومة ورئيس الحكومة
 
وجد نفسه معلقا في الفراغ. رأى نفسه في حلم يستحوذ على كيانه، ورأى نفسه يعود صبيا يقرأ "المعسول" في ركن غرفة فسيحة ببيت والده الفقيه. في فمه طعم مرارة. بحث عن الصفحات التي قد يكون كتبها المختار السوسي عن والده الفقيه امحمد بن عبد الله الكرسيفي المكنّى بالعثماني ولم يجدها. بحث مرارا دون جدوى بين أسماء الفقهاء والصالحين الأولين عن اسم يشبه اسمه ولم يجد أحدا. بدا له أنه معزول ومنبوذ وأن اللوز المرّ ما زال في فمه. وبدا له أيضا أن والده وإخوته زين الدين وصلاح الدين وتوفيق وخالد اختفوا جميعا، مُحيت أسماؤهم أيضا، ومع ذلك فهو يراهم يقطعون الطريق الضيق للجبل، يجتازون قمم الصخر، ثم ينحدرون مع السفح. لا يدري أكانوا سينجحون في الالتحاق بحركة أحمد الهيبة التي حدثت أوائل القرن قبل ميلادهم، أم أنهم كانوا يبحثون فقط عن "ألواح جزولة" وعما تبقى منها في القرى المحصنة بذرى الجبال، ثم أخيرا رأى والده يتحدث مع علال الفاسي، وهذا الأخير يناقش والده الذي كتب رسالة جامعية عن مدونة "ألواح جزولة" حين كان طالبا بدار الحديث الحسنية، لكن أذنيه التقطت بعض الكلام الطائر، ووجد أن علال الفاسي تكلم مع والده بإسهاب عن سياسة الظهير البربري، وأنه حينئذ كان يستعمل القانون العرفي في مجال السياسة، ويستنبط مفهوما للوطنية مستخلصا من الدين الممزوج بالتشريع وألواح جزولة!
 
لم يسأل والده أبدا عن جانبه البراغماتي وعن الطريقة التي "استعمل" بها علال الفاسي لنيل مراده العلمي، بل لم يعد يتذكره إلا نادرا، لكن حين تحوّم تلك الأزمات العابرة التي تطال علاقته مع إخوته الأصغر منه سنا يتذكر صورته الأولى، خصوصا حين كان صغيرا وهو مقيم بتافراوت، وبالضبط على بعد خطوات من مدرسة تنالت. لا يتذكر إلا الجدران المتهدمة خلف مساحات من تراب أحمر وشجيرات ضئيلة، يخطو بتردد الخائف نحو تلك الزاوية التي عيّنها له الوالد لقراءة ما في الكنانيش. لا يستطيع الولد الذي سيصير رئيسا للحكومة في المستقبل المجهول أن يفهم ما يقرأ، يشعر بالخزي يحفر له سردابا في كهوف روحه المعتمة. حتى الحفظ لا يجديه ولا يغنيه. حينها يفقد ثقته بنفسه، ويتحصن خلف فكرة أنه لن يستطيع أبدا تجاوز قامة والده، ليس في مرتبته كمدرس ترقى في سلم الوظيفة، بل في نزعته السوسية المتجذرة، نزعة ممتزجة بإسلام يخدم اللغة الأمازيغية ولا يخدمه.
 
- ما اسمك أيها الطفل الذي سيصير رئيسا للحكومة؟
- سع دّييييين... (ضحك).
- ماذا تريد أن تكون في المستقبل يا ولدي؟
- لا أعرف. ربما أكون فقيها مثل والدي. ربما أشتغل بالتجارة. أنا في الحقيقة لا أدري. الله أعلم. (ابتسامة عريضة).
- هل أنت مسلم أم أمازيغي؟
- .........؟؟؟ (ابتسامة عريضة).
 
********
 
كتب مؤرخ غير مختص في تاريخ الحركة الإسلامية هذه التوضيحات التي قد تنطبق أو لا تنطبق على رئيس الحكومة الحالي، وهي كما يلي:
 
"ما يطبع حياة وأفكار سعد الدين العثماني هو تلك الازدواجية التي تجعله يقف في منتصف الطريق بين عالمين، فلا هو ذلك المتزمت والمتعصب لأفكاره الدعوية، على الأقل كما صاغتها اجتهادات (حركة التوحيد والإصلاح)، ولا هو منفتح كلية على ذلك الإسلام السياسي، القادر على دمج قيم الحداثة وتعبيراتها الحياتية العصرية في قناعاته، والذي يرتكز أساسا على فصل الدين عن الدولة، وعلى تحديد مجال (إمارة المومنين)، وهي وسطية ذات طبيعة توفيقية لها فوائد جمة من الناحية السياسية، وربما هي التي منحته قوة دفع ليكون صورة إيقونية لحزب العدالة والتنمية عند تأسيسه، وقدمته كأمين عام لحزب إسلامي معتدل، قبل أن يشتد عود الحزب، ويختبر قوته التنظيمية في الشارع، وعلى الساحة الانتخابية.
 
