مادة الفلسفة بين تونس والمغرب.. بلد يحترم العقلانية والنقد والاختلاف وآخر لديه فلسفة light ظريفة وزوينة
الكاتب :
"الغد 24"
سعيد جعفر
عندا تقرأ موضوعا ضمن امتحانات البكالوريا في مادة الفلسفة في الشقيقة تونس (أنظر الصورة المرفقة مع المقال)، ستفهم الفرق كيف يتعال السياسيين في تونس وفي المغرب مع الشعبين:
شعب يُحترم حسه النقدي، وتعمل المدرسة، ومن خلالها مادة الفلسفة، على تعليمه قيم الانفتاح والعقلانية والرفض والنقد والاختلاف والتفلسف،
وشعب آخر يُمنع من الفلسفة في المقررات، لعدة سنوات، وعندما أعيدت تجدها فلسفة معلقة في السماء، وفي أحسن الحالات "فلسفة light"، فيها "غير ريحة" الفلسفة، وفي الغالب مواضيعها ومجزوءاتها فيها ما يكفي من "الدريبلاج"...
الوضوع 1: عندما تقرأ الموضوع الأول في امتحان الفلسفة في تونس "غادي تفهم البلان".
يقول الموضوع أو السؤال: هل من شأن العلم اليوم تفسير العالم؟
يعني أن المتعلم والمتعلمة عندما يكتبان، لابد أن يستحضرا، ثلا، كورونا والدواء والمختبرات، وربما سيستحضران التقنيات والأدوات التي يستعملانه، ن آلة حاسبة وهاتف وحاسوب وتلفزيون، ن أجل أن يتكل عن العال عبر هذه الوسائط...
الجميل في هذا النوع من الامتحانات والدروس أنه يساعد المتعلم (ة) على فهم الواقع أولا، ومن خلاله علومه وتقنياته، وربطها بالذات والعالم ومصيره. يعني أنها تساعده على ربط الواقع بالفكر، وبشكل دقيق تصبح الفلسفة مرتبطة بالواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والعلمي والثقافي والتكنولوجي، ماشي فلسفة كتعوم فالسما وفالفضاء، ولا تعبّر عن واقع التلميذ، وما يفكر فيه، إلا إذا كان الأستاذ (ة) متمكن من أدواته، ويفهم الواقع جيدا ويوظفه من خلال أمثلة منه.
مثلا، مفهومٌ ما، من قبيل الرغبة، بمحاوره كالرغبة والحاجة، والرغبة والإرادة، والرغبة والسعادة، ماذا يمكن أن يقدم للمتعلم (ة)؟ بخلال ما يمكن أن تقدمه دروس أخرى، ن قبيل درس المِلْكية، أو درس عن العولة، أو عن الديقراطية...
الموضوع 2: جاء في صيغة قولة، فحواها: "إن تهديد العولمة للكوني أشد خطورة من تهديدها للخصوصي"... والنص الفلسفي يتكلم على الديمقراطية والمواطنة، ومذيل بأسئلة حول نوع الديمقراطية، التي يدافع عنها الكاتب، وما قصده من ديمقراطية الكثرة وغيرها...
الوضوع 3: عبارة عن نص للفيلسوف الفرنسي جان ماري مولر، يتحدث عن الديمقراطية، وعن حكمة الشعب، وعن الحرية والمساواة، وعن بعض العوامل المهددة للديمقراطية، من قبيل طاعة المواطنين العمياء، التي اعتبرها أكثر تهديدا من عصيانهم...
مثل هذه الامتحانات تكون تتويجا لدروس وتعلمات في القسم، يعني أن المتعلمين التوانسة يقرأون في القسم عن العولمة، ويتكلمون عن آثارها وإيجابياتها وسلبياتها، ويتحدثون عن الديمقراطية والعلمانية، ويخوضون في ثورة البوعزيزي والانتخابات، ويتكلمون عن الإيديولوجيات الحزبية، وعن الحرية والمساواة والعدل وقيم الديمقراطية، وعيونهم على الواقع...
المقرر الدراسي المغربي لمادة الفلسفة ليس فيه شيء من هذا القبيل، وربما ليس فيه أي حديث عن الديمقراطية، ولهذا من العادي أن التعل الغربي لا يعرف شيئا ولا تعريفا للديمقراطية، وفعليا لا يعرف الأحزاب ولا إيديولوجياتها، ولا مفاهيم الحرية والمساواة والعدل وغيرها، فهي عنده مضبّبة تاما.
في الواقع، مادة الفلسفة، بالضبط، كانت ضحية التوازنات السياسية والأمنية، ولهذا تعرضت لكثير من الإقصاء والتضييق منذ السبعينيات، بتقليص حضورها وقصرها على الرباط وإغلاق معهد السوسيولوجيا في الرباط، وتفريخ عشرات الوحدات لشعبة الدراسات الإسلامية في كل الكليات المغربية.
ومع بدايات السنوات الأولى من الألفينية، بدأت السياسة التعليمية المغربية تجني نتائج تديين وأسلمة التعليم، من خلال انتشار الفكر الديني المتطرف، الذي وصل لحد تفجيرات الدارالبيضاء. وآنذاك، شرع التعليم في إعادة الاهتمام لمادة الفلسفة بتوظيف عدد كبير من الأساتذة، وتدريسها في الجذع المشترك، وتغيير المقررات، وذلك لنشر قيم العقل والنقد والإنسانية.
لكن، لحد الساعة، ما زال العقل السياسي لم يخرج من منطق التوازن، ولم يدخل في التربوي العلمي، ولهذا بقيت فالفلسفة عبارة عن بياضات، أولها أن هذه الفلسفة يدرسها التلاميذ مليئة بالإثنوغرافيا والأنثروبولوجيا وعلم النفس، مع بعض الفلسفة...
لماذا نجح المقرر، الذي كان معتمدا في السبعينيات (دروس الفلسفة لطلاب الباكالوريا المغربية)، والذي كان من وضع ثلاثة مفكرين مغاربة كبار، محمد عابد الجابري ومصطفى العمري وأحمد السطاتي؟ لأنه كان لديه منهج، ونسقي، ويعلم المتعلمين القيم المنهجية والنقد والإبستمولوجيا... كانت فيه دروس مثل الإبستمولوجيا وفلسفة العلوم والمنطق والملكية وغيرها، وبالتالي كان التلميذ يأخذ من هذه الدروس مهارات وقيما تجعله يقظا وممانعا ومواطنا...
غالبا الفلسفة اليوم لا تؤدي هذا الدور، لأن طبيعة الكفايات لا تجد طريقها السالكة إلى التلميذ، ولهذا لا تعكس سلوكات التلاميذ قيم الفلسفة وكفاياتها، التي يدرسها في القسم... وفي هذا الصدد، أشير أولا إلى أنه ليست لدي أفكار كبيرة في الوضوع، وإنما أود إثارة هذه المعضلة، والتنبيه إلى خطورتها، وبعد ذلك ممكن أن أقدم 3 مقترحات كوّنتها بعد حوالي 16 عاما من تدريس مادة الفلسفة، أقدمها للقراء:
1- تعديل مقررات مادة الفلسفة لكي تصبح أكثر تركيزا على تعليم التلاميذ الكفايات المنهجية خصوصا، فعوض أن يكون الحرص على تعليمه المضامين، أن نركز على تعليمه منهج التفكير والنقد والتحليل والتركيب وغيرها...
2- زيادة معامل مادة الفلسفة لتصبح على الأقل 3 عوض 2، لأنه لا يعقل أن معاملات مواد غير إشهادية تصل إلى 4 ومعامل الفلسفة، التي هي مادة إشهادية، هو 2.
3- التخلي عن الحفاظ على 3 اختيارات في الامتحان الوطني لمادة الفلسفة (سؤال وقولة ونص فلسفي)، فهي غير مفيدة تربويا وتقويميا، لأنه لا يعقل امتحان التلامذ بـ3 أسئلة في 4 مجزوءات، بحيث يُمتحن التلميذ، في بعض المرات، في 3 مجزوءات، مما يجعله يكتفي بتحضير مجزوءتين فقط.
فهذا تقويم غير عملي يترك المتعلم يستهين بجدوى وفعالية المادة والحاجة إليها، وإذا أضفنا أن معاملات الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية وعلوم المهندس، التي يمتحن فيها التلميذ مع الفلسفة في الباكالوريا، حسب تخصصه، تكون معاملاتها بين 10 و4، مقابل 2 للفلسفة، فمن الطبيعي أن التلميذ يهمل مادة الفلسفة، وربما "كيحكرها"، وبالتالي نعلمه كفاية نقيض ما تعلمه الفلسفة...