وعادة ما يقارن سعد الدين العثماني بعض قناعاته الإسلامية بما يجري داخل الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا، ليستنتج أن الدين حاضر دوما في برامجها السياسية، وفي أنظمة الحكم الغربية، أحيانا يجد نفسه متفهما لدعوات الحزب الجمهوري الأمريكي الداعي إلى الحفاظ على قيم الأسرة وإلى منع الإجهاض، بمعنى آخر، يقدم العثماني نفسه خارج تلك الدوغمائية التي تطبع أفكار قيادات إخوانية أخرى داخل الحزب الذي ينتمي إليه، ومنحه ذلك قوة جذب لدى السلطة، وأسهم بشكل ما في الحد من الأضرار الممكنة لما بعد أحداث ماي 2003، وهدد الحزب في وجوده واستمراره.
 
وقتها، وهو على رأس (العدالة والتنمية)، الحزب الذي كان يوصف عند تأسيسه وما زال بأنه تنظيم إخواني يضم فقهاء الظلام، وعش لتفريخ (ثقافة) التطرف الديني، استطاع العثماني أن يخرج حزبه من عنق الزجاجة حين دفع بالنقاشات الداخلية إلى التمييز بين الدعوي والسياسي، وإلى الفصل بينهما، وإلى قطع وريد (حركة التوحيد والإصلاح)، التي كان لها دور الجهاز الإيديولوجي للحزب، وكانت وثيقة (حزب العدالة والتنمية: من الهوية إلى التدبير)، بمثابة انتقال نوعي في (تاريخ) هذا الحزب الوليد، والذي يعتبر العثماني أحد مؤسسيه الرئيسيين.
 
بحثَ عن الصفحات التي قد يكون كتبها المختار السوسي عن والده الفقيه امحمد بن عبد الله الكرسيفي المكنّى بالعثماني ولم يجدْها
 
وازدواجية العثماني لا تنعكس فقط على وسطيته السياسية داخل الحزب، وإنما هي جزء من تكوين ثقافي مستمر، ولعل والده الفقيه المرحوم محمد العثماني، الداعية والأستاذ السابق بكلية الشريعة بأكادير آيت ملول، كان هو النموذج الذي نقل إليه خصلة الانفتاح على أسئلة المجتمع ومحاولة التأثير فيه بـ(التي هي أحسن)، ونقل إليه تقاليد الأرومة السوسية التي تسخر العلم الشرعي لخدمة أهداف ملموسة، ومن المؤكد أن الأب الذي يمثل برمزيته ذلك الامتداد الفعلي لعائلة سوسية كانت تحترف العلم وتتفرغ إليه منذ أجيال، هو بمثابة مدرسة أولى لسعد الدين ولإخوته، وهو ما حصل بالفعل حين تعلم على يديه المبادئ الأساسية لعلوم العربية والفقه والشريعة.
 
لكن سعد الدين العثماني كان في البداية مترددا بين عالمين، من جهة، كان عليه أن ينمي في ذاته الإرث العائلي المتصل بالفقه والشريعة ومساءلة الأصول، وأن يبحث لنفسه، من جهة أخرى، عن طريق خاص يمنحه فرصة لائقة لضمان العيش، ولذلك حين توجه نحو دراسة الطب النفسي، وهي الدراسة التي ستنحرف عن مسارها نحو الطب العام الأكثر مردودية من الناحية المادية، لم يفرط في مواصلة دروسه الدينية وتعميقها عبر الالتحاق بدار الحديث الحسنية، ومتابعة اهتماماته بالفقه وأصوله، وكانت سنوات الثمانينيات إلى نهايتها هي الحد الفاصل بين شخصيتين تسكنان في ذات واحدة، أولاهما هي العثماني الفقيه المتخرج من دار الحديث، وثانيتهما هي العثماني المتخرج من كلية الطب، والشخصيتان معا اندمجتا في خطاب آخر هو خطاب الحركة الإسلامية، التي تجاوزت سقطات "الشبيبة الإسلامية" على عهد زعامة عبد الكريم مطيع، وأخذت تبحث لنفسها عن طريق آخر، أما العثماني فقد كان وقتها مجرد بذرة كامنة في الغيب، ففي نهاية 1975، وهو التاريخ الذي اغتيل فيه عمر بنجلون، كان العثماني هو ذلك الشاب اليافع الذي سيلتحق بقسم البكالوريا بثانوية عبد الله بن ياسين بإنزكان، لكن فترة الكمون لم تطل، لأنه في السنة التالية سيكتشف، وهو الشاب الغفل، عالم الرباط والدارالبيضاء، وسيجد فضاء متشعبا مختلفا عن المألوف، وسيجتاز العتبة الأولى نحو عالمه الجديد بحذر وتوجس شديدين".
 
********
 
ـــ من أنت يا عثماني؟
ـــ أنا رئيس الحكومة بقوة الدستور والشرعية الانتخابية.
ـــ هل أنت على ما يرام؟
ـــ قالوا لي ستكون على ما يرام طالما تسمع نصائحنا. وقالوا لي نحن سنساعدك في المهمة، لكن لا أدري.. أصبحت أتلفت حولي وأنظر خلفي على الدوام.. شيء ما يحدث ولا علم لي به، وقد يسبب لي الأذى..
ـــ هل أنت نادم يا عثماني؟
ـــ لا تطرح علي أي سؤال لأنني لا أملك أي جواب.. السؤال والجواب لصاحبه. أنا مصاب بحالة وسواس قهري وأتلفت حولي باستمرار. أنظر خلفي بغضب ولا أعرف ما السبب..